محاولة لتشخيص عنفنا اللّغوي

محاولة لتشخيص عنفنا اللّغوي

محاولة لتشخيص عنفنا اللّغوي


16/03/2024

تستفيض المصادر العربية القديمة في الثناء على "ديوان النقائض"، الذي اضطلع بدور البطولة فيه كل من: جرير والفرزدق والأخطل، إلى درجة الزعم بأنّ نقائض الفرزدق وحده، على سبيل المثال، قد تكفّلت بحفظ ثلث لغة العرب ونصف أخبارها.

ولا يسع الباحث المدقِّق، أمام هذا الزعم وأمثاله، إلا أن يفغر فمه دهشة واستنكاراً؛ لأن استقراء الديوان كفيل بقلب طاولة كل من ذهبوا هذا المذهب، وأسهموا بقصد أو دون قصد في الترويج لما نعدّه (أردأ) ما وصلنا من ديوان العرب على صعيد المضمون. أما على صعيد الشكل الذي تتبوأ مسائل اللغة فيه المرتبة العليا، فلا يسعنا إلا أن نهنئ النحويين على ما ضمّه من شواهد وأمثلة قلّما جاد الزمان بمثلها.

اقرأ أيضاً: "الهوية والعنف": هل ديانتك هي هويتك؟

وإذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد لحقيقة أنّ عمراً ابن كلثوم قد أقدم على قطع رأس ملك المناذرة لكلمة قيلت لأمه، ثم أنشأ معلّقته التي بلغ فيها أقصى ما يمكن بلوغه من العصبية الجاهلية والتي ورد فيها: "ألا لا يجهلن أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهلينا"، صار بوسعنا تقدير الانقلاب الهائل في المزاح العربي أوائل العصر الأموي، إلى درجة أنّ المتلقي صار يستمرئ الاستماع لهتك الأعراض وتبادل الشتائم البذيئة والإثخان في الهجاء الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء، على مرأى ومسمع السلطة الأموية، التي أزعم أنّها لم تدّخر وسعاً لتأجيج هذا العنف اللغوي ورعايته، حرصاً على إبعاد أنظار الناس عن التفكير بمعارضتها والانقلاب عليها، خاصة بعد أن لاحظت اتساع رقعة الجمهور الذي راح يتابع حلقات هذا العنف اللغوي غير المسبوق، وينقسم إلى فريقين يصفقان بضراوة منقطعة النظير لهذا العرض الدامي بلا دماء!

ظلت ريادة الفرزدق وجرير والأخطل في تأسيس منظومة العنف المثل الأعلى لكل من رام التحذلق في اغتيال الآخر

وأحسب أنّنا مطالبون بغض النظر عن كل ما تساقط إلينا من أخبار عن عنجهية الفرزدق، ورِقّة جرير، من باب تصعيد الإثارة المضمّنة في تهاجيهما؛ لأنني أكاد أجزم بأنّ كلاً منهما قد كان يستمتع أيّما استمتاع بأن يوقع بخصمه أكبر قدر من الإيلام النفسي من جهة، وبأن يتلقى من خصمه أكبر قدر من التألّم النفسي من جهة أخرى. وكأننا أمام نموذجين استثنائيين لمصابين بالسادية (الاستمتاع بإيلام الآخرين) وبالمازوشية (الاستمتاع بإيلام الذات) في الوقت نفسه.

ومما يزيد ثقتنا بهذا التشخيص، الأخبار الموثوقة التي تؤكد أنّ أياً منهما ما كان ليتأخر عن التشفع للآخر إذا ألمّت به ملمّة، ولا عن الاطمئنان عليه إذا أصابه مرض، إلى درجة أنّ الفترة التي فصلت بين موت كل منهما لم تتجاوز ستة أشهر، ما يعني أنّ كل واحد منهما وجد في الآخر مكمّلاً له، فضلاً عن اعتقادنا بأنّ كلاً منهما قد كان يؤدي دوراً مرسوماً بدقة، في تمثيلية اضطلعت السلطة الأموية بدفع تكاليفها دون تردّد.

اقرأ أيضاً: المثل الشعبي إذ يكرس العنف والتطرف

وإذا كان الموت قد تكفّل بإسدال الستار على شخوص الفرزدق وجرير والأخطل، فإنّ ريادتهم على صعيد تأسيس منظومة العنف اللغوي والدفع بها إلى أقصى حدودها الممكنة، ظلّت المثل الأعلى لكل من رام التحذلق في اغتيال الآخر، حتى صار هذا التحذلق هدفاً بحد ذاته، بل صار أيديولوجية ذات شكل ومضمون يتجهان إلى تمزيق الآخر، وانتزاع التصفيق كلّما بلغ هذا التمزيق مستوى جديداً من مستويات الإلغاء الكاريكاتوري الساخر للخصم، بغض النظر عن حججه ومسوّغاته التي يمكن شطبها باستظهار بيت واحد للمتنبي؛ "وإذا أتتك مذمتي من ناقص.. فهي الشهادة لي بأني كامل".

تبدأ الشروخ الاجتماعية الكبيرة دائماً بشروخ صغيرة جداً ثم تكبر وتكبر حتى يتعذّر الرتق على الراتق

ولعل هذه المرافعة، لن تستوفي مطلبها النقدي، إلا إذا ربطنا "ديوان النقائض" بـ"المدوّنة العربية الراهنة" على وسائل التواصل الاجتماعي بوجه خاص، وذلك لأنّ العنف اللغوي المضمّن في هذه المدوّنة، على اختلاف أشكاله ومضامينه، قد بلغ سقوفاً غير مسبوقة، إلى درجة أنّ بعض الحكومات العربية، فضلاً عن كثير من السياسيين والإعلاميين والخبراء، قد راحوا يحذّرون من تداعيات هذا التنمّر المتبادل، سياسياً وفكرياً واجتماعياً، على تماسك النسيج الوطني الناظم لواقع المجتمعات العربية التي تبدو الآن، أكثر انفعالاً وتفاعلاً مع ما يقال في فضاء الواقع الافتراضي.

ويجدر التذكير بأنّ بعض الحكومات العربية الآن، تعض أصابعها ندماً؛ لأنها أسهمت، إلى حد ملموس، في تأجيج هذا العنف اللغوي، بقصد أو دون قصد، حينما عمدت إلى الانخراط في هذا السباق المحموم، عبر تمويل ما لا يعد ولا يحصى من الحسابات الواقعية والوهمية، للدفاع عن سياساتها وتوجّهاتها، ما دفع معارضيها إلى رفع مستوى الإثخان فيها والتشهير بها بلا هوادة.

اقرأ أيضاً: العنف متخفياً في التاريخ

ولعل كلّ ما تقدّم، يجعلنا ننحني احتراماً لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي استشرف بثاقب بصيرته، ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، إذا تسامح مع الحطيئة حينما فتح باب الغمز واللّمز، فقال في الزبرقان بن بدر: "دع المكارم لا ترحل لبغيتها.. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي"، فسجنه ثم اشترى منه أعراض الناس بثلاثة آلاف درهم، حتى اضطر الحطيئة إلى أن يهجو نفسه وأمه! فالشروخ الاجتماعية الكبيرة تبدأ دائماً بشروخ صغيرة جداً، ثم تكبر وتكبر وتكبر حتى يتعذّر الرتق على الراتق.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية