كيف تحولت جوهرة الشرق من قاهرة إلى مقهورة؟

مصر

كيف تحولت جوهرة الشرق من قاهرة إلى مقهورة؟


16/10/2018

أفاد تقرير "فوربس" الصادر في آب (أغسطس) العام 2018، بتصدر القاهرة مرتبة أكثر مدن العالم تلوثاً على الصعيد السمعي والبصري، والهواء والماء، وهي المدينة التي يُقدّر تاريخها بعُمر الدولة المصرية؛ إذ كانت في العصر الفرعوني مدينة "أون"، التي عرفها الإغريق بمدينة "هليوبوليس"، والواقعة حالياً بحي عين شمس شرقي القاهرة، ومثلت التلاقي المثالي بين حضارة دلتا النيل وأراضيها الزراعية الخصبة، وحضارة الصعيد في الجنوب؛ إذ يقطنها الملوك، وتشيّد معابد الآلهة.

العشوائيات وما تمثلها من خطورة اجتماعية في العاصمة ليست إلّا النتاج الطبيعي لانسحاب الدولة من توفير أساسيات الحياة للمواطنين

وفي خضم التعاقب الحضاري على مصر، مرت القاهرة التي كانت تعرف بـ "جوهرة الشرق" بمحطات عديدة، صعوداً وهبوطاً، ازدهاراً واضمحلالاً، شأنها كسائر المدن. بيْد أنّ قاهرة اليوم أصبحت مزيجاً واضحاً بين الخديوية والإسلامية، فقد اهتّم بها الفاطميون ثم المماليك، اهتماماً واضحاً، وجعلوها في مقدمة المدن العربية بعد قدومهم من المغرب وتحويل قبلتهم إليها. وعند تلك المحطة يتوقف كتاب "القاهرة تاريخ حاضِرة" للمؤرخ والمستشرق الفرنسي، أندريه ريمون، تاريخ القاهرة الإسلامية وصولاً إلى الدولة الحديثة في القرن العشرين.

يتناول الكتاب محطات مهمة في تاريخ المدينة، لم يتوانَ فيها المؤرخون من النقمة على العثمانيين، الذين جعلوا من مصر إحدى ممالكهم الثلاث؛ حيث مثّل موقعها الجغرافي أهمية كبيرة، فهي ملتقى التجارة العالمية عبر البحر المتوسط، والمنفذ الأهم من الشرق نحو أوروبا.

غلاف كتاب "القاهرة تاريخ حاضرة" للكاتب أندريه ريمون

ويُقرأ تناقض بين ريمون، ومارسيل كليرجيه في تأريخه للقاهرة العثمانية؛ حيث أوضح عودة القاهرة في ظل العثمانيين إلى التعمير المبعثر الذي تعلّق به العرب الأوائل، ويعكس فوضى العمران والتخطيط، وصعوبة المواصلات، والفوضى السياسية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد، فكانت في نظره مدينة مهدمة بسبب الفوضى، مهجورة بفضل الأوبئة، فريسة سهلة لعصابات الصعاليك.

اقرأ أيضاً: مقهى جروبي: ملتقى زمن القاهرة الجميل

ظلّت القاهرة ولاية عثمانية، بعد سحب البساط المملوكي منها، ولم يستطع انتزاعها سوى محمد على باشا، الذي يُجمع المؤرخون على أنّه المؤسس الفعلي للدولة الحديثة، وعلى الرغم من الانتقادات التي فنّدها الباحثون ضده، فقد كان أيضاً مؤسس الإقطاعية المصرية،  التي بنى عليها نهضته، التي امتدت حدودها إلى السودان جنوباً وليبيا غرباً وغزة من الشمال الشرقي، وأجزاء من تشاد، واتسعت رقعة مصر وقتها فقاربت أربعة أضعاف مساحتها الحالية. وبقضائه المشهور على المعارضة "المماليك"، الذين أرادوا استرداد حكم مصر، بسط الوالي نفوذه على المحروسة، وصنع بها المعجزات، كما يرى المؤرخون الكلاسيكيون، ومنحه طرد الحملة الفرنسية من مصر، ثقلاً سياسياً وأحقية في الحكم، وبدأت حقبة جديدة من حياة القاهرة وأهلها، أعادت تشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد، ومع هذا الانفتاح على السياسة والاقتصاد العالميين، باتفاقنا أو اختلافنا معه، إلّا أن القاهرة شهدت معه ركوداً كبيراً، تزامن مع طفرة اقتصادية شهدتها مدينة الإسكندرية التي وصل تعداد سكانها عام 1882 إلى 206 ألف نسمة، منهم 49 ألف أجنبي مقيمون في مصر بشكل دائم، وهو ما يعني أنّها كانت قبلة الأوروبيين عبرالبحر المتوسط.

القاهرة الفاطمية

الانحراف نحو مسار أوروبي

اتجهت قبلة محمد علي، بعد صعود ابنه ابراهيم باشا للساحة السياسية في مصر، إلى القاهرة؛ حيث فضل البيوت الريفيّة التقليدية، فأقام لنفسه عدة قصور في الأماكن الزراعية على ضفاف نيل القاهرة، ففي مدينة شبرا شيّد قصره الأول الذي أصبح مقراً للحكم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبدأ بعده جنون التغيير الذي اتسم به عصر محمد على باشا، فأقام المطابع في منطقة بولاق، وشيّد القصور في روضة النيل غرب القاهرة، ومد الطرق الحديثة وخطوط المواصلات، وبعدما خلفه ابنه عباس باشا، بدأ بإنشاء خطوط الترام والسكك الحديد، التي جعلت من المدينة ملتقى مع سهولة وسائل المواصلات، ومنح الأراضي لبناء المنازل وتعمير المدينة، وأقام ثكنات الجيش في المنطقة الصحراوية على طريق حي العباسية، وبدأ عباس باشا بتوقيع اتفاقية حفر قناة السويس التي اعتبرت المفتاح الأهم لانخراط مصر في خط التجارة العالمي، ولكن أتّم المشروع خلفَه إسماعيل، واعتبر عام 1863 فارقاً في تاريخ القاهرة؛ حيث حظيت بأول حاكم منذ تسعة قرون ارتبط بمشروع تنموي، لخلق مدينة جديدة تحاكي مدن أوروبا الكبيرة، وسيطر على المدينة نوع جديد من العمران الذي اعتمد على استغلال الفراغات، في مدينة سيطر عليها مفهوم الربع، وهو المعنى الأول لمفهوم السكن الجماعي الأهلي، ويمكن الجزم أنّ المدينة التي بناها الإنجليز من العام 1882 إلى 1936 لم تكن إلّا التنفيذ العملي لخطة ومشروع إسماعيل العمراني، كما يؤكد ريمون.

اهتّم الفاطميون ثم المماليك بالقاهرة اهتماماً واضحاً، وجعلوها في مقدمة المدن العربية بعد قدومهم من المغرب وتحويل قبلتهم إليها

بيد أنّ اهتمام إسماعيل بتجميل واجهات المدينة، وتحديثها على الشاكلة الأوروبية، جعل الإنفاق يصل حد البذخ، ولكن صادرات القطن المصري، التي بدأت في الارتفاع وجلب المزيد من الموارد، جعلت الأمر ممكناً فبدأت القاهرة مرحلة ثرائها، وافتتحت قناة السويس في عهد الخديوي الذي أقام حفلاً ضخماً حضرته جاليات من جميع أنحاء أوروبا، التي امتلأ الحاكم زهواً بها أمام الأوروبيين.

والجدير بالذكر أن معدلات النمو السكاني وقتها، قاربت معدلات النمو الاقتصادي، إلّا أنّ عام 1936، وفي أعقاب الكساد العالمي وانتهاء الحرب العالمية الأولى، وبوادر الحرب العالمية الثانية، دخلت مصر حقبة أزمة اقتصادية، تزايدت فيها معدلات النمو السكاني عن معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما تلازم مع بداية حكم فاروق الأول، وهي فترة غنية بالأحداث التاريخية والسياسية والاقتصادية التي رصدتها في دقة أستاذة التاريخ المعاصر بجامعة بنها الدكتورة لطيفة محمد سالم في كتابها "فاروق وسقوط الملكية في مصر1936/1952"، حيث أوضحت أنّ فترة السقوط كانت نتيجة للإخفاق السياسي الذي اتسمت به قرارات فاروق تجاه القاهرة، وهشاشته أمام قوة الضباط الأحرار، بعد سلسلة الحرائق التي عمّت المدينة، بعد حرب فلسطين عام 1948، والتي كانت إيذاناً بإعلان الجمهورية وسقوط العائلة المالكة بلا رجعة.

بعد عام 1936 دخلت مصر حقبة أزمة اقتصادية تزايدت فيها معدلات النمو السكاني

قاهرة الاشتراكية والانفتاح الحداثي

مثل عام 1936 مرحلة فاصلة في التاريخ الحديث للدولة المصرية، على الرغم من توقيع الاتفاقية البريطانية المصرية في هذا العام، إلّا أنّ إنهاء الوصاية على مصر لم يأتِ إلّا بعد هيمنة الضباط الأحرار على السلطة بعد ثورة يوليو1952، ومنذ هذا الوقت أصبح المتحكم الفعلي في شكل المدينة هو النمو السكاني، الذي وصل في نهايات القرن التاسع عشر إلى 1.5%.

اقرأ أيضاً: القاهرة الفاطمية.. عبقرية عابرة للأزمان

وفي نهاية السبعينيات وصل قرابة 20%، وهي نسبة تسطيع تغيير ملامح المدينة واقتصادياتها، فهناك عاملان أثّرا في تغير المدينة؛ زيادة السكان بتلك النسبة المهولة، والمركزية التي أصبحت سمة الدولة الحديثة فحدثت الهجرة الداخلية بنسب كبيرة من الريف إلى الحضر، ومع حلول عام 1986 بلغ تعداد السكان 11.5 مليون نسمة، منهم 8 مليون هم السكان الأصليون للقاهرة، والبقية كانت من الهجرة الريفية، مما دفع الدولة لعمل بطاقات تموينية خاصة بالسكان الأصليين، وهو ما حدّ بعض الشيء من معدلات الهجرة التي قلّت في أواخر الثمانينيات بنحو 40%، وهناك عامل آخر لا نستطيع إغفاله وهو رحيل الأجانب المقيمين في مصر منذ سنوات الاحتلال الذين مثلوا الخبراء والعلماء والفنيين المهرة.

مع حلول عام 1986 بلغ عدد السكان الأصليين للقاهرة 8 ملايين

وبالرغم من البعد الوطني والسياسي لهذا الأمر الذي حمل قيمة استرداد المصريين لعاصمتهم، إلّا أنّه ساهم في تغيير شكل المدينة وإعادة تقسيمها من قبل الضباط الأحرار بزعامة عبدالناصر ومشروعه الاشتراكي، الذي بدأ بالتأميم مما كان له أثر واضح لا يمكن إهماله في الاقتصاد، وإن اختلف النقاد بين الإيجابيات والسلبيات، إلّا أنّ تغير عمران المدينة قد يبقى شاهداً على هذا التحول؛ إذ يتسنى للمراقب كيف تحولت المدينة ببناياتها الواسعة ذات الطراز الأوروبي، نتاج مدرسة الجمالية للعمارة، إلى المدرسة الوظيفية التي انتهجها الاتحاد السوفييتي في أواخر الأربعينيات وسار على أثرها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، ليسكن الناس في بنايات ضيقة وكتل خرسانية صماء، وانتهاء عصر البنايات التي تحمل طابعاً فنياً، والمنازل الفسيحة التي تضم العائلة بأكملها، إذ بدأت الحداثة في الزحف على القاهرة، وهو ما غيّر المدينة وجعلها متخبطة الهوية.

كشف الراحل جلال أمين كيف عاشت مصر صدمة الانتقال الفوري من الملكية للاشتراكية ثم الانفتاح وعصر ما بعد الحداثة

وفي هذا السياق يذكر أستاذ الآثار الإسلامية والباحث المصري، الدكتور خالد عزب لـ "حفريات" أنّ القاهرة "أكثر المدن شهادةً على تغيُرات الواقع الاقتصادي في مصر، فمن رصد الأحياء الشعبية القديمة في القاهرة الخديوية، والمساكن الفسيحة التي سكنها الناس في جماعات، حيث أهم عامل اجتماعي هو الصحبة والجيرة ولمّ شمل العائلة، وبين القاهرة الجمهورية التي أصبحت بنايات شاهقة وكتل خرسانية منفصلة، يعيش كل شخص بمفرده، هو ما أحدث هذا الاغتراب؛ فالمجتمع المصري الحامل لعادات الريف بطبعه، لم يألف هذا النوع من الحياة، وهو ما جعل الهوية الاجتماعية لسكان القاهرة وتصنيفهم الطبقي متخبط المعالم فيما بعد".

ومن هذا المنطلق كتب الباحث وأستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الراحل الدكتور جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين" كيف عاشت مصر صدمة منذ الانتقال الفوري من الملكية للاشتراكية ثم الانفتاح وعصر ما بعد الحداثة الذي فاجأنا به السادات، ملقياً رصاصة الموت على نظام رفيقه عبدالناصر، فدخول مصر "عصر حضارة السوق" بتعبير أستاذ علم الاجتماع كارل بولان في كتابه "الانقلاب الكبير"، كان رصداً لآلية تغير المدن بعدما ضربتها الحداثة، وهو ما صارت إليه أوروبا منذ مطلع القرن الثامن عشر، وهذا الانقلاب الكبير الذي أشار إليه بولان هو نظام السوق بلا منازع، ولقد لحقت مصر بهذا النظام منذ مطلع السبعينيات، الذي فتح فيه السادات السوق المصرية على مصراعيها، دون أدنى حماية للفقراء، وبدأت الدولة في الانسحاب التدريجي من مسؤلياتها.

غلاف كتاب "ماذا حدث للمصريين" للكاتب جلال أمين

القاهرة "مقهورة وقاهرة"

صارت الدولة ملكاً للمستثمرين، والأموال حكراً على أصحاب المصالح والسلطة، وكان أول ما انسحبت منه الدولة الحقوق الأساسية للمواطنين، بدايةً من الحق في السكن، فبدأت آلية وضع اليد على الأراضي، وانهزام منظومة التخطيط العمراني، ومع زيادة النزوح من الريف إلى الحضر، بحثاً عن فرص العمل، برزت  أخطر ظواهر القاهرة "العشوائيات"، حيث يكتظ المهمشون الخارجون عن رعاية الدولة التي تركتهم عرايا أمام انفتاح السوق، الذي بدوره كان آلية لصعود وهبوط طبقات اجتماعية، بلا أدنى عوامل سوى امتلاك رؤس الأموال.

عشوائيات القاهرة في الفترة الحالية

وفي هذا الصدد يذكر النقيب السابق للمهندسين، والأستاذ في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، والمتخصص في عمارة العشوائيات، الدكتور وائل ذكي لـ "حفريات" أنّ العشوائيات وما تمثلها من خطورة اجتماعية في العاصمة، "ليست إلّا النتاج الطبيعي لإنسحاب الدولة من توفير أساسيات الحياة للمواطنين، وعدم تنظيم سياسة الانسحاب ووضع خطة للحد من الفقر، والتدخل في الحفاظ على شكل المدينة، وعوضاً عن هذا استعادوا الشكل الآمن للحياة وهو أحد مخلفات الإستعمار فيما يعرف حالياً بـ"الكومباوند"، وهو إن دل على شيء فلا يدل إلّا على انسحاب الدولة من تقديم الحق في السكن لكل مواطن وتوفيره لأصحاب الأموال الطائلة، الذين كفلت لهم سياسات السوق، حصولهم على الأموال، مقابل آخرين لا يستطيعون توفير السكن الآمن لأطفالهم".

اقرأ أيضاً: أحياء في القاهرة.. هل تعرف سبب تسميتها؟

ازدادت السياسات الانفتاحية سوءاً في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث أطلّ صندوق النقد الدولي على مصر خلال حكم حسني مبارك، وإحلال سياسات التكيُّف الهيكلي التي فرضها صندوق النقد، كحل لعجز الموازنة بعدما كانت مصر على وشك الإفلاس لولا حرب الخليج عام 1991، التي منحت مصر قبلة الحياة، وأزاحت قدراً كبيراً من ديونها، إلّا أنّ عجز الاقتصاد لا يزال قائماً، فبدأت سياسات التقشف والخصخصة، وتسريح آلاف العاملين في الدولة بلا أية بدائل أو ضمانات اجتماعية تحميهم من الوقوع فريسة الفقر، وهو ما تسبب في ثاني أخطر العوامل تهديداً للقاهرة وهو "الازدواجية الاجتماعية"، فالقبح الذي اعترى المجتمع ليس إلّا من وضع المتناقضات جنباً إلى جنب.

الصفحة الرئيسية