مازن أكثم سليمان: الاستبداد الديني يتحالف مع السياسي بالإقصاء والتطرف والتعصب

مازن أكثم سليمان: الاستبداد الديني يتحالف مع السياسي بالإقصاء والتطرف والتعصب

مازن أكثم سليمان: الاستبداد الديني يتحالف مع السياسي بالإقصاء والتطرف والتعصب


19/10/2023

أجرت الحوار: أنجيل الشاعر

قال الشاعر والأكاديمي السوري الدكتور مازن أكثم سليمان إنّ الاستبداد الدينيّ هو عامل موضوعيّ يتحالف مع الاستبداد السِّياسيّ في وحدة التَّكفير والإقصاء والتَّطرُّف والتَّعصُّب. منوهاً إلى ضرورة قراءة صعود التَّسييس الدّينيّ بوصفِهِ حقبة صيروراتيّة مَرحليّة غير نهائيّة أو مُغلَقة.

ويرى سليمان، في حواره مع "حفريات"، أنّ الثَّورات والحروب تُمثِّل فرصة بالغة الأهمّية والتَّعقيد كي يُقدِّم الشعراء اقتراحات فنِّيّة وجماليّة ذات أبعاد مَعرفيّة وفقَ آليّات شِعريّة مُتعدِّدة، مؤكداً أنّ حركيّة الثَّورات نفسَها هيَ حركيّة توليديّة فلسفيّة تنطوي نظَريّاً ووقائعيّاً على مَخاضات (فلسفيّة) تفكيكيّة وتأسيسيّة في الوقت نفسه، موضحاً أنّ هذه الحركيّة لا تخلو من مكر التاريخ وإيلامِهِ الحادّ من ناحية، ومن تخليق طويل الأمَد للمُستقبَل العربيّ الحرّ الدّيمقراطيّ المأمول من ناحية أخرى.

الشعر مرتبط بسياق تأريخيّ خطّيّ تراكُميّ من ناحية وبفَجوة انفتاح تكرِّرُ الاختلاف في كُلّ عصر

والدكتور مازن أكثم سليمان شاعر وناقد سوري، حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الأدبية من جامعة دمشق، صدر له ديوان شعر عن دار الفاضل بدمشق العام 2006 بعنوان: "قبلَ غزالة النّوم"، وأطلق بياناً شعرياً العام 2015 بعنوان : "الإعلان التخارُجي".

يتميز بموسوعية كتاباته؛ حيث بدأ بنشر الشعر والدراسات النقدية منذ العام 1999، ونشر في السنوات الأخيرة عشرات القصائد والنصوص والمقالات والدراسات النقدية والفكرية والفلسفية في الجرائد والمجلات والمواقع العربية، ولديه عدد من المخطوطات المختلفة قيد الطباعة.

وهنا نص الحوار:

بدايةً: كيف تقدم نفسك وتجربتك؟ وفي أي حقل تجد ذاتك أكثر: في الشعر أم النقد أم الفكر؟

أقدِّم نفسي بوصفي إنساناً سوريّاً عربيّاً كونيّاً ولِدْتُ في عصر قاسٍ، وفي منطقة هشّة سياسيّاً واجتماعيّاً، وحمَلْتُ على عاتقي جُملة هموم ثقافيّة وفكريّة محلّيّة وعالَميّة، وما زلتُ أعمَل وأحلُم وأُصارِع في هذا الواقع الصَّعب. وما من فرقٍ عندي أو حُكم قيمة تفضيليّة بالمَعنى المعرفيّ العام بأن يكون نتاجي أو اقتراحاتي المُختلِفة مُنجَزَةً في أيِّ حقل من الحقول التي أخوض بها، مع التَّأكيد حتماً على الخُصوصيّة النظَريّة والإجرائيّة لكُل حقل منها على حدة، لكنْ يبقى لديَّ همّ ثقافيّ ووجوديّ جامع في الإطار الكُلِّيّ، وتقاطُع في مَسارات العمَل يؤدّي إلى توالُد الرُّؤى والأفكار وتفاعلها بين جميع هذه الحقول عبرَ عمَلٍ مُتوازٍ نوعيّاً يتقدَّم هُنا أو يتأخَّر هُناك.

بدأت حياتك الكتابية شاعراً، ما تعريفك للشعر؟

هذا سؤال غير قابل للاختزال أو الحسم دلاليّاً في إطار نهائيّ ومُغلَق، فالشعر مرتبط بسياق تأريخيّ خطّيّ تراكُميّ من ناحية، وبفَجوة انفتاح تكرِّرُ الاختلاف في كُلّ عصر وفي كُلّ مرّة، وقد عرَّفتُ الشعر تعريفاً أوَّليّاً عامّاً في بَياني الشِّعريّ (الإعلان التَّخارُجيّ) قلتُ فيه: "إنَّهُ الانفتاحُ الدّائمُ في عُقر دار الوجود، وهو الصّراعُ الذي لا يُستَنْفَد. وجودُهُ علَّتُهُ، وعلَّتُهُ لا تنفصِلُ أبداً عن أسئلةِ الحداثة وكينونةِ التَّجديد وحُلمِ المُجاوَزة والانبثاق نحوَ المَجهول. لهذا يحمِلُ في أصل تكوينه لعْنَتَهُ العظيمة وخُلودَهُ العتيق، ويعيشُ بلا هوادة أزمَتَهُ الوجوديّة المُلِحّة: أن يكونَ مَسْكَنَ الجَمال الحيّ وشمسَ الأصالة الكاشفة! فالشِّعرُ مأزومٌ بما هو التباسٌ جدَليٌّ بينَ زمن الوجود في العالَم وزمنه الخاصّ، وكُلُّ انقطاعٍ تراكميّ يعتري تاريخه في حقبةٍ ما أو في عصرٍ ما، يُسَوِّغ لهُ الخِيانة مثلما يدعوه إليها كُلّ اتصالٍ تراكميّ يدَّعي التّماسُك! فمن طبيعة الشِّعر المُتجدِّدة أن تهترئَ أسئلتُهُ في فَجوات الوجود، وحينها عليه بكُلِّ جسارةٍ أن يُواجِهَ اختبارَ القطيعة: والقطيعةُ ابنةُ النَّسْفِ البارّة، وشريكةُ العُلُوِّ المُخاتِلة؛ ذلكَ أنَّ الأزمةَ بوصفها نداءَ التَّجديد والإشراق هيَ دائماً عُلُوٌّ: إنَّها باستمرارٌ حركةٌ –نحوَ- الانفصال، وبحثٌ دؤوبٌ عن كينونةٍ حُرّة، وتخفُّفٌ لا نهايةَ لهُ من كُلّ اطمئنانٍ للمُنْجَز".

في خطوة تبدو غريبة أو نادرة على أقل تقدير، أطلقت بياناً شعرياً العام 2015، ما دوافعك الكتابية والواقعية لنشر هذا البيان؟

منذ بداياتي الشِّعريّة كنتُ شديد الاهتمام بنظَريّة الشِّعر؛ حيث تشابَكَ عمَلي النصِّيّ الشعريّ مع عمَلي النَّظَريّ المَعرفيّ في دينامية جدَلية كانَ يُطوِّر كُلّ طرف منها الطرف الآخَر، فأنا مؤمن تماماً على المُستوى الكُلِّيّ بضرورة أن يُقدِّم كُلّ شاعر اقتراحَهُ النظَريّ المُواكب لتجربتِهِ الشِّعريّة، وأن يُعاد الاعتبار للتقاليد التَّنظيريّة الخاصّة بالشِّعر، بما يؤصِّل من ناحية التَّجربة الشِّعريّة، ويفتح في الوقت نفسِهِ آفاق هذِهِ التَّجربة على العلوم الإنسانيّة، فضلاً عن هاجسي الشَّخصيّ المُرتبط بالعصر المُتشظّي الذي أنتمي إليه، وهو هاجسٌ لطالَما حضَّني على البَحث عن فعل تأسيسيّ يقومُ به الشِّعر وجوديّاً وكونيّاً، وبما يلتقي مع سعيي الدَّؤوب لتحقيق المُجاوَزة والتَّباعُد والاختلاف.

ديوان "قبلَ غزالة النّوم"

ما الصلة التي تجمع بين كتابتك للشعر، وتنظيرك له، وعملك في حقل النقد الأدبي؟

ممّا لا شكّ فيه أنَّ الصِّلة عميقة بين تجربتي الشِّعريّة التي كانَ لها دور كبير في تخليق عناصر محوريّة في رؤيتي لنظَريّة الشِّعر، وتجربتي النَّقديّة التي تأسَّسَ جانب مهمّ منها على تلكَ التَّجربتين، لكنَّ المَسألة أبعد من النَّظَر إليها بوصفِها حركيّة مَعرفيّة في اتّجاه واحد؛ إذ لا أستطيع أن أتناسى اشتغالي الشَّخصيّ طويلاً على النظَريّات النَّقديّة والفلسفيّة الحديثة والمُعاصِرة، وهو الأمر الذي أغنى تجربتي الشِّعريّة والتَّنظيريّة، لذلكَ تبدو العلاقة جدليّة تفاعُليّة إلى حدّ بعيد بينَ هذِهِ المَحاوِر المَفتوحة على أسئلة مُتبادَلة ومُحرِّضة على الدِّربة والمُكابَدة والتَّخليق في كُلّ الاتّجاهات.

ما الفرق بين ما تنشره في كتاباتك تحت صفة الشعر، وما تنشره تحت صفة النصوص؟

أنا بصدد نشر مُقدِّمة نظَريّة قريباً أشرَحُ فيها رؤيتي لمشروع الكتابة الجديدة التي تتقاطَع مع مشروع الشعر في جوانب، وتتجاوَزُهُ في جوانب أخرى في الوقت نفسه، فإذا كانَ الشعر التَّقليديّ ينتمي إلى علم جمال الخطابة، ومشروع الكتابة الحداثيّة وما بعد الحداثيّة ينتميان إلى علم جمال الكتابة، فإنَّني أرى أنَّ الكتابة الجديدة تتجاوز الحداثتيْن معاً بوصفِهِما فصلتا اللُّغة عن الوجود، وهو الأمر الذي أشرْتُ إليه جزئيّاً في بَياني الشِّعريّ الأوَّل، ولهذا يأتي مَشروعي في الكتابة الجديدة للعمَل على تجذير عالم النُّصوص في عالم الوجود، وفتح هذا العالم ليسَ فقط على مختلف الأجناس الأدبيّة؛ وإنَّما أيضاً على مُختلَف الحقول المَعرفيّة، وفي مُقدِّمتِها الفلسفة؛ إذ تجاوَزَ الفكر الإبداعيّ والفلسفيّ عبرَ محطّات حديثة ومُعاصِرة الثُّنائيّة التَّقابليّة القائمة على حدِّيّة الفصل بينَ (الشعر/المجاز) و(الفكر/الحقيقة).

تقدم في بيانك الشعري، ودراساتك النقدية والفكرية، مصطلحاً جديداً ومبتكراً، هو: "النِّسْيَاق". هل يمكن أن تشرحه باختصار، وأن تبين فوائده في دراسة الشعر والأدب؟

أسَّستُ مَفاهيم هذا المُصطلح انطلاقاً من مُصطلح "DASEIN" الألمانيّ، الذي يعني وجود الموجود البشري في العالم، فاشتققتُهُ على وزن "فاعل: دَازِن"، ونقلتُهُ لتفسير آليّة تخليق النُّصوص الشعريّة بوصفها مُحايَثة وجوديّة تخارُجيّة تتراكَبُ جدَليّاً بينَ قصديّة الذّات المُؤلِّفة الموجودة في العالَم الوقائعيّ، وقصديّة الذّات المُؤلِّفة الموجودة في عالم النَّصّ الافتراضيّ، وهكذا فرَّقتُ إجرائيّاً لا حدِّيّاً في عالَم الشِّعر -عبرَ هذا الفَصْم الجدَليّ للدَّازِن- بينَ الذّات الشّاعرة الوقائعيّة، والذّات الشِّعريّة الافتراضيّة، لتكون مُحصِّلةُ هذه التّخارُجيّة المُنفصِمة بين القصديَّتيْن المُتجادلتيْن للدّازِن المُبدِع فتْحَ أساليبِ وجودٍ جديدة ومُختلِفة في عالَم النصّ بما هوَ يُمثِّلُ ما اصطلحْتُ عليه بعالم "النِّسْيَاق".

سليمان: الضَّرورة تحكُم المُثقَّف العربيّ بمُواجهة الأسئلة الكيانيّة المَصيريّة ليسَ عربيّاً فحسب بل عالَميّاً

إنَّ فَهْم "عالَم النِّسْيَاق" ينهَضُ في المَنهج "التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ" على آليّات مُقارَبة وقراءة وتحليل تسعى إلى حدٍّ كبير إلى تعزيز سِمَةِ الاستقلاليّةِ النِّسبيّة للنَّصّ عن مُؤلِّفِهِ، وعن عالَمه الوقائعيّ، من دون أنْ يُلغِيَ ذلكَ صِلَةَ النَّصّ بهِما، وهيَ صِلةٌ قائِمةٌ على جُملة تراكُبات انزياحيّة تنفتِحُ عبرَ حركيّة الخَلْق الإبداعيّ التَّخارُجيّة المُحايِثة في عالَم "نسْيَاق" النَّصّ. فالنِّسْيَاق عالَمٌ ينفتِحُ على مُجاوَزة ثُنائيّة (سُلطة المؤلِّف - موت المُؤلِّف) بما هيَ ثُنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الحدِّيّ التَّقابُليّ والميتافيزيقيّ لثُنائية (الخارِج/ القراءة السِّياقيّة)، و(الدّاخِل/ القراءة النَّسَقيّة)، ليحُلَّ محلَّهُما هذا العالَم الجديد: "عالَمُ الدَّازِن النِّسْيَاقيّ"؛ وذلكَ بما هوَ عالمُ انبساط أساليب وجود الدّازِن المُتخارِج الذي يُخلِّف في فعلِهِ التَّخارُجيّ المُنفصِم تلكَ الرُّؤى التي تفصل اللُّغة عن الوجود، والتي كانَتْ ترى عالَمَ النَّصّ إمّا بوصفِهِ فعلاً تعبيريّاً أنجزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سياقيّة) واعية ومُتحكِّمة به تحكُّماً مُسَبَّقاً ومُتعالياً عبرَ(مَركزيّةُ المُؤلِّف: السُّلطةُ الشُّموليّةُ للذّات)، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لُغويّة لا شُعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالَم (موتُ المُؤلِّف: المَحْوُ الشُّموليُّ للذّات).

تتحالَفُ المركزيّاتُ الفوقيّة البطريركيّة للأكثريّة والأقلِّيّات لإدامة لعبة التَّدجين الشَّعبيّة للجُموع التي يتمُّ تحريكَها غرائِزيّاً

وهكذا، تنبثِقُ المَنهجيّة التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة، وتُمارِسُ مُقارَباتِها النّصِّيّة عبرَ آليّات استنطاق تأويليّة حثيثة تُقلِّبُ بلا هوادة "عالم النِّسْيَاق" بوصفه عالَماً يطوي في أساليب وجودِهِ المُتراكِبة تشابُكاً جدَليّاً مُعقّداً بين (السِّياق والنَّسَق) في آنٍ معاً، بحيث يحاولُ هذا المَنهج قدْرَ المُستطاع أنْ يُفكِّكَ في القراءة مدى سيادة الطُّغيان الميتافيزيقيّ القائم إمّا على تسلُّط شُموليّ لمَركزية الذّات المُؤلِّفة، أو على مَحْوٍ شُموليّ لوجود تلكَ الذّات مَحْواً تاماً، وهوَ بهذهِ الآليّة يستطيعُ أنْ يلِجَ منطقةً إبداعيّة شديدة التَّكثيف والغُموض في عَوالِم النُّصوص، وذلكَ لتتبُّعِ مَسارات الخَلْق النِّسْيَاقيّ للدّازِن التَّخارُجيّ المُنفصِم، الذي يُفترَضُ أنَّهُ كابَدَ في فعل الكتابة صراعاً جدَليّاً ضارياً بين شَهوة حُضور سُلطة الذّات المُؤلِّفة الوقائعيّة، وشَهوة حُضور سُلطة الذّات المُؤلِّفة الافتراضيّة.

تكاد تكون النّاقد الوحيد الذي قدم، حتى الآن، سلسلة دراسات نظرية وتطبيقية عن الشعر في زمن الثورة والحرب، ما دوافع هذا التوجه؟

ما من شكّ أنَّ الثَّورات والحروب تُمثِّل فرصة بالغة الأهمّية والتَّعقيد كي يُقدِّم الشعراء اقتراحات فنِّيّة وجماليّة ذات أبعاد مَعرفيّة وفقَ آليّات شِعريّة مُتعدِّدة، وقد تراكَمَ المُنتَج السُّوريّ الشعريّ في زمن الثَّورة والحرب، وكان لا بُدُّ للنَّقد أن يبدأ بدراسة هذا المُنتَج وتفكيكه، والسَّعي إلى مُحاوَلة رسم ملامح تيّاراتِهِ ومرجعيّاتِهِ النظَريّة والإجرائيّة، ومدى تحقيق إضافة نوعيّة مُفترَضة في تأريخ الشعر، وهيَ مُحاوَلة مَفتوحة على المُستقبَل والمُراجَعة والتَّنقيح المُستمرّ، فضلاً عن كوني أعدّ شخصيّاً مثل هذا العمَل واجباً وطنيّاً وأخلاقيّاً وثقافيّاً عليَّ، مُتمنياً أن يكونَ قد أسهَمَ جهدي في إغناء فعلِ الثَّورة، وفي تثمين مَردوداتها، وتجذير حُضورها في المَجالات المُختلِفة، ومنها الإبداع ونقده.

نظَّرتَ في مقالات كثيرة للربيع العربي والثورة السورية، ومنها مقالتك: "الثورة والهوية وميلاد اللحظة الفلسفية العربية المعاصرة"، ماذا تقصد بميلاد هذه اللحظة؟

إنَّ الفَجوة الوجوديّة التي فتحتْها ثورات الرَّبيع العربي بعد استعصاء سياسيّ واجتماعيّ دامَ عُقوداً، تبسطُ في طيّاتها الحركيّة الصَّيروراتيّة والاختلافيّة، وتداعياتِها المُختلفة، أسئلةً وجوديّة عربيّة وكونيّة، بمَعنى أنَّ حركيّة الثَّورات نفسَها هيَ حركيّة توليديّة فلسفيّة تنطوي نظَريّاً ووقائعيّاً على مَخاضات (فلسفيّة) تفكيكيّة وتأسيسيّة في الوقت نفسه، وهذِهِ الحركيّة لا تخلو من مكر التاريخ وإيلامِهِ الحادّ من ناحيةٍ أُولى، ومن تخليق طويل الأمَد للمُستقبَل العربيّ الحرّ الدّيمقراطيّ المأمول من ناحيةٍ ثانية، ولا سيما أنَّ التّاريخ يُعلَّمنا مدى ندرة تلكَ اللّحظات التي يتحقَّقُ فيها شبه تماهٍ، أو على الأقلّ تتحقَّقُ فيها أنواعٌ من التَّشابُكات الجدَليّة بينَ الأحداث الوقائعيّة والحركيّات الدّلاليّة للعلامات (الفلسفيّة) في الاتّجاهيْن بآنٍ معاً!!

الثَّورات نتاج تقاطُع السياق العالميّ ما بعد الحداثيّ والعربيّ السِّياسيّ الذي شكَّلته عقود من المُحدِّدات الاستبداديّة والاحتقانات

وهو الأمر الذي يعني من جانب أوَّل أنَّ الضَّرورة تحكُم المُثقَّف العربيّ بمُواجهة الأسئلة الكيانيّة المَصيريّة ليسَ عربيّاً فحسب؛ بل عالَميّاً، وبوجهٍ خاصّ في ضوء البُعد (التَّحقيبيّ) العولميّ لهذِهِ الثورات، فضلاً عن أنَّ مثل هذِهِ المُواجَهة الفكريّة التي ينبغي أن يخوضها المُثقَّف العربيّ فلسفيّاً تُمثِّل في أحد أهمّ أبعادِها من جانبٍ ثانٍ عودةَ العرب إلى الفلسفة، أو عودةَ الفلسفة إليهم بوصفِها نداءَ وجودٍ وفعلٍ وتغييرٍ، تُمثِّل الاستجابة له ميلاداً جديداً للثَّقافة العربيّة، وهُوِيَّتَها الثَّقافيّة الكونيّة.

كتبت مراراً عن قضيتيْ؛ الطائفية والعلمانية، فما فحوى هذه الكتابة؟

أرى أنَّ هناك تحالُفاً ضمنياً بين ما أصطلِح عليه بـِ (الأكثليّات) بوصفِهِ اصطلاحاً يدلُّ على تحوُّل الأكثريّة والأقلِّيّات الدينيّة والطّائفيّة والإثنيّة إلى وَحدة وظيفيّة تحت عباءة السُّلطات السِّياسيّة ورعايتِها، ذلكَ أنَّ العداء الزّائِف بينَ هذِهِ المذاهِب والاتّجاهات يُؤسَّسُ على هَواجِس ومَخاوِف ودعايات وإشاعات مُوجَّهة لتكتيل المُستوى الجمعيّ (القطيعيّ) غرائِزيّاً، في حين تتحالَفُ المركزيّاتُ الفوقيّة البطريركيّة للأكثريّة والأقلِّيّات برعاية المركزيّة الفوقيّة السِّياسيّة الأعلى في هرم السُّلطة حِفاظاً على مَصالِح جميع هذِهِ السُّلطات من ناحية، وتأبيداً للُعبة التَّدجين الشَّعبيّة للجُموع التي يتمُّ تحريكَها غرائِزيّاً، حتَّى لو استدعى الأمر تكرارَ تاريخ النَّفي والتَّكفير والذّبح والصِّراع العِدائيّ التَّحتيّ أو الظّاهريّ تقليديّاً، وعلى هذا النَّحو تتلاقى جميع الأكثليّات في وَحدة البُعد الجوهرانيّ السُّكونيّ النّافي للآخَر بنيويّاً، الذي يتمدَّد عندَ الانقضاض على السُّلطة على حامِل إيديولوجيّ تكفيريّ ثابت ومُتشابه من جانبٍ أوَّل، ومُعادٍ وظيفيّاً من جانبٍ ثانٍ للبُعد الزَّمنيّ المُتحرِّك والمُتحوِّل للعلمانيّة.

ألا تخشى من مسألة أسلمة الثورة السورية والربيع العربي؟

من المُؤكَّد أنَّ الاستبداد الدينيّ هو عامل موضوعيّ يتحالف مع الاستبداد السِّياسيّ في وَحدة التَّكفير والإقصاء والتَّطرُّف والتَّعصُّب، لكنَّني عبرَ تنظيريّ لثورات الرَّبيع العربيّ، وفي مُقدِّمتها الثَّورة السّوريّة، رأيْتُ أنَّ هذه الثَّورات ناجمة عن تقاطُع سياقيْن لا فاصل حديّاً بينهُما، وهما: السِّياق العربيّ السِّياسيّ الذي شكَّلته عبرَ عقود مجموعة من المُحدِّدات الاستبداديّة والاحتقانات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة والثقافيّة، والسِّياق العالميّ ما بعد الحداثيّ بوصفِهِ سياقاً تأريخيّاً (تحقيبيّاً) لا أيديولوجيّاً للحدَث العربيّ الثَّوريّ، ولذلكَ فقد انفتَحَتْ فَجوة وجوديّة (عربيّة/كونيّة) جديدة ومُغايِرة بكُلّ مُعطياتِها الإيجابيّة والسَّلبيّة، ومنها صعود التَّسييس الدّينيّ الذي ينبغي أن نقرأه بوصفِهِ حقبة صيروراتيّة مَرحليّة غير نهائيّة أو مُغلَقة، ولا سيما إذا انتقلنا في تحليل الثَّورات من المُستويات الجزئيّة والزَّمنيّة الخطّيّة إلى المُستويات الكُلِّيّة في فَجوة تكرار الاختلاف.

سؤالي الأخير: لماذا لم تغادر سورية؟

كرَّرتُ مراراً وتكراراً احترامي وتفهُّمي لخيارات كُلّ إنسان سواء أبقِيَ في الدّاخل السّوريّ أم خرَجَ بفعل ظُروفٍ مُختلِفة ومُعقَّدة، ويُثيرُ سُخريتي إلى أبعد الحُدود ذلكَ الحديث المُتهافِت عن ثنائيّة (الدّاخل/الخارِج)، لكنَّني من زاوية الخيار الذّاتيّ لستُ ميّالاً إلى فكرة الخلاص الفرديّ، وأرى أنَّ بقائي في سوريّة، وما ينطوي عليه ذلكَ من تحدّياتٍ يوميّة وكتاباتٍ وإعلانِ مَواقِفَ من قلب الحدَث ومَخاطرِهِ، هو بالنّسبة لي مَسألة كينونة وجوديّة وثوريّة، وواجباً ومَسؤوليّة أخلاقيّة وتاريخيّة بمُشارَكة شعبي مصيرَهُ، ولا سيما أنَّني أدَّعي العمَل في حُقول الثَّقافة والفكر، وأرفضُ أن تتناقضَ مُمارساتي الشَّخصيّة وأفعالي الحياتيّة ورُؤايَ الشِّعريّة والفكريّة مع مَواقفي الوطنيّة والثَّوريّة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية