لماذا انتقد نولدكه الشعر الجاهلي ثم طالب الألمان بالاقتداء به؟

لماذا انتقد نولدكه الشعر الجاهلي ثم طالب الألمان بالاقتداء به؟


05/11/2020

ما يزال ذكر الاستشراق، يثير كثيراً من التوجّس والشبهات في قلوب وعقول قطاع عريض من الباحثين العرب الذين وقَرت في أذهانهم صورة مؤدلجة أو مسيّسة له، قوامها الدّس على الإسلام والمسلمين أو العمل في خدمة بعض الدوائر الغربية لإدامة استعمار الشرق والهيمنة على مقدّراته. ومع أنّ العارفين ببواطن الاستشراق وخفاياه، لا ينكرون اشتمال بعض أطيافه على طروحات منفّرة، إلا أنّهم لا يستطيعون التنكر في الوقت نفسه، لحقيقة اضطلاع غير قليل من المستشرقين بإسداء خدمات جليلة للثقافة العربية الإسلامية، سواء على صعيد تحقيق آلاف المخطوطات ونشرها، أم على صعيد إغناء الثقافة العربية الإسلامية بما لا يعد ولا يحصى من المؤلّفات والدراسات الجادة والرصينة، أم على صعيد إمداد الباحثين العرب في العصر الحديث بالعديد من مناهج البحث العلمي، بعيداً عن الأسلوب الإنشائي والخطابي الذي ما زال يطغى على مساحة واسعة من جهود الأكاديميين والنقاد العرب. 

 

يعد تيودور نولدكه رائد المدرسة الألمانية في الاستشراق، كما تعدّ دراسته الموسومة "تاريخ ونقد الشعر العربي القديم" من أقدم وأخطر الدراسات الاستشراقية

 

يعد تيودور نولدكه ( 1836 - 1931 ) رائد المدرسة الألمانية في الاستشراق، كما تعدّ دراسته الموسومة "تاريخ ونقد الشعر العربي القديم" من أقدم وأخطر الدراسات الاستشراقية، على صعيد تقييم ونقد مصادر الشعر الجاهلي وعلى صعيد دوره في الدولة الأموية، فضلاً عن تحليل علاقته بالتكوين السيكولوجي للإنسان العربي. ومع ضرورة التذكير بخصوصية أسلوب المستشرقين ومنهجيتهم في الكتابة؛ من حيث الميل إلى الوصف الصادم والتقرير الحاسم فضلاً عن الإكثار من الجمل المعترضة، فسوف نعمل على إيجاز وتحليل أبرز ما انطوت عليه دراسة نولدكه من أفكار ومصادرات وطروحات، بعيداً عن الانفعال العاطفي.

اقرأ أيضاً: كيف توصل طه حسين إلى أنّ الشعر الجاهلي منحول؟

ينطلق شيخ المستشرقين الألمان من فرضيّة مؤداها أنّ بحور الشعر العربي الجاهلي قد تمخّضت عن (بحر الرّجَز)! وسواء توصّل إلى هذه الفرضيّة بناء على مطالعاته وخبراته في الشعر الجاهلي أم أنّه استقاها من نقاد القرون المتأخرة الذين عدّوا الرّجَز (حمار الشعر) وأخرجوا ناظميه من دائرة الشعراء الفحول، فإنّ نولدكة قد راهن على بساطة هذا البحر وتداخله بالنثر اليومي، حتى صار دارجاً على ألسنة العوام وغير الموهوبين. وأيّاً كان الأمر، فقد التقى مستشرقنا -من حيث يعلم أو لا يعلم- مع الجاحظ، على صعيد تقدير عمر الشعر العربي في العصر الجاهلي بـ 150 - 200 سنة قبل البعثة النبوية من جهة، كما التقى مع معظم الباحثين القدامى والمحدثين الذين افترضوا أنّ معلقة امرئ القيس تمثل نموذجاً لتقليد شعري كان حديث التكوّن من جهة ثانية.

اقرأ أيضاً: هل خَلَت الأندلس من المعتزلة حقّاً؟

ولعلّ أخطر طروحات نولدكه في هذه الدراسة، يتمثل في مناداته بتقديم الانشغال بتحديد نهاية الشعر العربي القديم (نمط القصيدة الجاهلية) على الانشغال بتحديد بدايته دون طائل. ووفقاً لهذا التقديم فإنّ الشاعر ذا الرّمة (ت 117 هـ)  يبدو الممثل الأخير للقصيدة البدوية التي واصل الأمويون رعايتها بحكم تأثرهم بالعصبية الجاهلية، فيما ذهب إلى أنّ السيادة الحقيقية للثقافة العربية الإسلامية في حقل الشعر تبدأ مع العباسيين (132 هـ)! بل إنّه قطع بأنّ عمر بن أبي ربيعة هو الشاعر الأكثر جدارة بالاعتناء من بين كل شعراء صدر الإسلام (جرير... الفرزدق... الخ)، نظراً لأنه تفرّد بامتلاك الجرأة على التعبير عن نمط الشعر العربي الجديد وعن واقع المجتمع الأرستقراطي القرشي في العصر الأموي!

اقرأ أيضاً: لماذا استنكر الفلاسفة المسلمون الشعر العربي؟!

لقد حمّل نولدكه الأمويين مسؤولية (انحطاط) نمط القصيدة الجاهلية البدوية على حد تعبيره، جرّاء إصرارهم على نقل مركز ثقلها المتمثل في الصحراء الشاسعة والقبائل المقاتلة إلى قصور أُمرائهم وولاتهم، كما نفى نفياً قاطعاً أن يكون الإسلام قد تسبّب بهذا الانحسار الشعري المريع. وفي السياق ذاته فقد حمّل رواة العصر الأموي (حمّاد الراوية وخلف الأحمر) مسؤولية اضطراب ديوان الشعر العربي في العصر الجاهلي، لتهالكهم على نيل العطايا فضلاً عن استهتارهم الشديد وافتقارهم للشعور بالمسؤولية، ونوّه في المقابل برواة العصر العباسي الذين أظهروا حرصاً حقيقياً على تدوين وتوثيق الشعر الجاهلي (المفضل الضّبي والأصمعي). وبوجه عام فهو لا يعفي مدرستي الكوفة والبصرة من مسؤولية الإسهام في اضطراب ديوان الشعر الجاهلي، بسبب التنافس الشديد بينهما.

اقرأ أيضاً: لماذا انضم الناصر العباسي لحركة الفتوّة؟

ومع أنه لم يستبعد قيام الرواة بإخضاع القصائد الجاهلية التي انطوت على أبيات أو إشارات وثنية، لتعديلات تجعلها متوافقة مع روح الإسلام، إلا أنه نظر بعين الاعتبار الشديد لعدد من العوامل الأخرى التي أسهمت مجتمعة في اهتزاز مصداقية ديوان الشعر العربي في العصر الجاهلي، مثل: انتشار القبائل العربية في الأمصار واختلاطها بالعجم، وإقدام الرواة على تلفيق القصائد لبعض الشعراء والقبائل لأسباب مادية أو معنوية عرضها ابن سلام الجمحي، فضلاً عن تفاوت مهارات نسّاخي المخطوطات وتسرّب بعض الأساطير التوراتية إلى هذا الشعر المصنوع.

اقرأ أيضاً: هل كان الصعاليك فرساناً اشتراكيين؟!

وحتى لا يبدو متحاملاً على مصادر الشعر الجاهلي، فإنّ نولدكه لم يدّخر وسعاً للتنويه بأنّ ما لحظه من اضطراب في هذا الشعر، يتكرّر بصورة أو بأخرى في مدوّنات كثير من الشعوب، كما لم يدخر وسعاً للتنويه بحقيقة اقتدار النقاد العرب القدامى على تبيّن الفروق الدقيقة بين القصائد الجاهلية التي تبدو متشابهة له ولغيره من المستشرقين، ومن ثم التنويه باقتدارهم على تبيّن الفروق الدقيقة بين الشعراء، لما تمتع به هؤلاء النقاد القدامى من معرفة وخبرة معجمية فيلولوجية فائقة.

اقرأ أيضاً: الحشّاشون الذين اغتالوا خصومهم وأرعبوا الناس

يختم نولدكه مراجعته هذه، بدحض وتفنيد ما يدعوه (خرافة المعلّقات) اعتماداً على المنهج النصي التاريخي فضلاً عن المنهج الحجاجي. ومن الملاحظ أنّ جُلّ الباحثين العرب المرموقين، قد أفادوا من هذه  المصادرة النابهة إلى أبعد الحدود، كما تجنّب معظمهم التنويه بدوره الريادي على صعيد دحض أسطورة المعلّقات لسبب أو لآخر، فبدت مصادراتهم عليها كما لو أنها من إبداعهم! وعلى كثرة المآخذ والتحفّظات التي أبداها بخصوص الشعر الجاهلي، إلا أنه أقرّ بالروح المنعشة التي تفوح منه وتدل على قوّته وجماله. كما أقرّ بأنه قدّم صورة حيّة للعرب الجاهليين بحسناتهم وسيئاتهم. ورغم اعتقاده أيضاً بحسيّة هذا الشعر وواقعيته الشديدة وافتقاره إلى الخيال المحلّق والتأمّل العميق، فقد أكّد في الوقت نفسه عظمة هذا الشعر بسبب روح الرجولة والقوة التي تسري فيه -خلافاً لروح العبودية والاستخذاء التي تهيمن على آداب كثير من الشعوب الآسيوية الأخرى- إلى درجة أنه طالب الشعب الألماني بأن يقتدي بهذا الشعر حتى يغسل عاره القديم!

 

حمّل نولدكه الأمويين مسؤولية "انحطاط" نمط القصيدة الجاهلية، جرّاء إصرارهم على نقل مركز ثقلها المتمثل في الصحراء الشاسعة إلى قصور أُمرائهم وولاتهم

 

 ومع أنّ نولدكه ما كان ليسعد بالطريقة التي غسل بها الألمان عارهم في الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ خلاصة ما نريد قوله في هذا المقال، يتمثّل في التدليل على أنّ كثيراً مما بدا صادماً للباحثين العرب في دراسة نولدكه عن تاريخ ونقد الشعر العربي القديم قبل عقود، قد صار من البديهيات المتداولة التي أكّدتها المصادر العربية القديمة نفسها. كما يتمثّل في التذكير بتعمّد إغفال ريادة نولدكه وغيره من المستشرقين الذين تجشّموا عناء قرع كثير من الأجراس على امتداد القرنين السالفين؛ ما يدفعنا للتساؤل مجدّداً عن مدى التزام كثير من الباحثين العرب بأخلاقيات البحث العلمي وهم يتّهمون المستشرقين بالإقدام على تشويه ثقافة وحضارة وتاريخ المشرق العربي!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية