ما الذي يجعل الثقافة بُنية مستقلة؟

ما الذي يجعل الثقافة بُنية مستقلة؟

ما الذي يجعل الثقافة بُنية مستقلة؟


30/05/2023

الثقافة مفهوم شائك؛ ومن أكثر المفاهيم غموضاً، ولها تعريفات مختلفة وعديدة، وقد عرفها علماء الاجتماع بأنها ذلك الكل المعقد، الذي يشمل المعرفة، والمعتقد، والفن، والقانون، والأعراف، والأخلاق، وأي قدرات أو عادات يكتسبها الإنسان بصفته فرداً من أفراد المجتمع.

أما إذا أعدنا كلمة ثقافة إلى جذرها "ثقف" في اللغة العربية؛ فيحمل معنى "الصقل والتهذيب والإعداد" فننطلق منه إلى المعنى الإنساني لمفهوم الثقافة، على أنّها صقل الذهن والذوق والسلوك وتهذيبها، وإعداد العقل لتكوين منظومة إنسانية واعية، تحقق أهدافاً سامية، فتحقق للفرد علّواً في طريقة تفكيره وتذوقه للعالم من حوله.

ما يتبقى بعد أن ننسى كل شيء هو إنسانيتنا؛ فالثقافة التي تستحق اسمها هي إنسانيتنا

يتفق كثيرون في أنّ الثقافة كانت رافعة انتقال البشر من القطيعية الحيوانية إلى الإنسية، بفضل تطور الدماغ والجملة العصبية تطوراً نوعياً، ربما بفضل تطور عضوية الكائن البشري كلها، منذ تثقَّفت قامته أو استقامت. هذا يعني أنّ الثقافة ليست معطى بديهياً، بل هي نتاج تطور النوع البشري من كائنات "تابعة" إلى كائنات حرة ومستقلة، والثقافة هي ما جعلت البشر كذلك، فهي علامة على إمكانات الخلق والإبداع والابتكار في جميع مجالات الحياة.

الثقافة التي نسائلها في هذه المقالة ثقافتان: الأولى هي كل ما نسمعه من الأمهات والآباء والمعلمات والمعلمين والكهنة والخطباء، ومن الجيران والأصدقاء والصديقات، ومن زملاء وزميلات العمل، والنشاط وكل مانراه ونقرؤه؛ والثانية هي كل ما نقوله ونكتبه وكل ما نفعله وما نبتكره.

الأولى ثقافة موروثة ومكتسبة ذات طابع سكوني؛ والثانية ثقافة مُنتَجة ومبتَكرة ذات طابع ديناميكي؛ الأولى هي ثقافة الكسل والخمول والتكرار والاجترار والاتباع والتقليد والتعصب والتحاجز والتفاصل والكراهية والبغضاء؛ والثانية هي ثقافة العمل والإنتاج والإبداع والابتكار والتبادل والتفاعل والتشارك والتواصل والصداقة والمحبة والوئام؛ فأي الثقافتين هي الثقافة السائدة في مجتمعنا السوري، اليوم، وفي المجتمعات التي تشبهه إلى هذا الحد أو ذاك؟ نترك الإجابة للقارئ.

اقرأ أيضاً: كيف تُستغل الثقافة السائدة لتبرير العنف المجتمعي؟

يذهب المؤرخ الإنكليزي "هربرت إدوارد ريد" إلى أنّ المثل الأعلى للثقافة هو اختفاؤها أو نسيانها: "الثقافة هي ما يتبقى بعد أن ننسى كل شيء"، ما يتبقى بعد أن ننسى ما سمعناه من الآباء والأمهات والمعلمين والكهنة.. وما قرأناه في الصحف والكتب المقدسة وغير المقدسة، هو الثروة الروحية، التي تنمو وتزيد وتتجدد كلما أنفقنا منها.

هذه الثروة الروحية لها اسم هو الثقافة المستقلة بذاتها استقلال الفرد الإنساني بذاته، والحرة بحرية الفرد. الثقافة المستقلة هي التي لا تمكن نسبتها إلى شعب، ليقال: ثقافة سورية، على سبيل المثال، ولا تمكن نسبتها إلى قوم، ليقال: ثقافة عربية أو فارسية ..، ولا تمكن نسبتها إلى دولة، ومن ثم، لا تمكن نسبتها إلى دين أو مذهب، ليقال ثقافة مسيحية أو إسلامية أو بوذية .. وهي مستقلة عن أي سلطة دينية أو دنيوية استقلالاً يجعل منها شيئاً نبيلاً.

ما يتبقى بعد أن ننسى كل شيء هو إنسانيتنا، فالثقافة التي تستحق اسمها هي إنسانيتنا، وقد اغتنت بتجارب الناس ومعارفهم وخبراتهم ومهاراتهم وعلومهم وآدابهم وفنونهم وفلسفتهم ... ولما كانت إنسانيتنا هي حريتنا بالضبط، فالثقافة التي تستحق اسمها هي ثقافة الحرية، في أي مكان أُنتجت، وبأي لغة قيلت وكتبت. لذلك لا تطلق صفة المثقف إلا على من يدافع أو تدافع عن الحرية، في كل مكان وفي كل وقت، وعن حقوق الإنسان والمواطن. (قد أختلف معك في الرأي، ولكنني مستعد أن أبذل الغالي والنفيس في مقابل حقك في التعبير عن رأيك).

لا تطلق صفة المثقف إلا على من يدافع عن الحرية في كل مكان ووقت

وقد لاحظ فؤاد زكريا أنّ "التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، التي تطرأ على الواقع؛ أسرع من التغيرات التي تطرأ على الفكر، فيكون تغيير البنية الاجتماعية أسهل من تغيير أفكار الناس ومعتقداتهم وسلوكهم"، إذن، هنا تكمن أزمة الثقافة في المجتمعات المتأخرة؛ وجه الصعوبة في تغيير ما يجب تغييره من أفكار الناس ومعتقداتهم وسلوكهم يكمن في الشروط الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية، التي تجعل هؤلاء الناس أذلاء خانعين، ولعل الاستبداد السياسي والاستبداد الديني من أسوأ هذه الشروط.

الثقافة، التي انتشلت الإنسان من الحيوانية، ترتقي بارتقاء الإنسان، وتنمو بنمو المجتمعات وتزدهر بازدهار الدول، فإنّه من المضحك المبكي أن تغتر شعوب مـتأخرة بتراثها الثقافي، أي بثقافة الحواس، والحفظ والتكرار والاجترار، والكسل والعجز والتواكل، والخمول، واحتقار العمل، وتأثيم الإبداع. فإن معيار الثقافة هو تحسن الشرط الإنساني عموماً، والشرط النسوي على وجه الخصوص في مجتمعاتنا، لأن تحسين الشرط الإنساني هو غاية الثقافة.

اقرأ أيضاً: رنا عيسى: المثقفون هم المشكلة الأساسية وليس الشارع

فما قيمة التراث الثقافي في مجتمع يعيش ثمانون بالمئة منه تحت كابوس الفقر، ويفتك بهم الجهل والمرض، ويذلهم التسلط والاستبداد، وليس أمامهم سوى واحد من خيارين: "الجوع أو الركوع"، بل لم يعد لهم سوى هذي الخيارين معاً. التراث الثقافي لا يزيد في مجتمعنا على ممارسات السلطة ورجال الدين وتسلط الحكام على المحكومين وتنمر الأغنياء على الفقراء والرجال على النساء؛ الثقافة التي لا يرفدها المجتمع كل يوم بما ينتجه على المستويين المادي والروحي هي ثقافة ميتة.

من أبرز الفروق بين المجتمعات المتقدمة، والمجتمعات المتأخرة القدرة أو عدم القدرة على مواجهة ثقافة السلطة بسلطة الثقافة، إذ السلطة في كل مكان تميل إلى السيطرة والتوسع، ولا تتوانى عن القمع. السلطة الشمولية، بوجهيها السياسي والديني تجلد المجتمع بثقافتها كل يوم، بل كل ساعة، وكل جزء من الساعة، وتكبت حرية التعبير، فتكبت حرية التفكير، وتكبح أي طموح إلى التغيير: المثقف لا يُستدعى للحوار، إنما يتعرض للانتقاد، لا للنقد، لأن الممسكين بدفة السلطة لا يعرفون ما هو النقد، ولا تعترف بقيمته إذا عرفوه.

من أبرز الفروق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة القدرة على مواجهة ثقافة السلطة بسلطة الثقافة

المثقفون السوريون الذين رغبوا في التغيير صنفوا إرهابيين من قبل السلطة السياسية، ومتطرفين من قبل المجتمع، الذي استبطن ثقافة السلطة وامتشق سلاحها. والمراكز الثقافية في سوريا ممنوعة على غير الموالين للسلطة السياسية، وكل فعالياتها تمر من تحت مجهر الرقابة الأمنية، بذلك تنتج السلطة مثقفين ومثقفات على مقاسها، وهؤلاء ينتجون أجيالاً مدجنة سياسياً، وثقافياً كما تريد السلطة وتشتهي أن تكون مجتمعاتها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية