كورونا يفتح نافذة على تاريخ الحجر الصحي في وجه الأوبئة

كورونا يفتح نافذة على تاريخ الحجر الصحي في وجه الأوبئة


04/04/2020

الحبيب الأسود

يعود تاريخ الحجر الصحي إلى آلاف السنين، فالصينيون مثلا يذكرون أن ظهور أول قانون للحجر الصحي والوقاية من الأوبئة يعود إلى عهد أسرة شانغ التي حكمت مناطق في وادي النهر الأصفر خلال الفترة ما بين عامي 1766 قبل الميلاد و1122 قبل الميلاد، حيث أدرك الناس في ذلك الوقت أن بعض الأمراض كانت تنتقل بالعدوى، وأن عزل المصابين بها هو الحل الأفضل لعدم انتشارها بين الأصحاء.

يعود أول سجل رسمي صيني للمرضى إلى عهد أسرة تشو من سلالة زو، وقد رصد العديد من الأوبئة التي كانت معروفة آنذاك كالطاعون والزحار والإنفلونزا. وفي صيف العام 674 قبل الميلاد، كانت الكارثة الكبرى وهي وباء انتشر بشكل غير مسبوق. ومنذ ذلك الحين، استمرت سجلات المرض في الازدياد، علما وأن أغلب الأوبئة كانت تنتشر إما في فصل الربيع وإما في الصيف.

دور حكومي
كذلك، تذكر الكتب القديمة قصة ران جينغ تلميذ كونفوشيوس (551 قبل الميلاد/ 479 قبل الميلاد) الذي عزل نفسه عندما شعر بالمرض، فذهب المعلم الكبير لزيارته وعندما وصل إلى منزله، خاطبه من النافذة ثم غادر المكان، لأنه كان يعرف أنه في حالة حجر صحي.

أما تشين شي هوانغ الذي كان ملكا لولاية تشين من 246 قبل الميلاد إلى 221 قبل الميلاد وإمبراطورا لأسرة تشين من 221 قبل الميلاد إلى 210 قبل الميلاد، والذي يعود له الفضل في توحيد الدول الصينية الست الكبرى المتصارعة آنذاك، وفي بناء الجانب الأكبر من سور الصين العظيم، فقد أقر قانونا يقضي بإرسال الأشخاص المصابين بالجذام إلى منطقة الحجر الصحي الخاصة، ووضع عزل المصابين بالأمراض المعدية على المسار القانوني.

وينص قانون تشين على أنه ينبغي للحكومة أن تنشئ وكالة خاصة لعزل المصابين بالأمراض المعدية، ليكون بذلك أقدم سجل في التاريخ الصيني في هذا المجال ولتكون له أهمية كبيرة في تاريخ مكافحة الأمراض المعدية في العالم، نظرا لما تضمنه من إجراءات لا تختلف كثيرا عما تقوم به الحكومات الحالية ومن احترام لإنسانية المرضى.

كانت السلطات في ذاك الوقت قد أعطت للطب أهمية كبرى، وللأطباء كذلك استقلالية تامة عن السياسيين مما وفر رؤية مهمة للوقاية من الأوبئة، كالتوجيه بعدم تناول الفاكهة التي تعرضت للعض من الحشرات أو النمل أو سقطت على الأرض وعدم استعمال الأواني التي لمستها الفئران إلا بعد تطهيرها.

كما أولت الصين القديمة أهمية كبيرة للجمع بين الوقاية والسيطرة على الأمراض، حتى أنه يمكن إرجاع الوقاية من الأمراض المعدية بتوجيه من الطب الصيني التقليدي إلى أكثر من 2000 سنة مضت، من خلال العمل على تحسين “برّ الفرد”، أي مناعته بالمفهوم الحالي، وتجنب غزو الشرور الخارجية، أي ما يطلق عليه حاليا “العامل الممرض”.

ومن اللافت أن الصينيين القدامى تنبهوا إلى ما كانوا يسمونه الكلام السام، وهو ما يعني نقل الفايروسات عن طريق النفس أو رذاذ الفم من المريض عندما يتحدث إلى المقربين منه، كما كانوا لا يأكلون ولا يشربون مع المرضى ولا يستعملون أدواتهم وأوانيهم الخاصة.

الوباء واجهته كذلك أسرة هان الغربية وهي فرع من ثاني السلالات الإمبراطورية الصينية، التي حكمت الصين من 202 قبل الميلاد إلى أن تفككت سنة221 بعد الميلاد. واتخذت تلك الأسرة تدابير الحجر الصحي في الوقت المناسب لمنع انتقال العدوى.

كانت أسرتا تشين وهان متأثرتين بالتفكير الفلسفي التقليدي وتطور الطب التقليدي، لذلك أصبحت نظرية الطب الصيني التقليدي ناضجة بشكل متزايد، وبناء على الممارسة المستمرة، تم تشكيل نظام نظري للوقاية والعلاج. كما اعتمدت الأسرتان قانونا للإبلاغ عن شبهات المرض، وتم تكليف المسؤولين المحليين بالتقصي عن الحالات الوبائية، وإبلاغ الجهات الرسمية في أسرع وقت، لتتخذ بدورها إجراء عرض المشتبه به على الأطباء وتحديد ما إذا كان يحتاج إلى الحجر الصحي أم لا.

المنزل بيت الطب

في أبريل من العام الثاني بعد الميلاد ومع انتشار الوباء في مدينة تشينغتشو، قال الإمبراطور هانبينغ إنه “بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من المرض، فإن المنزل الفارغ هو بيت الطب”، لذلك رتبت الحكومة المنزل كمستشفى معزول لعلاج مرضى الطاعون. واكتشف علماء الآثار أن سلالة هان كان لديها مرفق يسمى “ساحة الهجرة” خصصته لعزل مرضى الجذام، يعتبر الأول من نوعه على مستوى العالم.

كما أطلقت أسرة هان ممارسة أسرة تشين، في تحديد سياسات ذات صلة تتطلب من الحكومات المحلية إعداد إشعارات في المناطق الريفية والدعوة إلى طرق بسيطة لتجنب الأوبئة بحيث يمكن للجمهور أن يكون أكثر يقظة للسيطرة على الوباء.

إذا كان الوضع الوبائي يؤثر بشكل كبير على المجتمع والاقتصاد، فإن المحكمة لديها أيضا تدابير داعمة ذات صلة مثل فتح المستودعات وخفض أو إعفاء من الإيجارات والضرائب وضمان حصول سكان المناطق الموبوءة على الغذاء والملابس.

وكان الإمبراطور عادة ما يقلّل من نفقات التحوّط لتمكين المرضى في المناطق المتضررة من المساعدات، وتخصيص ميزانيات لتطوير المناطق المتضررة حتى يتمكن أهلها من العودة إلى الحياة بعد الكارثة.

في زمن السلالات الشمالية والجنوبية، وخلال عهد أسرة تانغ (من 618 إلى 907) أنشأ الأمير تشانغ وآخرون مؤسسة خاصة لعزل المرضى وعلاجهم، وتم استخدام “بيت المريض” الذي أقيم في المعابد البوذية لعزل مرضى الجذام، ويشرف فيها رهبان على عملية العلاج.

كما أنشأت حكومة سلالة سونغ الجنوبية “أنجيفانغ” محال للعزل في أماكن مختلفة، حيث كان المرضى يعيشون في غرف مختلفة حسب شدة الحالة التي يعانون منها “لمنع العدوى التدريجية”، بينما كان على الأطباء تسجيل المرض كأساس لتقييم نهاية العام.

في عهد سلالة سونغ، ما بين عامي 960 و1279، شهدت البلاد طفرة مهمة في كل المجالات وتم إصدار العملة الورقية لأول مرة في العالم، وعرفت البلاد تركيزا على النظافة كوسيلة لمنع الأمراض فتم بناء الحمامات على نطاق واسع وتم استخدام المراحيض وظهر متخصصون في بنائها، اعتمادا على منظومة للصرف الصحي، وتقرر منع السكان المحليين من البصق في أي مكان، فما كان متداولا هو أن “المرض يأتي من الفم”.

سفر اللاويين

تم العثور على ذكر العزلة في سفر “اللاويين”، الكتاب الثالث من التوراة، الذي يتفق معظم الباحثين على أنه كتب بين القرن الخامس والثامن قبل الميلاد قبل أن تسجل به إضافات بشكل مستمر على مدى عدة قرون.

ظهرت فائدة العزلة في الفصل الثالث عشر من الكتاب، في مواجهة الجدري الذي كان يسبب العمى والتشوهات لملايين الضحايا عبر تاريخه الطويل كنتيجة للعدوى بالفايروس، وقد وثق الحاخاميون أن إلههم سيشفي المنكوبين ويحمي غير المصابين.

كما ارتبط العزل الصحي بالعقيدة اليهودية التي أثرت لاحقا في العقائد المسيحية والإسلامية. يقول المفكر الليبي الصادق النيهوم، في كتابه “الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟”، إن “حجاب المرأة مثل ختان الذكر، فكرة محلية جدا لم يعرفها سوى سكان الصحراء في العالم القديم. وهي ليست فريضة دينية بل إجراء وقائي لمكافحة العدوى لجأت إليه شعوب الصحراء بسبب ندرة المياه”.

وقد تحدد هذا الإجراء في ختان الذكور لمنع تلوث الغُرْلَة وعزل المرأة في الحجر الصحي، خلال فترات الطمث والولادة، وهو إجراء طبي سليم، بحسب النيهوم، أدى إلى حصر أمراض تناسلية فتاكة. لكنه لم يصبح فريضة دينية إلا على يد اليهود.

في عام 541، وقع أول تفش مسجل لما أصبح يعرف باسم الطاعون الدبلي. تفشى الطاعون في شبه الجزيرة العربية وغمر سوريا وبلاد فارس وفلسطين. كما انتشر الوباء في الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله، بسبب حركة السفن التجارية التي كانت تأوي الفئران المصابة بالطاعون.

ويعتقد بعض المؤرخين أن طاعون جستنيان كان أحد أكثر الأوبئة فتكا في التاريخ حيث كان يتسبب في وفاة أكثر من 10 آلاف شخص يوميا، وأدى إلى وفاة ما بين 25 و50 مليون شخص خلال قرنين، وهو ما يعادل ما بين 13 و26 في المئة من سكان العالم في وقت تفشي المرض لأول مرة.

عنصرية جستنيان

حمل طاعون العام 541 اسم الإمبراطور الروماني في القسطنطينية آنذاك جستنيان الأول والذي أصيب بدوره بالمرض ونجا منه، وبادر بإقرار إجراءات سريعة للتخلص من الجثث التي كانت تغطي ساحات عاصمته كتخصيص ميزانية من المال العام لحفر قبور الموتى، والتعاقد مع قوارب لإلقاء الجثث في البحر، قبل أن يسن قانونا يستهدف اليهود والسامريين والوثنيين والزنادقة والمثليين وغيرهم بما أدى إلى فرض حجر صحي بملامح عنصرية، حيث كان الإمبراطور يعتقد أن تلك الأقليات هي التي تقف وراء تفشي الطاعون بين الأغلبية المسيحية، وهو ما ألحق به تهمة العنصرية والعجز عن تفسير ظاهرة المرض وربطها بالعقائد الدينية الغيبية دون التوصل إلى تحديد أسبابها الحقيقية من وجهة نظر علمية.

تكرر ظهور الطاعون بشكل دوري حتى القرن الثامن ميلادي، وكان لموجات المرض تأثير كبير على المسار اللاحق للتاريخ الأوروبي، ولعل أبرز تلك الموجات ظاهرة الموت الأسود أو الطاعون الأسود أو الموت العظيم الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة.

كان العام 1300 قد شهد انطلاق عدد من الدول الأوروبية والآسيوية في فرض الحجر الصحي للمناطق المصابة من خلال تطويقها بالحراس المسلحين، وتتم إعادة أولئك الذين يلقى عليهم القبض وهم يفرون من المناطق المنكوبة في حالات عدة، يتم إعدامهم كتحذير للآخرين. وفي العام 1348 ومع انتشار الطاعون الأسود، أسست البندقية أول نظام مؤسسي للحجر الصحي في العالم، يمنح مجلسا مكونا من ثلاثة أفراد سلطة احتجاز السفن والشحنات والأفراد في بحيرة البندقية لمدة تصل إلى 40 يوما. وفي العام 1374 أصدر دوق ميلانو مرسوما يقضي بنقل جميع أولئك الذين يعانون من الطاعون خارج المدينة إلى حقل أو غابة حتى يتعافوا أو يموتوا.

وعندما تأسست الولايات المتحدة، لم يتم فعل الكثير لمنع استيراد الأمراض المعدية، لكن بعض البلديات سنّت مجموعة متنوعة من لوائح الحجر الصحي للسفن الوافدة. وفي العام 1878، دفع التفشي المستمر للحمى الصفراء الكونغرس إلى تمرير تشريع الحجر الصحي الفيدرالي، الذي ورغم أنه لا يتعارض مع حقوق الولايات إلا أنه مهد الطريق أمام التدخل الفيدرالي في أنشطة الحجر الصحي. وفي العام 1892، دفع تفشي الكوليرا من سفن الركاب القادمة من أوروبا إلى إعادة تفسير القانون بما يعطي الحكومة الفيدرالية المزيد من السلطة في فرض متطلبات الحجر الصحي.

وفي العام الموالي، أصدر الكونغرس تشريعا يوضح الدور الفيدرالي في أنشطة الحجر الصحي. عندما أدركت السلطات المحلية فوائد التدخل الفيدرالي، تم تسليم محطات الحجر الصحي المحلية تدريجيا إلى حكومة الولايات المتحدة كما تم بناء مرافق اتحادية إضافية وزيادة عدد الموظفين لتوفير تغطية أفضل.

في العام 1921، تقرر تأميم نظام الحجر الصحي بالكامل عندما تم نقل إدارة آخر محطة للحجر الصحي إلى حكومة الولايات المتحدة، وهو نظام يضع الحريات المدنية للفرد رهينة للحماية العامة في حال يشكل ذاك الفرد خطرا على الصحة. وتجسد الأمر في قصة ماري مالون الشهيرة باسم ماري تيفوئيد (1869-1938) والتي دخلت التاريخ كأول امرأة عُرف أنها ناقل عديم الأعراض للتيفوئيد، حيث كانت ماري قد شفيت من المرض لكنها بصفتها ناقلة للمرض استمرت في نشر جرثومة التيفوئيد إلى الآخرين، ونقلت خلال عملها كطاهية في المنازل، العدوى لنحو 53 شخصا على الأقل في الفترة بين عامي 1900 و1915، مات منهم ثلاثة، ليصدر في حقها قرار بوضعها في الحجر الصحي لمدة 26 عاما أي حتى وفاتها في 11 نوفمبر 1938 بالالتهاب الرئوي وليس التيفوئيد الذي ارتبط اسمه بها لعقود طويلة.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية