متى ننتقل من إدانة المجرم إلى إدانة الجريمة؟

متى ننتقل من إدانة المجرم إلى إدانة الجريمة؟


01/11/2020

في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري وقعت في العاصمة العراقية بغداد جريمة مروعة هزّت الرأي العام العراقي، وتجاوزت الحدود العراقية إلى العالم العربي والعالم؛ أمٌّ، تبيّن أنها نسرين جبار سريع (21 عاماً)، تسللت ليلاً مُختبئة تحت عباءتها السوداء، بصحبة طفلين، (تبيّن أنهما طفلاها)، ثم رمتهما في نهر دجلة من على أحد الجسور، وفق ما أظهره فيديو مراقبة انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

لا تُعدّ "جريمة نهر دجلة" بإلقاء أم لطفليها بالنهر الأولى من نوعها فقد سبقتها جرائم مماثلة

لا تُعدّ "جريمة نهر دجلة" الأولى من نوعها، فقد سبقتها جرائم مماثلة، آخرها إقدام أب في كربلاء على حرق أطفاله النيام انتقاماً من زوجته، بحسب ما أفاد الخبير النفسي ومدير مركز سيبار للتحليل وإدارة التوقع، كمال الخلاني، لمدونة ترند. وقد أرجع الخلاني ارتفاع معدلات العنف إلى "الآثار النفسية التي مرّت بها الشخصية العراقية على مرّ العقود السابقة وما تبعها من ضعف في تطبيق القوانين الخاصة بحماية أفراد الأسرة، ومن ضمنها قانون محاربة العنف الأسري المعلق منذ أعوام، إذ ترفض بعض الجهات السياسية إقراره بحجّة أنه يتعارض مع الدين".

اقرأ أيضاً: هكذا تؤثر قوانين حيازة السلاح على نسبة الجريمة

الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي وخبراء الاجتماع ومن لهم/هنّ دراية بعلم النفس والتحليل النفسي، علاوة على الخبراء والخبيرات في القانون، وقفوا حائرين أمام المشهد، واجتهدوا في تحليل البنية النفسية للأم وصراعها مع طليقها على حضانة الطفلين، وكيف اختارت خسارة طفليها نهائياً على أن تخسر حضانتهما لمصلحة زوجها.

أقدم أب مؤخراً في كربلاء على حرق أطفاله النيام انتقاماً من زوجته

أثار النقاش حول جريمة رمي الطفلين في نهر دجلة لغطاً كبيراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي في بلد يشهد معدلات عنف أسري عالية، وقد اعتبرت بعض الحقوقيات أنّ تعرّض نسرين ومثيلاتها لانتهاكات من قبل زوجها وأهله، فضلاً عن الوضع النفسي السيّئ الذي تمرّ به، هو الدافع وراء الجريمة. في حين ربط البعض دوافع الجريمة بالأوضاع الاقتصادية الصعبة ونقص التعليم والعنف داخل الأسرة. فرأى هؤلاء أنّ "محاربة الفقر والجهل فضلاً عن إنصاف المرأة المطلقة قانوناً من شأنه الحدّ من هذه الجرائم". وناشد نشطاء الحكومة بإنشاء دورات لتأهيل الآباء نفسياً، وإحداث وحدات للفصل في قضايا الحضانة التي عادة ما تنتهي بصراعات بين الطرفين يذهب ضحيتها الأطفال.

اقرأ أيضاً: بالأرقام.. الجريمة الجنائية تخيم على صنعاء لهذا السبب!

وفي حين دعا بعضهم/ نّ إلى التريث حتى ظهور نتائج التحقيق، وطالبوا بالبحث في أسباب انتشار الجرائم بدلاً من المطالبة بتغليظ العقوبات، ذهب جدّ الضحيتين لأبيهما وعشيرته إلى منح عشيرة طليقة ابنه، التي ارتكبت الجريمة، مهلة 10 أيام   حتى يحلّوا المسألة، "وإلا سنقوم بحلّ المشكلة معهم بشكل عشائري، ولن نتخلى عن حقّ طفلينا."

لقد أظهرت تعليقات الناشطات والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي طيفاً واسعاً من الآراء التي تشير إلى اتجاهات الرأي العام إزاء هذه الجريمة. الواضح في هذا الطيف موقفان أساسيان: الأول هو الاستهجان والاستنكار، والثاني هو إصدار الأحكام على مرتكبة الجريمة، والمطالبة بإعدامها. قلة قليلة من الناشطات والناشطين تركوا الحكم للقضاء، والأقلّ من هؤلاء من تكرّموا بمنح الفاعلة حق الدفاع عن نفسها، كما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يحق لكل متّهم الدفاع عن نفسه حتى تثبت إدانته".  

 المراقبون والخبراء وقفوا حائرين أمام مشهد تخلص أم من طفليها نكاية بزوجها

يبدو أنّ النموذج السائد في اتجاهات "الرأي العام" هو وحدة المدّعي والقاضي، أي أن يكون الشخص، أيُّ شخصٍ، مدّعياً وقاضياً في الوقت نفسه، وهذا لا يقتصر على الحكم في جريمة، بل يتعداه إلى الحكم في الآخرين، والحكم عليهم (أو تصنيفهم في خانات اليمين واليسار والوطنية والعمالة والانتهازية والانحراف والزندقة ...). فالعدالة في الحكم لا تقتصر على الأحكام القضائية، (التي قلما تكون عادلة في بعض البلدان)، بل يفترض أن تشمل سائر الأحكام، ولا سيّما "أحكام القيمة"، كأحكام التكفير والتخوين التي نطلقها على الآخرين والأخريات بلا تبصر، وبلا أيّ وازع أخلاقي، أي وفقاً لمعايير ذاتية، يغلب أن تكون إيديولوجية أو عقائدية.

لوحظ في اتجاهات الرأي العام إدانة المجرم فقط لا الجريمة والبحث في أسبابها

ولعل من أبرز ما يمكن ملاحظته في اتجاهات الرأي العام هو إدانة المجرمة أو المجرم فقط، لا إدانة الجريمة والبحث في أسبابها وفي الشروط اللازمة لعدم تكرارها، وهذا هو معنى الآية الكريمة: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" (يا أولي العقول والضمائر)، وهذه هي غاية العدالة، غاية العدالة هي العمل على رفع الظلم والجور والحيف والتطرّف (الإفراط والتفريط)، ومن هذا القبيل التعسف والتطرف في الأحكام. فإنّ إدانة المجرم/ـة من دون إدانة الجريمة تبقي المنظومة الأخلاقية في منجى من النقد، وتبقي المجتمع أسير عاداته وتقاليده البالية، وتبقي على واقع اللّاعدالة، واقع الظلم والحيف والجور والاستبداد والطغيان واضطهاد النساء...

ظهرت مطالبات بالبحث في أسباب انتشار الجرائم بدلاً من المطالبة بتغليظ العقوبات

يُعرّف "جون رولز" العدالة بأنها "الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية؛ ويرى أنّ العلاقة بين الحقيقة والعدالة تجمع بين قطبي الوجود والواجد، وبين الطبيعة والمجتمع، وبين النظام الكوني والنظام البشري، وتعبّر عن هذه الوحدة المتكاملة التي أوحت بالأساطير الكونية. لكلّ شخص حرمة غير قابلة للانتهاك بالاستناد إلى العدالة بحيث لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها حتى لمصلحة رفاهية المجتمع". فإنّ انتشار الجريمة في أي مجتمع يتناسب مع مقدار ما يتوفر عليه النظام الاجتماعي السياسي من عدالة قانونية أوّلاً، واجتماعية تالياً.

الجريمة هي الجريمة، لا يجوز تبريرها، لكن من حقّ المتهم أن يدافع عن نفسه/ـا أمام القانون، والقضاء فقط هو من يصدر الحكم عليه/ـا، لا المجتمع، وإلّا لماذا كان القانون هو الفيصل والضابط للأخلاق العامّة؟

الصفحة الرئيسية