قصة المصائر المتشابكة للقومية العربية والصحوة الإسلامية

قصة المصائر المتشابكة للقومية العربية والصحوة الإسلامية


24/06/2021

كي نعيد إلى الذاكرة بعض بديهيات التاريخ، سيكون علينا كشف الخلفية التي جرى عليها بعث واختلاق القومية العربية؛ فتحت ضغط فقدان الهوية الثقافية بفعل الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، طورت الحركات القومية في العالم العربي إستراتيجية ترمي للحفاظ على هوية المجتمع في مواجهة النهب والإكراه الثقافي الذي يمارسه الآخر المحتل، وكانت السمة العامة لهذه الإستراتيجية مزدوجة؛ فهي تمثل نوعاً من المقاومة للهيمنة الأجنبية، في وقت تنزع فيه باستمرار للانغلاق على الذات بهدف جعل المجتمع أكثر تجانساً وأكثر قابلية للانقياد.

اقرأ أيضاً: خسائر قضية فلسطين بين القومية والإسلاموية
بسبب البعد الثاني بالذات تحولت القومية إلى مظلةٍ للقمع، وسارت كلّ الحركات القومية في العالم العربي في خط مستقيم، يبدأ بالاستقلال وينتهي بدولة الأمن القومي، وفق النمطين التقليديين لهذا النوع من الدول: أمن قومي ورفاه، أو أمن قومي ونيو ليبرالية (مؤخراً)، وفي الحالتين؛ لم تعمل الدولة وفق أيّة نظرية علمانية مكتملة الأركان؛ بل أناطت بالدين مهمتين متشابكتين: تعبئة الناس وراء أهدافها، والسيطرة عليهم، وكانت هذه هي المفارقة العربية بامتياز: الدولة هي المنظمة العلمانية، على المستوى السياسي، الوحيدة في المجتمع، ومع ذلك تهندس علاقتها به على أسسٍ جوهرها ديني.
حافظت القومية على العلمانية في سوريا، بحكم سيطرة الأقلية العلوية على حزب البعث

شعرة معاوية في مغازل الرفاق
أسهمت مشاركة الصفوة المسيحية والعلوية في تأسيس الأيديولوجيا القومية في المشرق العربي، على غرار النمطين الألماني والفرنسي، في دفع هذه الأيديولوجيا نحو الابتعاد عن مرجعية الدين وصياغة نظرية شبه علمانية ستحتاج إلى صراع قومي مع الدولة العبرية المزروعة في البيئة الجيوسياسية العربية، كي تصل إلى السلطة، في ظلّ تصاعد الشعور الشعبي المعادي للقومية اليهودية في صورتها الصهيونية.

اهتم عبد الناصر بالمسألة الدينية ودمجها داخل خطابه التحرري لكن بحذر شديد، واستخدم الأزهر في معركته ضد جماعة الإخوان

حافظت القومية، في نسختها البعثية، على العلمانية في سوريا، بحكم سيطرة الأقلية العلوية على حزب البعث، ومن ثّم على الحكم، ولم يكن القيام بأي تحول نحو الإسلام إلا مجازفة ستطيح بسلطتها، على العكس من البعث العراقي؛ الذي لم يجد خطورة أو حساسية سياسية من السير نحو الأسلمة، كما فعل.
هذا الوضع سيختلف تماماً في المغرب العربي الذي أخذت فيه القومية بعداً دينياً واضحاً، على مدار النصف الأول من القرن العشرين؛ بسبب هشاشة هيمنة الخلافة العثمانية على المغرب، في وقت تزايد فيه الحضور الضاغط للهيمنة الغربية على البلاد، حسب استبصار المفكر فهمي جدعان، فضلاً عن غياب أيّة نخبة مسيحية فاعلة لها مصلحة سياسية في أن تحكم وفق منظومة علمانية، ورغم تأثر الوجدان الشعبي المغاربي بالقومية في الخمسينيات والستينيات، إلا أنّ ذلك لم يسفر عن مشروع سياسي للوحدة العربية.

اقرأ أيضاً: لماذا تعتبر قومية البلوش إيران سلطة احتلال؟

بين الضفتين وقفت مصر؛ إذ جاءتها الموجة القومية متأخرة قليلاً بعد اكتمال ملامح الوطنية المصرية القطرية، واندماج النخبة المسيحية في الجماعة الوطنية، في النصف الأول من القرن العشرين، كما أنّ الكتلة المسيحية ذاتها كانت متسامحة نسبياً مع الحكم العثماني، بفضل نظام الطوائف الذي استفادت منه (جزئياً)، ورأت فيه عاملاً في الحفاظ على الجماعة القبطية من الذوبان في المجتمع، كما هو الحال إذا ما سادت نظرية علمانية تجعل المواطنة أساس الانتماء السياسي فتنحل عرى الطائفة.
أتت الموجة مع "نكبة 48" التي عجّلت بوصول الضباط الأحرار إلى السلطة، ومع الصعود السياسي للناصرية استمرت البنية التشريعية كاملةً لم تُمس، والتي صيغت وفقاً للتوازن المقام بين الأزهر والكنيسة والنخبة العلمانية في العقد الثاني من القرن العشرين، والذي بمقتضاه تختص الشريعة الإسلامية بالأحوال الشخصية فيما تختص العلمانية بالتشريعات المنظمة لباقي المجالات؛ إلا أنّ الدور السياسي للدين تغير إلى حد بعيد.

لم يعد عبد الناصر يأمل بعد النكسة بأكثر من استعادة سيناء المحتلة

استطاع النظام الناصري إنجاز تغييرات اقتصادية وسياسية ساهمت في تراجع هيمنة التشكيلات الاجتماعية والجهاز الأخلاقي التقليدي والثقافة الدينية، لكنه لم يحوّلها جذرياً، بل استثمر فيها، فاحتفظت تلك التشكيلات بقوتها في المجتمع لتظل أغلبية السكان نهباً ورهناً لخيارات الدين والطائفة والقبيلة، بموازاة نخبٍ تعلمت وتعلمنت في الغرب وتمنت أن تجعل الوطن على صورته.

اقرأ أيضاً: قانون القومية اليهودية: ماذا ظلّ من ديمقراطية إسرائيل المزعومة؟

اهتم عبد الناصر بالمسألة الدينية ودمجها داخل خطابه التحرري لكن بحذر شديد، وفقط في المنعطفات السياسية، استخدم الأزهر في معركته ضد جماعة الإخوان لكنه وازن الأمر بقوة أجهزة الدولة الأيديولوجيا ذات الطابع العلماني دون أن يصل لفرض منظومة لائكية تعطي فرصة للحركة الإسلامية، في الاستدلال على اتهامه بالعداء للإسلام. في المحصلة؛ كان يعطي للخطابات الإسلامية شرعية الوجود من الناحية النظرية، رغم قمعها على المستوى الحركي.
ظلت فرصة الإسلام السياسي في الوصول للسلطة ضئيلة علمياً؛ بحكم هذا القمع بالذات وبسببٍ من، وهذا هو الأساس، الهيمنة السياسية والأيديولوجية للقومية التي كانت ترى في الإسلام السياسي منافساً رجعياً، فضلاً عن مركزية وفاعلية دولة الرفاه الناصرية التي أمنت لنفسها قاعدة اجتماعية عريضة.

اقرأ أيضاً: تركيا والقومية المحافظة الجديدة
التأثيرات الجارفة للناصرية غطت ليبيا بالكامل؛ إذ قامت مجموعة من الضباط الليبيين المتأثرين بالضباط الأحرار في مصر، يرأسهم معمر القذافي، بانقلاب ضدّ الملكية، كانت الصورة مشوشة في ذهن هؤلاء الضباط وبالتحديد في ذهن قائدهم القذافي الذي يرى في عبد الناصر أباً روحياً؛ إذ لم يعد عبد الناصر يأمل بعد النكسة بأكثر من استعادة سيناء المحتلة، واتضحت تماماً حدود فاعلية القومية السياسية.
أدركت ذلك حركة الجبهة الشعبية في فلسطين واليمن فحاولت تجذير نفسها في أيديولوجيا أكثر تماسكاً وفاعلية وذهبت إلى الماركسية، أما القذافي فتحرك نحو الإسلام، ولم تكن مفارقة أن يأتي التحول من تلميذ عبد الناصر بالذات، فكان بمثابة مرحلة انتقالية بين القومية ذات الطابع العلماني والقومية المغمّسة بالدين.

كان القذافي أول من أضفى الطابع الإسلامي على القومية العربية
كان القذافي أول من أضفى الطابع الإسلامي على القومية العربية، وغَيَّر مؤشر بوصلتها من العلمانية إلى المرجعية الدينية، وأشرف بنفسه على عملية أسلمة جزئية للخطاب السياسي في بلده وبعض التشريعات، وعبّر عن ذلك بمقولة قريبة جداً من شعار الإخوان المسلمين "القرآن دستورنا" وهي: "القرآن قانون المجتمع".

اقرأ أيضاً: ساطع الحصري: فيلسوف القومية العربية
أمِلَ القذافي في المطابقة بين العروبة والإسلام، وعاش على هذا الأمل طويلاً، وعبّر عنه في مناسبات عدة، أشهرها لدى زيارته إلى لبنان، عام 1980؛ حين خرج على كلّ البروتكولات والأعراف الرسمية، بدعوته للمسيحيين اللبنانيين والعرب عموماً لاعتناق الإسلام، واصفاً إياهم بـ "روح أوروبية في جسد عربي" وقام بمصادرة فريدة من نوعها حينئذٍ، بقوله: "من الشاذ أن يكون الشخص مسيحياً وعربياً في آن"!
المفارقة الحقيقة؛ أنّ الدور الخطير الذي لعبه القذافي في التحول من القومية إلى الإسلام، وفي وقت مبكر جداً منذ أوائل السبعينيات، ظلّ مطموراً حتى اللحظة؛ بسبب عدائه لجماعة الإخوان المسلمين "المتآمرين ضدّ عبد الناصر" وفق معجمه السياسي، ومن ثم لم يحسب بتاتاً ومن أيّ وجه على الأصولية الصاعدة.

تكفين القومية وارتداء عباءتها
العنصر الديني الذي احتفظت به القومية العربية (في نسختها الناصرية) ضمن بنيتها الأيديولوجية، رغم ابتعادها عن الإسلام كإطار مرجعي سيتضخم ويتفاقم مع مجيء السبعينيات وتقلباتها؛ إذ خلعت دولة الأمن القومي رداءها شبه العلماني، وبدا للذين افترضوا أنّ هناك دولاً ومجتمعاتٍ قد عُلمنت فعلاً وأنّ ثورةً في القيم قد أُنجزت سلفاً، هشاشة التحديث وهامشيته.

وقفت متاريس اجتماعية تحول دون سيطرة الإسلام السياسي على السلطة، أهمّها انغلاق النخب الحاكمة على نفسها

كلّ الطرق كانت تؤدي بالإسلام السياسي إلى الاستحواذ على المكانة التاريخية للناصرية؛ عبر توظيف الآليات الشعبوية نفسها في تحريك الجماهير سياسياً، وشحنها نفسياً ضدّ "الغرب"، كان العداء للغرب، ككيان هلامي، هو الكود المشترك بين الأيديولوجيتين، لكن الإسلام السياسي ميّز نفسه بنبذ العلمانية التي طالما وسمت بها القومية، وفي سبيله لإنجاز ذلك؛ اتهَمَ القومية نفسها بعجزها عن إنجاز الاستقلال عن الاستعمار؛ بل وبالذيلية الثقافية له، كانت ضربة في مقتل أيديولوجيا المبرر الوحيد لوجودها هو الاستقلال بالذات.
رأت الأصولية الصاعدة باسم الإسلام الناهض، في نفسها "الروح الحقيقية" للشعب الذي اُقتلع من جذوره وطُمست هويته، فحاولت خلق نخبة بديلة لبناء "دولة الإسلام" التي تعبّر بصدق عن العوام الذين ظلوا على فطرتهم الأولى "التي وُلدوا عليها".

اقرأ أيضاً: لماذا أثار جمال عبدالناصر الجدل في موريتانيا مؤخراً؟
سهّل الظرف الإقليمي من مهمتها؛ بات مشروع التحديث برمّته محلّ شكّ عاصف عقب النكسة، والثورة النفطية آتت أكلها، والأصوليون المنفيون في السعودية تحولوا إلى نخبة برجوازية متدينة ليست مدينة للدولة بشيء؛ بل طامحة لإزاحة النخبة الحاكمة التي بنت شرعيتها على تحقيق الاستقلال الوطني وهي تمرّ بأزهى مراحل تبعيّتها، صرفت هذه النخبة على الدعاية الدينية والتنظيم السياسي للإخوان بسخاء ووفرت الغطاء المالي للهيمنة المضادة الآتية من أسفل.
وقفت متاريس اجتماعية تحول دون سيطرة الإسلام السياسي على السلطة، أهمّها انغلاق النخبة الحاكمة على نفسها؛ مما حرم كوادر "النصر المنشود" من مراكمة الخبرات السياسية والإدارية اللازمة للحكم.

 

خمدت القوة الدافعة للصحوة مؤقتاً بفعل عقبات من هذا النوع، أتت الدفعة الكبرى من مكان آخر تماماً وغير متوقع بالمرة، من طهران، أثبت الإسلام السياسي الشيعي أنّ إقامة مملكة الله في الأرض ممكنة ومتاحة، وأنّها ليست مؤجلة إلى قيام الساعة، وأنّ تحدي القوى العظمى ممكن هو الآخر، وأنّ تحطيم نظام سياسي معزول اجتماعياً، ويمكن وصمه بالعلمانية (أو الكفر)، أسهل مما كان يُعتقد، وأنّ مبدأ الأمر ومنتهاه هو الشعب؛ فبدأت الصحوة بالانتباه إلى الشعب تمهيداً لاجتياح ثقافته وتحويلها بالكامل.

 

اقرأ أيضاً: جمال عبدالناصر يدير معارك الفيسبوك
صندوق النقد والبنك الدوليان جرّدا الحكومة من قطاعها الإنتاجي، وفُتحت السوق الوطنية أمام الشركات العالمية كي تتمكن من استغلاله بالشكل الأمثل، لم تكن الشركات وحدها في الحلبة، لعب الأصوليون في المساحات الجانبية منها، وفّروا فرصاً اقتصادية ضخمة لأبناء الفلاحين من خلال مؤسساتهم الاقتصادية، بنوا شبكة هائلة من المدارس ورياض الأطفال والمشافي، كلما رفعت الدولة يدها عن قطاعٍ وضعوا أيديهم عليه، الصحوة التي بدأت كاحتجاج على التغريب أصبحت تعيش حياة مستقلة تتطور ذاتياً بموازاة ومعية الدولة.
سقطت دولة الأمن القومي في المعضلة التي خلقتها بنفسها؛ فهي التي تخلت وبمحض إرادتها عن التنمية الاقتصادية وواجباتها الاجتماعية، وحطمت بذلك التوازن الاجتماعي، تاركةً الشعب في مرمى اقتصاد السمسرة والإفقار وشبكات العمل الخيري التَقَوي، ووجدت نفسها وجهاً لوجه مع الوحش الذي غذّته حتى كاد أن يبتلعها.

اقرأ أيضاً: الصحوة المتأسلمة هل يمكن أن تعود..؟
انقسمت الصحوة على نفسها، خالقةً بذلك متراساً تنظيمياً فيه انفصل الرأس الثوري عن قاعدته، ولم تكن هناك إمكانية للقفز على واقع الانقسام: برجوازية متدينة تميل إلى "الأخلاقوية"، والعمل الدعوي والسياسي المعتدل والمحسوب، وتخشى على امتيازاتها نفسها من أيّ حراك غير منضبط، وجماعات جهادية جعلت من الشباب الحضري الفقير وقوداً لها، استثمرت الدولة في المتراس الأخير، وسحقت الطليعة الجهادية، واستقطبت المعتدلين وسمحت لهم بهامش كبير في الحركة. في النهاية؛ وجدت نفسها مضطرة إلى ضخّ مزيد من جرعات الأسلمة في جيوب المجتمع، كي تتمكن من منافسة القادمين من الخلف، وسقط الشعب في الشرك المزدوج.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية