ماذا تعرف عن التوسّع السياسي للكنيسة في أمريكا اللاتينية؟

ماذا تعرف عن التوسّع السياسي للكنيسة في أمريكا اللاتينية؟

ماذا تعرف عن التوسّع السياسي للكنيسة في أمريكا اللاتينية؟


16/11/2023

ترجمة: علي نوار

لم تكن الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة،.. واضحة أبداً، وما تزال كذلك حتى اليوم؛ فعلى مرّ التاريخ، ظلّ الصراع بين السلطتين؛ السياسية والدينية، دائراً، بل ودخل أكثر من مرة في فترات من التوتّر الشديد والعنف أحياناً، وفي أوروبا وأمريكا اللاتينية، خلال القرن الـ 20، ظهرت بشكل مستمر أحزاب ديمقراطية مسيحية، وصلت في مناسبات عديدة لسدّة الحكم، مثلما حدث في تشيلي وفنزويلا وكوستاريكا وجواتيمالا، وفي عصرنا هذا، يتستّر نوع من الإرهاب الأصولي بغطاء إسلامي، في حين تسعى حركات أصولية دينية بعينها لزيادة وجودها في المناطق الأكثر تنوعاً من العالم، وفي الوقت نفسه؛ تشهد أمريكا اللاتينية صعوداً لحركات سياسية ذات خلفية إنجيلية تكسب، يوماً بعد يوم، أرضاً في المشهد السياسي بدولها، ما جعلها تتحوّل إلى ظاهرة ذات بعد إقليمي.

اقرأ أيضاً: ماكرون.. الكنيسة والعلمانية والإسلام الفرنسي

ويمكن اليوم، عملياً، العثور على كنيسة إنجيلية، أو دار عبادة، لهذه الطائفة في كلّ أرجاء القارة، حتى الأكثر فقراً وتهميشاً منها، وقد أسهمت الرابطة المستمرة والوثيقة؛ بين الكنائس الخمسينية، والخمسينية الجديدة، والطبقات الشعبية، والفئات الأفقر في المجتمع، لهذه الكنائس بالبروز على الساحة السياسية بصورة لافتة للنظر، أكثر مما قد يفعله أيّ حزب أو حركة أخرى، وإذا أضفنا إلى ذلك توجّهها العقائدي الخاص، فيمكننا أن نخلص، مثلما فعل أستاذ العلوم السياسية، خابيير كوراليس، إلى أنّ الكنائس الإنجيلية "تمنح القضايا المحافظة في أمريكا اللاتينية- والأحزاب السياسية على وجه التحديد- دفعة جديدة وكتلة تصويتية جديدة أيضاً".

ويذهب هذا الخبير لأبعد من ذلك، بقوله: إنّ "صعود المجموعات الإنجيلية أمر يدعو للقلق من المنظور السياسي؛ لأنّها تغذّي نوعاً من الشعبوية، وتمنح الأحزاب المحافظة مصوّتين لا ينتمون للنخبة، وهذا أمر يصبّ في صالح الديمقراطية، لكنّ هؤلاء الناخبين يتبنّون مواقف متصلّبة تجاه الملفات المتعلّقة بالجنس، ما يفضي إلى حالة من الاستقطاب الثقافي، وقد أعيد إحياء نموذج الإدماج غير المتسامح، الذي لطالما كان يمثّل النسخة الكلاسيكية من الشعبوية في أمريكا اللاتينية، على أيدي القساوسة الإنجيليين".

للكنائس الإنجيلية دور بارز على الساحة السياسية

الظهور الإنجيلي في أمريكا اللاتينية

من جانبها، تؤكّد مارتا لاجوس، مديرة مؤسسة "لاتينوبارومترو" غير الحكومية، ظاهرة الصعود الإنجيلي، موضّحة "هناك تزايد مطّرد في نفوذ الكنيسة الإنجيلية، خاصّة بين الشرائح الأفقر، المرشحون يسعون إلى جمع أصوات الناخبين الإنجيليين"، بالتالي؛ فإنّ أمريكا اللاتينية تشهد ظاهرة جديدة تماماً؛ هي صعود الكنائس الإنجيلية، خاصة الخمسينية والخمسينية الجديدة منها.

البرازيل نواة التوسّع للكنائس الإنجيلية في أمريكا الجنوبية وينعكس ذلك في وجود قساوسة برازيليين في كلّ عواصم دول أمريكا اللاتينية

ونجحت هذه الكنائس في تعزيز حضورها السياسي في عدّة بلدان، فضلاً عن تقوية تمثيلها المؤسسي، سواء عن طريق المناصب الحكومية، أو في البرلمانات، بداية من مجالس النواب الوطنية والإقليمية، لكن من المهم هنا التفريق بين الكنائس الإنجيلية التاريخية القديمة، مثل الميثودية، وتلك الأحدث مثل الخمسينية والخمسينية الجديدة، لا سيما تلك المرتبطة بـ "الحركة الجاذبة"، نظراً إلى النهج السياسي المختلف الذي تتبعه الأولى.

وينبغي البحث عن جذور هذا التوسّع في الحملات التبشيرية التي نفذتها كنائس إنجيلية بعينها من الولايات المتحدة؛ اعتباراً من أواسط القرن الماضي، التي أدّت إلى دخولها إلى أمريكا الوسطى بشكل أساسي، أمّا نواة التوسّع للكنائس الإنجيلية في أمريكا الجنوبية؛ فقد كانت البرازيل، وهو ما ينعكس اليوم في وجود قساوسة برازيليين في كلّ عواصم دول أمريكا اللاتينية، أو الكثير من مدنها الكبرى.

اقرأ أيضاً: كيف تُبنى كنيسة من دون صدام طائفي؟!

لكن، كما ذُكر سابقاً؛ فإنّ التداخل بين الدين والسياسة ليس ظاهرة مستحدثة، والتمازج بين الحركة الإنجيلية والسياسة ليس كذلك أيضاً، فقد تمكّن ألبرتو فوخيموري من الحصول على دعم عدة كنائس إنجيلية، بينما كان ما يزال غير معروف بين قطاعات واسعة من البيروانيين، ليخوض الانتخابات الرئاسية، ورافق القسّ كارلوس جارسيا، زعيم الكنيسة المعمدانية، فوخيموري، كنائب رئيس، كمرشحين عن حزب (كامبيو 90)، أو (تغيير 90)، الذي فاز في انتخابات 1990، واختير جارسيا نائباً ثانياً للرئيس.

وكان دعم الكنيسة المعمدانية، وكنائس أخرى إنجيلية، في بيرو، أساسياً لضمان فوز فوخيموري؛ فقد عملت هذه الكنائس على جمع التوقيعات اللازمة كي يمكن تسجيل (تغيير 90) كحزب سياسي؛ حيث تتسنّى له المشاركة في الانتخابات، علاوة على المساهمة في تشكيل لجان محلية بجميع أنحاء البلاد كوسيلة من وسائل ضمان توفير أكبر قدر من الدعم الشعبي، ليس ذلك فحسب؛ بل ترشّح 50 من أتباع الكنيسة الإنجيلية لانتخابات البرلمان عن حزب (تغيير 90)، انتخب 14 منهم في مجلس النواب، ودخل أربعة آخرون مجلس الشيوخ، إلّا أنّ الشعور بالإحباط تجاه الرئيس الجديد تنامى سريعاً، سيما أنّه لم يحقق فقط مستويات التنمية التي كان قد تعهّد بها؛ بل لأنّه منح الكنائس الموالية له الامتيازات نفسها التي كانت تتمتع بها الكنيسة الكاثوليكية.

تحظى التيارات الإنجيلية بعامل لا تتمتع به الأحزاب التقليدية وهو القرب من الطبقات الشعبية التي اعتادت منح أصواتها لأحزاب اليسار

هناك نموذج آخر، أكثر حداثة، يعطينا فكرة عن الصعود غير المسبوق للتأثير الإنجيلي في الحياة السياسية في دول أمريكا اللاتينية، والمؤشرات الإيجابية التي يمكن التقاطها دوماً من السياسيين، سواء المحسوبين على تياري اليسار أو اليمين؛ ففي 2014، وقبل شهرين فقط من إحدى الاستحقاقات الانتخابية، الأكثر سخونة في البرازيل على مرّ تاريخها، اتّفق عدد كبير من الساسة على الاجتماع في وسط مدينة ساو باولو، لحضور افتتاح كنيسة "سالومون" الضخمة، التي تقع على مساحة 100 ألف مترمربع، وتتسع لـ 10 آلاف مصلٍّ.

ورغم ماضيها، المعروف بانخراطها في الميليشيات المسلحة، وإعلانها أنّها ليست مؤمنة، إلا أنّ الرئيسة البرازيلية وقتها، ديلما روسيف، من حزب العمال، حضرت المراسم، مثّلها في ذلك نائبها ميشيل تامر الذي تولى الرئاسة خلفاً لها، ويستعدّ حالياً لتسليم السلطة للرئيس المنتخب، جايير بولسونارو، كما ظهرت في ذلك الحدث مجموعة من أبرز الوزراء، وكذلك جيرالدو ألكمين حاكم ساو باولو، وفرناندو حداد عمدة المدينة، وأيضاً المرشحون الرئاسيون عن الحزب الاجتماعي الديمقراطي البرازيلي، وحزب العمال، في انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2018؛ هكذا جمعت الكنيسة الفرقاء السياسيين من كلّ الأطياف، ما يعطي صورة واضحة للغاية حول حجم الثقل الذي اكتسبه الإنجيليون خلال الأعوام الأخيرة على الساحة السياسية في البرازيل.

اقرأ أيضاً: بين التدين النفعي واقتصاديات الكنيسة المصرية

وكان صاحب فكرة هذا المشروع الطموح؛ الأسقف إيدير ماسيدو، قائد (الكنيسة العالمية لمملكة الربّ)، وأحد أبرز رموز الطائفة الإنجيلية في البرازيل، والذي يتمتع في الوقت ذاته بثروة هائلة، ورغم أنّ ماسيدو كان من أبرز أنصار لولا دا سيلفا من قبل، إلّا أنّه كان من أهم العوامل المؤثرة التي أسهمت في فوز بولسونارو بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، كما أنّ هذا العسكري السابق، الذي انخرط في مجال السياسة، اعتمد أيضاً على شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك شبكة "تي في ريكورد" الإعلامية المؤثرة، التي يمتلكها ماسيدو.

أما في المكسيك؛ فقد تحالف حزبا حركة التجديد الوطني (مورينا)، مع حزب (الاجتماع الاجتماعي)، ذي الخلفية الإنجيلية، بهدف حشد أكبر قدر ممكن من الدعم لصالح أندريس مانويل لوبيث أوبرادور، قبيل الانتخابات الرئاسية الحاسمة، في تموز (يوليو) 2018، وقد أسفرت النتائج لاحقاً عن فوز مضمون للوبيث أوبرادور، بفضل هذا التحالف، الذي كان له الفضل في إيصال الرجل إلى القصر الرئاسي، بعد أن كانت جميع استطلاعات الرأي تشير إلى انتصاره، وحصول الأحزاب الثلاثة على أغلبية واسعة في غرفتي البرلمان الفيدرالي.

الأسقف إيدير ماسيدو

ومن جانبه، وحرصاً منه على أصوات الإنجيليين، سعى لوبيث أوبرادور لجذبهم إليهم، رغم تأكيده طوال نصف عام على أنّه لا علاقة له بحزب (الاجتماع الاجتماعي)، ولن يقترن اسمه به قط يوماً ما، وفي اليوم الذي أعلن فيه ترشحه للانتخابات، ممثلاً للمحافظين المتشددين، وفي خضم الحملة الانتخابية، أكّد أنّه "مسيحيّ بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، لأنّ المسيح هو الحبّ".

وتمتلك جواتيمالا، في الوقت الراهن، رئيساً إنجيلياً؛ هو جيمي موراليس، رغم ضعف أو انعدام الخبرة السياسية لدى انتخابه، والأمر نفسه ينطبق على كوستاريكا؛ التي كانت على وشك أن يرأسها إنجيلي آخر بعد فابريثيو ألبارادو. وفي تشيلي؛ اعتمد سباستيان بينييرا على أصوات الإنجيليين في الانتخابات الأخيرة؛ بل ضمّ في حملته الانتخابية أربعة أساقفة إنجيليين، كما ترشّح القسان الإنجيليان؛ خابيير برتوتشي، وخورخي أنطونيو تروخيو، في الانتخابات الرئاسية في كلّ من فنزويلا وكولومبيا، رغم فرصهما الضئيلة. وأخيراً انتخب جايير بولسونارو رئيساً للبرازيل، في ظلّ دعم حاشد من الكنائس الإنجيلية.

الدخول الإنجيلي إلى السياسة

كي ترفع من قدرتها على الحراك السياسي، تحظى التيارات الإنجيلية بعامل لا تتمتع به الأحزاب التقليدية، خاصّة الأكثر محافظة، ألا وهو القرب من الطبقات الشعبية، التي سئمت من النخب، والتي اعتادت منح أصواتها بشكل مستمر لأحزاب اليسار، كما أنّ التيارات الإنجيلية تملك شبكة واسعة من دور العبادة موزعة على جميع أنحاء البلدان، فضلاً عن مجموعة من وسائل الإعلام ذات التأثير القوي، تضمّ مئات أو آلاف من محطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية، تصل للقواعد الشعبية بكلّ يسر، علاوة على وجود قويّ عبر منصّات التواصل الاجتماعي.

الكنائس الإنجيلية تمنح القضايا المحافظة في أمريكا اللاتينية، والأحزاب السياسية تحديداً، دفعة جديدة وكتلة تصويتية جديدة

بهذه الطريقة، لا يستفيد الإنجيليون من الأرضية التي تفقدها الكنيسة الكاثوليكية فحسب؛ بل أيضاً السخط الاجتماعي الهائل تجاه السياسة والحكومات، ومع حضور قوي في الأحياء الشعبية، تقدّم الكنائس الإنجيلية إلى شرائح مختلفة من المجتمع، خاصّة تلك الأشدّ احتياجاً، جميع صور المساعدة، بدءاً من الرعاية الصحية، أو الأبناء، وحتى البحث عن فرص عمل، وتعجز أيّة حركة سواء كانت سياسية أو اجتماعية، أو منظمة غير حكومية أخرى، أو حتى الأحزاب اليسارية، على وجه الخصوص، عن منافسة الكنيسة الإنجيلية في مضمار الخدمات المتنوعة التي توفرها الأخيرة، والتي تسمح لها بمزيد من التداخل مع المجتمع.

عموماً؛ لا وجود لنموذج إقليمي بعينه للحراك والانخراط في السياسة الذي تقوم به الكنائس الإنجيلية؛ ففي بعض الدول يمكن لأتباع هذه الكنائس الخروج إلى الشوارع، للتظاهر ضدّ مقترحات قوانين ترى الكنيسة أنّها تتناقض مع معتقداتها، وفي دول أخرى تمتلك الكنائس مجموعات سياسية تمثلها، ويصل الأمر في بعض الحالات إلى وجود مرشحين رئاسيين عن الكنائس الإنجيلية.

رئيس جواتيمالا الإنجيلي جيمي موراليس

بيد أنّه، رغم الخصائص المميزة لكلّ دولة؛ فإنّ المظاهر السياسية ذات الخلفية الإنجيلية تأخذ منحنى الصعود، وبصورة أقوى، في كلّ مدى على الخريطة السياسية بأمريكا اللاتينية؛ فحتى وقت قريب مضى؛ كانت أغلب الخيارات المتاحة أمام الكنائس الإنجيلية المنخرطة في السياسة والأحزاب التي تدعمها تقتصر على المستويات المحلية والإقليمية وحضور برلماني، ولا تشمل المنافسة على مناصب تنفيذية، إلّا أنّه بالنظر للنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات مؤخراً في المنطقة، يمكن –بسهولة- رؤية أنّ هذا الوضع قد تغيّر وبوتيرة متسارعة.

ويصوّر هذا الوضع، بكلّ وضوح ودقّة، أهداف النشاط السياسي الإنجيلي، وقصوره، في الوقت ذاته؛ فالكنائس الإنجيلية اعتادت ممارسة قدر متصاعد من الضغط في النقاش السياسي حول ما يخصّ القيم والأخلاق: الأسرة والنوع والجنس، وتعد هذه الممارسة أحد ملامح نشاطها، وكما يحدّد خابيير كوراليس "أيدولوجية القساوسة الإنجيليين متباينة"، فيما يتعلق بملفات النوع والجنس؛ حيث يلجؤون دائماً للحديث عن "قيم.. المحافظة، الأبوية، المعادية للمثلية الجنسية".

اقرأ أيضاً: الدعاة الجدد: عندما ترتدي المدرسة الإنجيلية ثوباً إسلامياً

مثلما ذكرنا آنفاً؛ فإنّ الأجندة الأخلاقية والسياسية الإنجيلية تدور حول الدفاع عن قيم الأسرة، ما يعني بشكل أساسي رفض الإجهاض والتلقيح الاصطناعي، وزواج المثليين، والانفصال، والقتل الرحيم، وباستثناء فقط؛ حين يتعلق الأمر بالدفاع عن الأسرة المسيحية وقيمها، تميل مقترحاتها نحو رفض مسائل بعينها، بدلاً من دعم مقترحات محددة، وفي "باقة" الرفض هذه؛ تحتل "الأيدولوجية الجنسانية" الشريرة مركز الصدارة، وقد ساهمت مكافحة هذه الأيدولوجية في استقطاب عدد كبير من الأتباع، إلّا أنّ الأمر لا يتعلّق بإرث حصري يحتفظ به القياديون الإنجيليون؛ حيث إنّ قطاعاً لا بأس به من المؤسسة الكاثوليكية، وعدداً ليس بقليل من رجال الدين، كشفوا علانية رفضهم لها.

ويستغل هذا التعريف، المنبثق من رؤية محافظة، بشكل معتاد للقضاء على أيّة محاولة للدفاع عن الجنسي، واختلاف الهويات الجنسية، بداعي أنّ كل ذلك يمثل أيديولوجية، وليس منهجاً علمياً للتعاطي مع المشكلة، أو موقف الأخصائيين النفسيين والأطباء الآخرين، ويقول كوراليس: إنّ "أيديولوجية النوع تسمح للإنجيليين بإخفاء كراهيتهم للمثلية الجنسية وراء ستار حماية القصر".

يبلغ عدد الكاثوليك بأمريكا اللاتينية اليوم 425 مليون شخص، أي ما يمثل 60% من سكان المنطقة

أما المحور الآخر المحرك لأتباع الكنائس الخمسينية والخمسينية الجديدة؛ فكانت مكافحة الفساد وانتقاد دور السياسيين في ذلك الصدد، وتمكن -بالنظر إلى كلّ هذه الملفات- ملاحظة وجود تقارب ملفت للانتباه بين الكنائس الإنجيلية، والمؤسسة الكاثوليكية، وحركات اجتماعية-مسيحية، وأحزاب سياسية ذات خلفية محافظة، وتمكن رؤية هذا التوافق بصورة أوضح في مناسبات بعينها، خاصة حين يصل الموقف درجة الفضيحة، وتتبارى وسائل الإعلام في الحديث عنه.

بيد أنّ الزعماء الإنجيليين، وممثليهم السياسيين، والمتحدثين باسمهم في وسائل الإعلام، لا يقدّمون عادةً أيّة رؤى تجاه ملفات أخرى أساسية في إدارة الدولة، مثل الاقتصاد أو العلاقات الدولية، لكن يجدر بنا الانتظار لمعرفة ما إذا كانوا سيستمرون على هذا النهج، حتى بعد حصولهم على مزيد من التمثيل داخل المؤسسات الحكومية، والدوائر الأرفع من حيث المستوى.

يتميز الأشخاص الذين ينتمون للطائفة الإنجيلية بالانضباط الشديد؛ فصوت قساوستهم هو مرجعية واضحة، وبالطبع يكون كذلك أثناء التصويت، وبغضّ النظر عن مواصفات المرشحين، لكن عندما تحين الانتخابات فإنّ توجّهاتهم السياسية لا تصنع الفارق وحدها؛ بل أيضاً توصيات رجال الدين، في آلية تشبه تلك التي ظلّت سارية طوال عقود داخل الأحزاب الشيوعية، التي هيمنت عليها فكرة المركزية الديمقراطية.

اقرأ أيضاً: فنزويلا بوابة مرور الإرهاب إلى أمريكا اللاتينية

بالتالي، واستناداً إلى الثقل المتزايد والانضباط أثناء الاستحقاقات الانتخابية، أصبح الصوت الإنجيلي مرغوباً بشدة من جانب جميع المرشحين تقريباً، على اختلاف توجّهاتهم السياسية والفكرية، وقد تكرّرت هذه الظاهرة في كلّ من كولومبيا والبرازيل والمكسيك، وستظهر مرة أخرى في دول أخرى بأمريكا اللاتينية؛ التي ينتظر أن تجرى فيها انتخابات قريباً.

ولا يجب إغفال أنّ عام 2019 سيشهد انتخابات في جواتيمالا والسلفادور وبنما والأرجنتين وأوروجواي وبوليفيا، ما يشكّل فرصة سانحة لتقييم سلوك الصوت الإنجيلي في جميع هذه البلدان.

 

 

وفي دولة مثل البرازيل؛ تتركز سطوة الإنجيليين البرلمانية فيما يعرف باسم "مجموعة الكتاب المقدس"؛ فقد كانت الكنائس الإنجيلية ممثلة خلال الدورة البرلمانية السابقة بـ 81 نائباً (من إجمالي 513)، فضلاً عن ثلاثة أعضاء في مجلس الشيوخ (من إجمالي 81 سيناتور)؛ لذا ارتأت الكنائس الإنجيلية تشكيل مجموعة برلمانية متماسكة، ومنظمة على نحو جيد، تسمح لهم بالتصدي للممارسات المناهضة لها. وكانت هذه المجموعة هي المسؤولة عن طرح جميع المبادرات الخاصة بتقنين الإجهاض والزواج بين الأشخاص من الجنس نفسه، الذي سمحت به المحكمة العليا البرازيلية عام 2014، وقد تأسست مجموعة (3 بي)، لدعم الرئيس بولسونارو، التي تضمّ كلّاً من "مجموعة الكتاب المقدس"، متحالفة مع المدافعين عن حرية اقتناء الأسلحة للدفاع عن النفس، وكبار المنتجين الزراعيين، وأرباب أعمال مشروعات الثلاجات.

ونتيجة للضغط الذي مارسته الكنائس الإنجيلية، تمكّنت من إغلاق بعض المعارض الفنية، باعتبار أنّها تقدّم محتوى يتنافى مع الأخلاق، وقد حدث ذلك أثناء معرض نظمه مركز "سانتاندير" الثقافي، في مدينة بورتو أليجري، والذي اضطر لإنهاء فعالياته بعد قليل من تدشينها، في أيلول (سبتمبر) 2017، وكانت الادعاءات تتركز حول أنّ مصرف "سانتاندير"، الذي كان يرعى الحدث، يشجع على "دعارة الأطفال وممارسة الجنس مع الحيوانات والإباحية"، وذلك وفق ما روّجت له "حركة البرازيل الحرة"، ومجموعات إنجيلية أخرى، في خضم حملة ضارية عبر الشبكات الاجتماعية أجبرت المنظمين على إنهاء الحدث.

الحضور الإنجيلي للكنائس الإنجيلية

شهد الوجود الإنجيلي في أمريكا اللاتينية، خلال العقود الأخيرة، تزايداً مطّرداً، رغم أنّ هذا الصعود لم يكن بالوتيرة نفسها، ويتحكم في ذلك عاملان؛ الازدياد المستمر في عدد المسيحيين من غير الكاثوليك، ما يمثل تحدياً بالنسبة إلى مؤتمرات الأساقفة المختلفة؛ ومن ناحية أخرى؛ الإحباط المتنامي من السياسيين والأحزاب، ما أسهم في ظهور خيارات جديدة.

اقرأ أيضاً: المسيحيون السريان في تركيا.. هل تحولت كنائسهم إلى مساجد؟

وفي الوقت الحالي؛ يمثل الإنجيليون 20% من سكان أمريكا اللاتينية، وتكتسب هذه النسبة أهمية كبيرة إذا قورنت بـ 3%، قبل 60 عاماً، وفق البيانات التي كشف عنها معهد "بيو" للأبحاث، وطبقاً للمعهد؛ فإنّ 10% من سكان المكسيك هم من الإنجيليين، وترتفع النسبة إلى 15%، في بيرو والإكوادور وكولومبيا وفنزويلا والأرجنتين وبنما، وإلى 20% في كوستاريكا وبويرتوريكو، وتتراوح بين 22% إلى 27% في البرازيل، ويتجاوز الرقم 40%، في بعض دول أمريكا الوسطى، مثل جواتيمالا وهندوراس ونيكاراجوا.

ويعود الصعود الإنجيلي، بالأساس، إلى تراجع مواز للكاثوليكية، كما أشير سابقاً، وعوضاً عن "لاهوت التحرير" الذي روّج له قساوسة ثوريون وعمّال ومزارعون، عرف القساوسة الإنجيليون، خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كيف ينشرون بين أتباعهم بنجاح كبير ما يعرف باسم "لاهوت الازدهار"، وهو المفهوم الذي تعبّر عنه، بكل وضوح، المبادئ والمصالح التي تحرّك المؤمنين به.

بابا الفاتيكان فرانسيس

واليوم؛ يبلغ عدد الكاثوليك في أمريكا اللاتينية 425 مليون شخص، أي ما يمثل 60% من سكان المنطقة، بحسب أحدث إحصاءات "لاتينوبارومترو"، كما أنّ هذا الرقم ذو حيثية أيضاً؛ لأنه يعني أنّ 40% من الكاثوليك على مستوى العالم يعيشون في أمريكا اللاتينية، ويجب أن نضيف هنا معلومة أخرى بالغة الأهمية؛ هي أنّ بابا الفاتيكان فرانسيس (خورخي ماريو برجوليو)، الذي تولّى المنصب منذ آذار (مارس) 2013 أرجنتيني الأصل، لكنّ ذلك لا ينفي أنّ الأغلبية الكاثوليكية تراجعت بشكل ملحوظ، مقارنة بنسبة الـ 80% التي سجلت عام 1996.

وبالنظر إلى هذه العملية الثنائية من تراجع أعداد الكاثوليك، وما يقابله من ازدياد الإنجيليين، من الضروري أن يقودنا ذلك نحو سؤال حول الهجوم المنظم على لاهوت التحرير من قبل الفاتيكان والمؤسسات الكنسية الإقليمية؛ حيث تمّ نبذ "لاهوت التحرير"، وبالتالي هجر الكنيسة الكاثوليكية لقطاعات شعبية.

اقرأ أيضاً: هل تقرع أجراس الكنائس في السعودية؟

وقد بدأت بعض الكنائس الإنجيلية ترصد مؤشرات تدعو للقلق فيما يخص شبه العسكرة، ومن أوضح النماذج لها؛ ما يعرف باسم "مصارعو المسيح"، التي تنتمي إلى "الكنيسة العالمية لمملكة الربّ؛ وذلك يعني أنّ هناك أتباعاً حصلوا على تأهيل عسكري من نوع ما، رغم أنّ هذه ليست ظاهرة جديدة لا داخل ولا خارج أمريكا اللاتينية، مثل منظمة "جماعة الحياة المسيحية" الكاثوليكية البيروانية، التي كانت تحاول أن يعيش أعضاؤها في المجتمع بوصفهم "جنود المسيح"، وهي ظاهرة ينبغي متابعتها عن كثب.

وقد اعترف بابا الفاتيكان السابق، يوحنا بولس الثاني، عام 1997، بهذه الجماعة، التي يقودها علمانيون، كما لا يمكن نسيان جماعات أخرى كاثوليكية علمانية، تأسست في البرازيل، في أعقاب الثورة الكوبية، قبل أن تنتشر في أرجاء واسعة من أمريكا اللاتينية، وشنّت حملة قوية ضدّ لاهوت التحرير.

ويبقى السؤال: هل تتحول الكنائس الخمسينية والخمسينية الجديدة نحو الحراك المباشر عن طريق أصوات أتباعها الانتخابية؟

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://goo.gl/YfSxLg


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية