كيف أنعشت الدراما التلفزيونية ذاكرة المصريين؟

كيف أنعشت الدراما التلفزيونية ذاكرة المصريين؟


10/05/2022

"والله دي الحقيقة"، هكذا وصف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، التسجيلات الوثائقية التي أذيعت ضمن حلقات مسلسل "الاختيار"، في جزئه الثالث، مضيفاً في خطابه مع أسر الشهداء من ضباط وجنود المؤسسة العسكرية المصرية، في حفل الإفطار الذي جمعهم بالرئيس صباح أول أيام عيد الفطر، "أوعوا تفتكروا إن أولادكم، أبهاتكم، أزواجكم، سقطوا في معركة طغيان".

حديث الرئيس السيسي فتح الباب أمام رؤية أكثر اهتماماً من المشاهد للعمل الدرامي "الاختيار" بأجزائه الثلاثة، في إجابة عن السؤال الذي تكرّر دائماً مع بداية عرض حلقات الجزء الأول من العمل، عام 2020؛ هل ما عرضه مسلسل "الاختيار" حدث بالفعل؟ وهل يصلح العمل الدرامي القائم على التخيّل والإبداع أن يكون مصدراً للمعلومات؟!

الدراما الوثائقية

جدل استحضر معه نقاد الدراما الحديث عن "الدوكودراما"، أو "الدراما الوثائقية"‏؛ وهي نوع من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والأفلام الروائية، والمسرحيات التي تعيد تمثيل الأحداث الحقيقة التي سبق أن حدثت. وهي مسألة قدمتها دراما "الاختيار" بجزء بسيط في الموسمَين الأول والثاني، لكنّها أصبحت خيطاً أساسياً في حلقات الجزء الثالث، حتى أصبح انتظار التسجيل الوثائقي في آخر كلّ حلقة لقادة الإخوان، وهم يفضحون أسرار التنظيم، الحدث الأكثر انتظاراً على مدار شهر رمضان.

تضمّنت كلّ حلقة من "الاختيار" في جزئه الثالث تسجيلاً مسرباً لقادة الإخوان يكشفون خلاله أسرار علاقتهم بالتيارات الأخرى، وصل أحدها إلى اتهام نائب المرشد، خيرت الشاطر، بعض قادة حزب النور في مصر، الذراع السياسية للدعوة السلفية، بالتعامل مع أجهزة أمنية إسرائيلية.

الفنان ياسر جلال في شخصية الرئيس السيسي بمسلسل الاختيار

وفي تسجيل آخر تحدث الشاطر عن استعداد جماعة الإخوان لمهاجمة مقرات جهاز أمن الدولة التابع لوزارة الداخلية المصرية، والمسؤول عن مكافحة الإرهاب الدولي والتطرف، وقد حصل هجوم بالفعل على تلك المقرات، بتاريخ 5 آذار (مارس) 2011، ونشرت الصحف المصرية وقتها أنّه هجوم غير منظم لمجموعات ثورية من المشتركين في ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، ولم توجه أصابع الاتهام صراحة إلى الإخوان، قبل أن يخرج تسجيل الشاطر المسرَّب، بعد عشر سنوات من حرق المقرات، معلناً مسؤولية الإخوان عن الهجوم.

تهديد الجماعة بحرق مصر

أبرز التسجيلات التي عرضها المسلسل في حلقته الثامنة تضمن حديثاً بين المشير الراحل محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع في تلك الفترة، والرئيس المصري الراحل محمد مرسي، بحضور مدير المخابرات الحربية في تلك الفترة، عبد الفتاح السيسي، ويُظهر التسجيل المسرَّب تهديداً مباشراً من مرسي للجيش المصري، قبل أيام من إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية في مصر، عام 2012، بين محمد مرسي ممثلاً عن الإخوان، والفريق أحمد شفيق، وزير الطيران المدني في حكومة مبارك.

أنعش "الاختيار" ذاكرة المصريين، ودار الجدل حول العديد من الأكاذيب والمعلومات غير الموثقة التي اعتمد عليها غالبية المصريين في تلك السنوات فيما يتعلق برؤية الأحداث

تهديد مرسي للجيش المصري دار حول طلب الإخوان التأكيد على ضرورة نجاحهم في الانتخابات، وأنّ أيّة نتيجة غير نجاح الإخوان معناها حرق مصر، وبعد ذلك اللقاء بأيام خرج محمد مرسي معلناً نجاحه فعلياً في الانتخابات الرئاسية حتى قبل إعلانه رسيماً من اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات.

أنعش "الاختيار" ذاكرة المصريين عن فترة تعدّ الأكثر حراكاً منذ عقود، ودار الجدل حول العديد من الأكاذيب والمعلومات غير الموثقة التي اعتمد عليها غالبية المصريين في تلك السنوات فيما يتعلق برؤية الأحداث، وفي تفسير صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى حكم مصر، واعتبار أنّ ذلك الصعود جاء خلال انتخابات شرعية نزيهة، وأنّ نجاح الإخوان لم يكن نتيجة تهديد مباشر بحرق مصر كما أوضحت تسجيلات الاختيار، وأنّ ما حدث في 30 حزيران (يونيو) 2013 من خروج الملايين إلى الميادين المصرية للمطالبة بسقوط حكم الإخوان لم يكن ثورة شعبية أنقذت مصر من حافة الحرب الأهلية، إنما انقلاب عسكريّ، كما روّج الإخوان.

تسجيلات "الاختيار" طرحت العديد من الأسئلة، أبرزها صعود معركة المعلومات إلى مشهد الصدام بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين، والتي صدر ضدّها مؤخراً حكم من القضاء المصري بتمديد اعتبارها جماعة إرهابية لسنوات خمس أخرى مقبلة، استمراراً لأحكام سابقة وضعت الجماعة وأغلب قادتها على قوائم الإرهاب.

سجل واقعي محفوظ

الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري، أحمد بهاء الدين شعبان، يرى أنّ أهمية التسجيلات عائدة إلى أنّها سجلّ واقعي محفوظ للتاريخ عن "سلوك الجماعة الإرهابية وتآمرها على سلامة وأمن الوطن".

الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري، أحمد بهاء الدين شعبان

ويضيف شعبان، في تصريح لـ "حفريات": "الحقيقة أنّ من يعرف تاريخ حركة الإخوان ومنشأها وأهدافها الإستراتيجية وطبيعة تمويلها خصوصاّ التنظيم الخاص، الجناح العسكري للجماعة، لم يفاجَأ من هذه الأجزاء المقتضبة من تسجيلات لقادة الجماعة، ذلك أنّ سلوكهم مستمرّ ومتطابق ومنسجم مع تاريخهم ومجمل أفكارهم المعروفة".

شارك أحمد بهاء الدين شعبان كعضو فعليّ في الحركة الطلابية داخل الجامعات المصرية، أول  السبعينيات، وشاهد كفاعل سياسي الصعودَ الكبير لحركات الإسلام السياسي والإخوان، إلى سدّة المشهد، وهي مسألة جعلته شاهد عيان، والتسجيلات المعروضة بالنسبة لها تأكيد على معلومة عاشها شخصياً.

يقول شعبان: "علاقتنا بالجماعة قديمة، منذ أيام الحركة الطلابية في السبعينيات، عندما أفرج عنهم السادات وأعيدت إليهم مواقعهم وأموالهم، وأعطاهم حرية حركة واسعة جداً في سلوك من أخطر ما يكون؛ لأنّه قاد البلاد بعد ذلك إلى الأزمة الحالية، وهي بروز جماعات الإرهاب والتطرف على النحو الذي نراه الآن".

الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري، أحمد بهاء الدين شعبان لـ"حفريات": أهمية التسجيلات عائدة إلى أنّها سجلّ واقعي محفوظ للتاريخ عن سلوك الجماعة الإرهابية وتآمرها ضد الوطن

يوضح بهاء الدين شعبان: "في تلك الفترة بدأت ظاهرة عنف الإسلام السياسي في مواجهة خصومه والمختلفين فكرياً عنه، وكانت فكرة استعانة الرئيس السادات بالإسلاميين بإيعاز من المحيطين به، مثل: عثمان أحمد عثمان ومحمد عثمان إسماعيل وغيرهما، فإذا كان هناك حركة تقدمية في الجامعة معارضة للنظام، فمن الأفضل تأسيس حركة مضادة ترفع شعارات الدين لما يعرفونه من قيمة ومكانة الدين لدى الشخصية المصرية، وأنّ هذه الحركة التي تعمل تحت ستار الدين كفيلة جداً بهدم البناء النظري والفكري، وحتى الجسدي، للحركة التقدمية المنتشرة في الجامعة المصرية آنذاك، حتى إنّ الحركة التقدمية في تلك الفترة كانت بعيدة تماماً عن تناول الموروث الديني، وكان حديثها منصبّاً على الحرب ضدّ إسرائيل".

جنازير الإخوان في الجامعة

يتذكر بهاء الدين شعبان: "أنا واحد ممن تعرضوا في تلك الفترة للضرب بالجنازير والعصي والحجارة من تلك التيارات داخل الجامعة، وتعرضنا إلى تكسير المعارض التي كنا نقيمها وإفشال المؤتمرات بالهجوم العنيف، وسعى طلبة الجماعة الدينية إلى الفصل بين الطالبات والطلبة داخل المدرجات باستخدام الجنازير، ومنع أيّة احتفالات غير الاحتفالات ذات الطابع الديني، والمدهش أنّ من انضمّوا لتلك الحركات ذات المرجعية الدينية في نهاية السبعينيات لم تكن لهم علاقة من قريب أو بعيد بالدين وكانت على أغلبهم ملاحظات سلوكية".

يشير بهاء الدين شعبان إلى مذكراته، وبها فصول عن أحداث تلك المرحلة، وفي جزء منها ردّ على مذكرات دكتور عبد المنعم أبو الفتوح، عضو جماعة الإخوان، والتي نفى خلالها أن تكون هناك صفقة بين الجماعات الدينية وأنور السادات.

يوضح بهاء الدين شعبان: "ذكر أبو الفتوح في مذكراته أنّه قد حدث تواصل، لكن لم يكن مخططاً لذلك، وأنّ أحداً لم يوجههم إلى فعل معين، وفي مذكراتي كتبت أننا في النهاية كنا طلبة، وليس من المعتاد أنّ دولة كاملة بإمكانياتها تجلس مع طالب لكتابة عقد يوثقونه في الشهر العقاري، بل كانت المسألة تتم عبر وسطاء وإعطاء إشارات خضراء لهم بالعمل؛ فالمسألة لها أساليب متعددة".

يضيف شعبان: "مثلاً عندما نضرَب بالجنازير ونحن طلبة في الجامعة ونرى الأمن يقف مجرد مشاهد وهو يرى طلبة الجماعات الإسلامية يفرضون بالعنف أن تجلس الطالبات في مكان والطلاب في مكان، إلى جانب حرق مجلات الحائط، وأيضاً أمن الجامعة مجرد مشاهد؛ فكيف لنا أن نفسر ذلك؟".

ويستدرك: "يحكي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أنه كان يطبع منشوراً فاتّصل صاحب المطبعة بالأمن وأخبرهم أنّه لن يطبع المنشور، فقام مدير الأمن بوزارة الداخلية بالاتصال بالدكتور عبد المنعم أبو الفتوح يرجوه أن يترك المنشور ويرحل، فيصرّ أبو الفتوح على أن يحصل على المنشور، فيضطر مدير الأمن للاتصال بنائب رئيس الجماعة للتدخل، مع العلم أنّه، في تلك الفترة، من يقبَض عليه ومعه ورقة من اليساريين كانت تتخذ ضدّه إجراءات شديدة؛ فماذا نطلق على ذلك إن لم تكن صفقة بين الدولة وطلبة الحركة الإسلامية".

حرب المعلومات

النائبة، وعضو اللجنة الثقافية في البرلمان المصري، ضحى عاصي، تشير إلى أنّ الشفافية في عرض المعلومة الموثقة هي أقرب طريقة لعدم حدوث تلاعب بالوعي.

تضيف ضحى عاصي، في تصريح لـ "حفريات": "المعلومة الواضحة والمؤكدة والمثبتة تختصر الكثير من المسافات لمعرفة الحقيقة. وجزء من السوشيال ميديا والإعلام دوره الحقيقي إيصال المعلومة الحقيقية، لكن مع اللغط الذي يحدث وأنّ فكرة الحقيقة تتوه أحياناً بين تعدّد وجهات النظر، أصبحت المعلومة الموثقة شديدة الأهمية، وأرى من أفضل الأشياء أنّه عند كتابة مقالات رأي أن نعود للتوثيق باستخدام المعلومات التي تشرح وتدعم وجهة النظر".

وتشير عاصي إلى ترقب المشاهدين للتسجيل المعروض في نهاية كلّ حلقة من الاختيار: "هذا يعني أنّ الناس ترغب في معرفة الحقائق والتسجيلات الوثائقية، وتلك مسألة تحدث للمرة الأولى في الدراما المصرية بذلك الشكل، وهي مسألة مدهشة جداً من أجل ترسيخ فكرة توثيق المعلومات بتسجيلات وثائقية".

اهتمام ضحى عاصي بالمعركة مع الإسلام السياسي غير منحصرة في العمل البرلماني فقط، فقد أصدرت رواية مؤخراً، بعنوان "19 أغسطس"، عن الدار المصرية اللبنانية، اهتمّت خلالها بفكرة تيار الإسلام السياسي، وكيف يوظف فكرة الدين ويتعامل معها.

تلفت عاصي إلى تضمين الرواية جزءاً كبيراً من علاقة جماعات الإسلام السياسي بالتيارات الأخرى، وما هي حقيقة تمويلاتهم، والخلافات بينها، "رغم تعدد تلك الجماعات إلا أنّ بينهم خطّ مفاوضات مفتوحاً لأنّ هدفهم واحد في النهاية".

وتنوّه عاصي إلى أنّ مسألة الوعي المطروحة حول سرّ تنفيذ مثل تلك الأعمال الدرامية مسألة متشابكة جداً وعامة: "أنا، مثلاً، غير مؤمنة بفكرة الوعي الموجَّه، فهو أقرب للتلقين؛ الفكرة كيف يكون لدينا مساحات فضاء ثقافية نستطيع من خلالها فتح الأفق للناس؛ لذلك أنا مؤمنة جداً بفكرة الثقافة المستقلة ودورها المهم جداً، وأتمنى إحداث تغيير في تلك المنطقة من خلال عملي البرلماني داخل مجلس الشعب المصري، وكيفية تنفيذ قوانين لدعم عمل الثقافة المستقلة من تسهيلات إجرائية أو تمويلية لصعوبة تمويل تلك المساحات الثقافية المستقلة عموماً".

مواضيع ذات صلة:

تركيا في مرمى الدراما المصرية

كيف أخرجت الدراما المصرية فلول داعش من جحورهم؟

الدراما المصرية.. كيف لعبت دوراً في استراتيجية مكافحة الإرهاب؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية