لماذا تغدو مهمة "المحرر الأدبي" في دور النشر العربية مسربلة بالضباب؟

لماذا تغدو مهمة "المحرر الأدبي" في دور النشر العربية مسربلة بالضباب؟


10/03/2019

لم تفرض مهنة "المحرر الأدبي" حضورها في العالم العربي، ويتفاوت وجودها وجودتها، بحسب دار النشر وإمكانياتها المادية، لتوظيف محررين، يتمتعون بخبرة عالية في تحرير الأعمال الأدبية والإبداعية التي ترسل إليهم، بخلاف ما يجري في الغرب؛ حيث إنّ المحررين في دور النشر العريقة، تحديداً، لهم الصلاحية الكبرى في إجراء تعديلات جراحية أحياناً على النصوص الأدبية.

اقرأ أيضاً: كتب منعت من النشر في العالم العربي لأسباب دينية
وبسبب ذلك، تبدو هذه المهنة عالقة بمنطقة ضبابية، ما بين الكاتب والناشر والقارئ؛ حتى إنّ القراء لم يسمعوا من قبل عن محررين اتخذوا من مهنة المحرر الأدبي، عملاً مستقلاً، مثلما يجري في الصحافة مثلاً، إذ إنّ كثيرين من الصحفيين اليوم لا يعملون بمؤسسة صحفية معينة، إنما يعملون صحفيين مستقلين ويكتبون بأكثر من جريدة ورقية أو إلكترونية، ويتقاضون أجرهم، بالقطعة أو بالمقال.

 

 

ما دور المحرر الأدبي؟
وثمة من يرى أنّ من يقلل من أهمية دور المحرر الأدبي، يعتقد أنّ أغلب دور النشر، لا تفعل شيئاً بأي كتاب تنشره، سوى تدقيقه لغوياً ونحوياً، وإرسال بعض الملاحظات للكاتب ليقوم بتعديلها، وبعدها ينشر العمل. ومن يُعلي من شأن المحرر الأدبي، بشكل مبالغ فيه، غالباً ما يكون رأيه نابعاً من صراعات المثقفين والكتّاب بين بعضهم البعض للتقليل من نجاح كاتب/ة ما؛ كأن يقول أحدهم على سبيل المثال: لولا دور المحرر الأدبي في دار النشر الفلانية، لما ظهر العمل الأدبي الفلاني على هذا النحو. ويتساءل البعض؛ هل للمحرر الأدبي الذي يعمل في دور النشر العربية دور في إبراز كتّاب روائيين مميزين، وهل المحرر الأدبي يجب أن يكون أديباً بالضرورة، لكنه اختار البقاء في الظل؟

اقرأ أيضاً: حركة الطباعة والنشر في تونس.. نضال الكلمة والتنوير
يشكك الكاتب والروائي المصري نائل الطوخي في دور المحرر الأدبي، ويقول لـ"حفريات" إنه يُفضِّل الطريقة القديمة؛ أي بعد الانتهاء من الكتابة؛ يُرسل الكاتب مخطوط روايته لأصدقاء يثق بهم. وهو حرّ في حال يرغب بالأخذ بآرائهم أو لا. كما أنّ الطوخي يربط دور المحرر الأدبي بسياق واقع السوق العربي للنشر، بإيجابياته وسلبياته، معرباً من شعوره بأنّ "دور المحرر الأدبي، جاء مع زيادة تسليع الرواية، أو تسليع الأدب بشكل عام؛ مما نتج عنه طغيان مساحة الحرفة على حساب مساحة الإبداع، كأن  يطلب منك المحرر أن تضبط المقطع الفلاني، أو طول مقطع آخر".
وفي الوقت ذاته، لا يقلل الطوخي من المهام الكثيرة التي على المحرر الأدبي القيام بها: "التدقيق شي ضروري جداً؛ لأنّ الكاتب غالباً ما يسهو عن  بعض التفاصيل، أو يخطئ بتفاصيل أخرى، بما فيها اللغة: التدقيق اللغوي يعالج الأمر". كما يلقي الطوخي الضوء على جوانب أخرى من مزايا وعيوب المحرر: "في روايتي (الخروج من البلاعة)، تعاملت مع محرر أدبي لأول مرة  في حياتي، وهي المحررة سمر أبو زيد في دار الكرمة، وهي محررة عبقرية؛ إذ إنها لفتت انتباهي لأخطاء مهمة جداً في تفاصيل العمل. لكن عند نقطة معينة، قالت لي: هنا سيشعر القارئ بالملل، وقلت لها: معك حق، لكنني لا أستطيع أن أغيّرها، لن أبقى أنا، في حال تغيّرت. وعموماً، أفضّل دائماً أن أرى في عمل أدبي جزئية أو تفصيلة خشنة. لو كان العمل بأكمله ناعماً وسلساً، لن أصدقه. التفصيلة الخشنة بالعمل هي التي تشعرني بأصالته".
 الكاتب غالباً ما يسهو عن بعض التفاصيل، أو يخطئ بتفاصيل أخرى

مبدع النص له الكلمة الأولى والأخيرة
ويشارك الروائي المصري أحمد الفخراني، نائل الطوخي في رأيه، معتقداً أنّ "مبدع النص هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، لكن عليه أن يتعامل مع المحرر بنوع من الأريحية، شريطة الثقة المتبادلة بين الطرفين، وتفهم كل طرف لدوره، لذا لا أمانع أبداً من حيث المبدأ، في حدود الاقتراحات، كحذف يتعلق بما هو زائد عن الحاجة أو اقتراح استبدال كلمة بكلمة، أو ترتيب أفضل للفقرات، إعادة صياغة بعض الجمل، بما يجعلها أكثر وضوحاً".

صاحب دار سرد فايز علّام: المحرر مهنة حديثة في العالم العربي، والمشتغلون فيها ما زالوا يتلمسون طريقهم

كما أنّ الفخراني يلجأ، كما أبلغ "حفريات" إلى إرسال المسودة قبل العمل عليها، إلى بعض الأصدقاء من الأدباء أو ممن يثق في أنّهم لن يجاملوه، ويضع ملاحظاتهم بعين الاعتبار، ويشرع في تنفيذ ما أقتنع به من ملاحظات في صالح العمل، لأنّ "الكاتب يحتاج إلى إضاءة من أذواق مختلفة وأعين مختلفة كي يتمكن مناطق قوته وعيوبه بشكل واضح".
"المحرر مهنة حديثة في العالم العربي، والمشتغلون فيها ما زالوا يتلمسون طريقهم، ولا أعتقد أنّنا وصلنا إلى مرحلة يمكن لنا القول فيها إنّ للمحرر دوراً في إبراز رواية مميزة ما لم تكن بالأصل مميزة" هذا ما يقوله الكاتب والمحرر وصاحب دار سرد فايز علّام، الذي يرى أنّ مهمة المحرر الأدبي في العالم العربي - حسب معرفته واطلاعه على بعض التجارب – تقتصر على "تشذيب اللغة من زوائدها، وجعل العبارات أرشق، والاقتراح على الكاتب التوسّع هنا، والحذف هناك، ومراقبة التسلسل الزمني وضبطه، وإن كنا متفائلين بالمحرر يمكن لنا القول إنّه يقترح تبديل ترتيب بعض الفصول لجعل الحبكة أكثر تشويقاً".
المؤلف العربي ينظر لنصه كمقدس
لكن بالمقابل يرى علّام أنّ أغلب المؤلفين العرب ينظرون إلى نصوصهم كمقدس، ومن الصعوبة جداً أن يأخذ باقتراحات المحرر كلها، حتى لو كانت صائبة. ويضيف أنه وبحكم عمله في دور نشر عدة، عرف روايات قبل مؤلفوها بتدخل المحرر، وأجروا معظم ما اقترحه، ولكنهم رفضوا تعديلاً ما، أو إضافة ما. وكان هذا التعديل لصالح العمل من وجهة نظره. ويوضح علّام لـ"حفريات" "هذا لا يعني، طبعاً، أنّ جميع ما يقترحه المحرر صائب، إذ لا مرجعية لدينا لتعود إليها، وتستفيد من رأيها، ولا مرجعية تعود إليها لتتعلم هذه المهنة، ولا مرجعية يمكن لها أن تفاضل بين رأيك ورأي المؤلف إذا اختلفتما حول نقطة ما. كل ما نفعله حتى الآن هو التجريب، وقد نفشل أو ننجح".

اقرأ أيضاً: تعرف على تاريخ الطباعة والنشر في الأردن وفلسطين
بيْد أنّ الطوخي يوضح الفرق في ما بين الكاتب والمبدع من جهة، والمحرر من جهة أخرى: "في أي عمل فنّي، تحتاج لشيئين: إبداع وحرفة. أحياناً كثيرة يكون العمل الأدبي مفتقداً إلى الإبداع، لكنه مشغول بحرفية، تجعل القارئ لا ينتبه لها. إنما سرّ الأدب، قدس الأقداس، والجوهرة الخبيئة فيه، ليس لها علاقة بالتحرير الأدبي، وإنما لها علاقة بالشيء الشائك وغير المريح وشديد الأصالة الموجود داخل النص، الشيء الذي نسميه (إبداعاً)".
 تحرير الترجمة (أي: المراجعة) يختلف عن تحرير التأليف

المحرر بوصفه قارئاً جيداً
أما المترجم السوري يزن الحاج فيرى أنّه لا أهمية لوجود المحرر؛ لأنّ العمل الأدبي فرديّ بالضرورة. إن كان عمله تحديد مواطن الضعف، أو لفت النظر إلى عمل جيّد، فهذا عمل أيّة لجنة قراءة. وبالتالي فالمحرر "قارئ نصوص" حتى لو سمّى نفسه محرّراً. "أما إن كان يعني التدخّل في النص، فهذا يفترض أنّ النّتاجات ستختلف باختلاف محرّريها، ولكنّنا لا نرى تلك الاختلافات في جحيم التماثل الذي يسم المشهد الأدبيّ باستثناءات نادرة. وهذه الاستثناءات تطوّرت بتطوّر كاتبها، لا محرّرها، سواء بقي الكاتب في دار واحدة أو غيّرها".

الروائي أحمد الفخراني: المحرر في النهاية ليس مبدعاً، بل عين إضافية وضابط لإيقاع ما

ولا يظن الحاج أنّ تحرير الترجمة (أي: المراجعة) يختلف عن تحرير التأليف، حيث يقتصر على تعديلات طفيفة يمكن للكاتب أن يكتشفها بنفسه، أو حين يعرض المخطوطة على من يثق برأيه.
وجهة النظر هذه تتقاطع مع كلام الطوخي: "الأدب الجيد في اعتقادي يفرض صفاته. دور المحرر وورش الكتابة، إنتاج أدب على غرار نتاجات أدبية كتبت من قبل. بينما الأدب الجيد، لا يكون على غرار نتاجات أدبية كتبت من قبل، إلا في حال وجود محرر يفهم جيداً عقلية الكاتب، وقادر على الدفاع عن صوت الكاتب أمام الكاتب نفسه، كأن يقول له مثلاً: هذا المشهد لم أحبه، لأنني شعرت أنك متأثر فيه بكتّاب آخرين".
وليس مطلوباً من المحرر أن يكون أديباً أو مبدعاً، كما يرى الطوخي، بل المطلوب منه "أن يكون أفضل قارئ للعمل، وقادراً على رؤية مستقبل العمل، وكيف سيتم تلقيه بعد خمسين سنة مثلاً. وهذه مهارة قارئ، وليست مهارة إبداع".
ويرى الفخراني الأمر ذاته؛ فالمحرر في الأصل "قارئ يمتلك أدوات احترافية، كناصية اللغة، ومعرفة بشروط الرواية كصنعة، بالإضافة لخبرة واسعة بأذواق القراء ومتطلبات سوق النشر، المحرر في النهاية ليس مبدعاً، بل عين إضافية، ضابط لإيقاع ما. لكنه ليس بالضرورة مبدعاً. وأؤكد مرة أخرى أنّ صاحب النص هو المبدع الأصلي، وصاحب الكلمة الأخيرة، لو تم احترام تلك الحدود سيصير لتلك المهنة معنى".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية