ما بعد الإسلاموية وتبعات تزييف الوعي باسم الدين

ما بعد الإسلاموية وتبعات تزييف الوعي باسم الدين

ما بعد الإسلاموية وتبعات تزييف الوعي باسم الدين


21/03/2023

تروم هذه المقالة التوقف عند بعض تبعات النهل من تزييف الوعي باسم مرجعية إيديولوجية ما، ليس أثناء الولاء النظري والتنظيمي لهذه الإيديولوجية، وإنّما في مرحلة ما بعد الانفصال عنها.

ويهمنا هنا نموذج الإيديولوجية الإسلاموية بالتحديد، خاصة أنّها كانت وما زالت سائدة في الساحة العربية خلال العقود الأخيرة، وإن تراجعت نسبياً أعواماً قليلة بعد أحداث 2011 ـ 2013، والتي اصطلح عليها بـ "الفوضى الخلاقة" عند البعض أو "الربيع العربي" عند البعض الآخر، إضافة إلى أنّها موزعة على جماعات دعوية من قبيل ما يُصطلح عليه "السلفية العلمية" أو "السلفية التقليدية"، وجماعات "الدعوة والتبليغ"، وبعض رموز ظاهرة "الدعاة الجدد"، أو جماعات سياسية، من قبيل أحزاب "الإسلام السياسي" مثل حزب "النهضة" في تونس أو "العدالة والتنمية" في المغرب، أو جماعات جهادية، ومنها تنظيم "القاعدة" وتنظيم "داعش".

نقول هذا بصرف النظر عن تباين أداء هذه التيارات الـ (3)، الدعوية والسياسية والجهادية، وبصرف النظر أيضاً عن التباين بين أداء كل تيار من دولة إلى أخرى، ومن ذلك أنّ أحزاب الإسلام السياسي معترف بها رسمياً في المغرب، أو البعض منها، لكنّ الأمر خلاف ذلك في مصر، ضمن أمثلة أخرى.

الشاهد هنا أنّ المقالة تهمّ الأفراد الذين كانوا في زمن ما ينتمون إلى مُجمل التيارات الإسلاموية سالفة الذكر، وتهمّ بالتحديد الأفراد الذين أعلنوا عن انفصالهم عن تلك الجماعات، بصرف النظر عن طبيعة هذا الانفصال كأن يكون تنظيمياً ونظرياً في آنٍ واحد، أو أن يكون انفصالاً تنظيمياً وحسب دون أن يُصاحبه الانفصال النظري، وهذه حالة سائدة بشكل جلي في المنطقة العربية، وهي التي تهمنا أكثر في هذه المقالة.

عملية الانفصال التنظيمي غالباً ما تكون مُصاحَبة بانفصال نظري، لكنّ هذا الأخير لا يتم بين ليلة وضحاها

وحتى في هذه الحالة هناك اتجاهان على الأقل؛ يتميز الأوّل بأنّ المعني بالانفصال أو الطلاق النظري عن التنظيم على وعي بتبعات مرحلة الانفصال، ويبذل مجهوداً نفسياً وفكرياً كبيراً بشكل أو بآخر حتى يتحرر من آثار عملية النهل الإيديولوجي أثناء مرحلة الانتماء للمشروع الإسلاموي المعني، وتتضح معالم هذا الجهد في طبيعة تعامله أو انفتاحه على قضايا المرأة والفن والرياضة والجمال وقضايا أخرى لم يكن يتطرق إليها من قبل، وإن فعل، فإنّ خوضه لم يكن يخرج عن السياج الدغمائي المغلق الذي تُسطر معالمه العدة النظرية للإيديولوجية الإسلاموية التي كان ينتمي إليها من قبل.

ومقابل هذا الاتجاه نعاين اتجاهاً مغايراً، ويهمّ حالة أفراد أعلنوا علنياً عن انفصالهم النهائي عن الارتباط التنظيمي، ويصرون بين الفينة والأخرى، سواء في جلسات خاصة مع أصدقاء أو في دردشات رقمية في مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل (فيسبوك) و(تويتر) أو في بعض التطبيقات الرقمية من قبيل (واتساب) و(تليغرام)، بأنّهم انفصلوا عن التنظيم، لكنّه لا عِلم لهم بتبعات النهل الإيديولوجي سالف الذكر، وهذا هو بيت القصيد الذي نعاين تواضعاً في الاشتغال البحثي حوله هنا في المنطقة العربية، والأمر نفسه في الساحة الأوروبية.

ما هو معلوم عند متتبعي ظاهرة الإسلاميين سابقاً أنّ عملية الانفصال التنظيمي غالباً ما تكون مُصاحَبة بانفصال نظري، لكنّ هذا الأخير لا يتم بين ليلة وضحاها، بمعنى أنّه يمكن لعمرو أو لزيد أن يُعلن اليوم عن انفصاله النهائي عن الجماعة الإسلامية الحركية التي كان عضواً فيها، وابتداءً من لحظة الإعلان يُصبح خارج التنظيم بشكل تلقائي، لكنّ انفصاله النظري سوف يستغرق وقتاً غير معلوم أفقه، وهذه جزئية خارج دائرة التفكير أو غير مفكر فيها.

عملية التحرر النظري بشكل نهائي ليست محددة زمنياً وليست نمطية، لأنّها ترتبط بالسياقات النفسية والفكرية والاجتماعية لكل حالة من هذه الحالات

ليس هذا وحسب، فقد اتضح لدينا من خلال مشاهدات وحوارات مع هذه الفئة أنّ عملية التحرر النظري بشكل نهائي ليست محددة زمنياً وليست نمطية، لأنّها ترتبط بالسياقات النفسية والفكرية والاجتماعية لكل حالة من هذه الحالات، إضافة إلى حضور محدد آخر، عنوانه تأثير السقف الزمني الذي يهم مرحلة الانضمام للجماعة على مرحلة ما بعد الانفصال، ومن ذلك أنّ الآثار النفسية لحالة عمرو الذي قضى عدة أعوام مع جماعة ما قبل انفصاله عنها، متواضع مقارنة مع الآثار النفسية لحالة زيد الذي قضى بضعة عقود مع الجماعة نفسها.

ما عايناه أيضاً مع هذه الحالات، التي لا تأخذ علماً بثقل أو محدد الآثار النفسية، أنّ العديد من مواقفها السياسية، في حالة إسلاميين من التيار الإخواني نموذجاً، في مرحلة ما بعد الانفصال، تتأرجح تارة بين تقاطعها مع مواقف المشروع الإخواني نفسه، وتارة أخرى تدلي بمواقف تأخذ مسافة من مواقف المشروع نفسه، ومردّ هذا التباين أو الاختلاف مرتبط بتأثير تلك الآثار النفسية، لأنّه ليس هيناً على هذه الفئة الوعي بتأثير مرحلة تزييف الوعي التي كانت تنهل منها، ومن مؤشرات ذلك تكريس التماهي بين الدين والتديّن؛ أي بين الإسلام والإسلاموية، في الجهاز المفاهيمي أو في مخيال العضو الإخواني مثلاً، بينما في مرحلة أخذ مسافة تنظيمية ونظرية، يستوعب العضو نفسه؛ أي العضو السابق، شيئاً فشيئاً أنّ تديّنه الذي أصبح عليه لا يمثل بالضرورة الإسلام، ومن باب أولى، أنّ تديّن الجماعة يمثلها وحدها ولا يمثل بالضرورة الإسلام والمسلمين.

الآثار النفسية التي تصاحب العضو الإسلامي السابق في مرحلة ما بعد الانفصال عن التنظيم الإسلاموي المعني، تبقى نتيجة من نتائج تزييف الوعي الذي مرّ منه في مرحلة سابقة

ليس مصادفة أنّ بعض الانتقادات التي توجه إلى بعض الإسلاميين يتم التفاعل معها من طرف بعض أتباع هؤلاء كما لو أنّها ضد الإسلام، ومردّ ذلك إيمانهم بذلك الوعي الزائف الذي أقنعهم بشكل غير مباشر وغير صريح بأنّهم يمثلون الإسلام، وهذه إحدى أسباب الخلافات بين الجماعات الإسلامية، التي قد تصل إلى التكفير والتكفير المضاد، بما في ذلك الوصول إلى مرحلة الاقتتال الدموي، كما عاينا في الحالة السورية في أعوام ما بعد اندلاع أحداث "الفوضى الخلاقة".

الحاصل هنا، أنّ تلك الآثار النفسية التي تصاحب العضو الإسلامي السابق في مرحلة ما بعد الانفصال عن التنظيم الإسلاموي المعني، تبقى نتيجة من نتائج تزييف الوعي الذي مرّ منه في مرحلة سابقة، وأنّه كلما طالت مدة الانضمام للتنظيم قبل الابتعاد عنه تنظيمياً ونظرياً، كانت تلك الآثار النفسية مضاعفة أو مركّبة.

والحال أنّه إذا كان الوضع مع هذه الحالات التي أعلنت بشكل صريح وعلني عن هذه القطيعة مع نمط معيّن من الإسلاموية، قد وصل إلى ظهور آثار نفسية معينة، بصرف النظر عن معالمها، وكل ذلك بسبب تبعات النهل من ذلك الوعي الزائف القائم، في الحالة الإخوانية، على أدبيات "المرشد"، "البيعة"، "الحاكمية"، فلنا أن نتخيل الآثار النفسية لحالة الأعضاء الذين ينتمون إلى هذه المشاريع.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية