مراكز تأهيل الجهاديّين... بلا تأهيل ولا جهاديّين

مراكز تأهيل الجهاديّين... بلا تأهيل ولا جهاديّين

مراكز تأهيل الجهاديّين... بلا تأهيل ولا جهاديّين


20/03/2023

منير أديب

تغيب عن منطقتنا العربية ثقافة تأهيل الجهاديين وفق المعنى العلمي الصحيح؛ وإذا وجدت هذه المراكز، فهي غير مفعلة أو أنها غير ذات تأثير، ربما لعدم الإيمان بأهمية تأهيل هؤلاء أو لعدم جدواه، خصوصاً أن الكثير من الدراسات أشارت إلى عودة بعض هؤلاء مرة أخرى إلى العنف بغض النظر عن نسبتهم. 

تخوّف المؤسسات الأمنية في العالم من مراكز التأهيل مقدّرة وفي محلها ولكنْ مبالغ فيها، فلا بديل لمراكز تأهيل هؤلاء الجهاديين حتى يقوم بدورها، ولا يمكن تفعيل هذه المراكز بسبب عودة بعض من يخضعون للتأهيل إلى العنف مرة أخرى؛ فلا يُتصور أن يتم غلق المستشفيات الطبية أو التوقف عن إجراء الجراحات المعقدة بسبب من يموتون داخلها أو التوقف عن إجراء هذه الجراحات، فهذه نسبة مهدورة من الخسائر، لا يمكن تجاهُلها.

لعل النقاش المفتوح حول أهمية مراكز تأهيل الجهاديين يدفعنا إلى نقاش آخر جانبي، يرتبط بصلاحية السجون التي يقبع فيها هؤلاء الجهاديون. هل هذه السجون مؤهلة لتغيير شخصية الجهادي؟ والحديث هنا عن دور إضافي لأجهزة الأمن لا يقتصر على إلقاء القبض على هؤلاء المتطرفين أو حبسهم ولكن تأهيلهم أيضاً، وهو دور لو تعلمون عظيم.

ولعل معظم دول المنطقة تنبهت إلى أهمية الصلاحية المشار إليها، فأُنشأت مجمعات للسجون يتوافر فيها ما يخدم النتيجة المشار إليها، وتحولت سجون الجهاديين في الحقيقة إلى إصلاح وتهذيب، فما أكثر الجهاديين الذين خرجوا أسوياء بعد سنوات قضوها داخل هذه السجون.

قدرة أجهزة الأمن في تقديري الخاص ترتبط بالتأهيل أكثر منه بالمواجهة، التي نجحت فيها أجهزة الأمن في كل منطقتنا العربية. الأمل الوحيد في تغيير أنماط الواقع المتطرف عبر تأهيل هؤلاء الجهاديين بما يُصلح الحال والأحوال، التركيز على هذه المهمة مطلوب وتحقيق نتائج من ورائها لا يمكن التنازل عنه.

بقراءة فاحصة عن مراكز تأهيل هؤلاء الجهاديين في منطقتنا العربية، يأتي مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، على رأس هذه المراكز وأهمها على الإطلاق، فهو أشبه بالمنتجع الصحي فكرياً؛ يدخله متطرفون ليخرجوا منه أسوياء، يُشاركون في بناء مجتمعاتهم بعد ذلك، بل بعضهم يُصبح أداة نصح وإرشاد بمفرده حتى لا يقع غيره في ما وقع فيه سابقاً، وهذا دليل نجاح هذا المركز ودولة المملكة العربية السعودية عموماً في هذا التوجه.

هناك شعرة صغيرة بين معاقبة المذنبين في قضايا إرهاب وإعادة تأهيلهم، ولكن دعوني أضع توصيفاً أدق للواقع، هناك خلط بين فكرة التأهيل والعقاب. حديثنا هنا ليس في التغافل عن معاقبة المذنب أو التساهل في عقاب هؤلاء الجهاديين، لا بد من أن يكون مقابل جرائم الدماء التي يرتكبها بعض الجهاديين دماء مثلها وفق ما يسمح القانون والشرع، ولكن العقاب لا يمنع التأهيل في الوقت نفسه، فهي مرحلة تلي العقاب، وهي دليل إلى حس الدولة وأجهزتها بضرورة التأثير في هؤلاء المتطرفين.

وأهمية مراكز التأهيل أنها تنزع العنف ليس فقط من قلوب أصحابها، ولكن من أجيال متعاقبة قد تتأثر بهؤلاء المتطرفين، أولها أسرهم أو عوائلهم الكبيرة والصغيرة، فضلاً عن تلامذتهم ومحبيهم أو الدائرة الضيقة منهم، وهنا تبدو أهمية دور مراكز التأهيل. من السهل أن تنتقم ولكن من الصعب أن تسامح أو تُعدل في سلوك المذنب، هذه المهمة قد تحتاج إلى تأهيل القائمين على عملية التأهيل نفسه، بحيث يكونون مؤمنين بهذه المهمة الفريدة.

جمهورية مصر العربية من أهم الدول في المنطقة العربية التي نجحت في تأهيل الآلاف من الجهاديين، وهذا وسام شرف لأجهزة الأمن والمعلومات. واجهت هؤلاء الجهاديين ببسالة وشجاعة، ثم نجحت في تغيير منطلقاتهم الفكرية في ما بعد. قام الجهاز الأمني بهذه المهمة في عام 1997 بوازع وطني، وعندما شعر واطمأن إلى نتائج المراجعات الفكرية والفقهية دخل في مرحلة إقناع مؤسسة الرئاسة وقتئذ. وباتت تجربة مصر ملهمة لباقي دول المنطقة.

نحتاج بعد نجاح التجربة المصرية إلى إنشاء مراكز تأهيل عالمية، تتوافر فيها شروط التأهيل الحقيقي، ويتم العمل فيها وفق القواعد المتصور أن تحقق نتائج ملموسة. ولا بد من أن تكون هذه المراكز بمثابة مكان صالح لتأهيل المجرمين فكرياً وبدنياً وسلوكياً، وأن يحوي كل ما يؤدي إلى تحقيق هذه النتائج، فلا بد من وجود أطباء نفسيين، يكونون قادرين على فهم سلوكيات هؤلاء المنحرفين فهماً دقيقاً، وأن يكون فيها بعض علماء الدين والمفكرين والفلاسفة، قادرين على إعادة ترتيب ذهنية الجهادي من جديد.

لا بد من أن تكون مواصفات المراكز تسمح بالتأهيل الحقيقي، بحيث تُشعرهم أنهم أشخاص طبيعيون ولا تزال الفرصة متاحة أمامهم حتى ينخرطوا مجدداً في مجتمعاتهم، ولا بد من أن يُدرك صاحب القرار أن أشخاصاً ممن تم تأهيلهم سوف يعودون للعنف بعد مرور فترة التأهيل، وقد يكون بعدها بـ5 أو 7 سنوات من التأهيل، وهذا ليس معناه أن ثمة عيباً ما في التأهيل، ولكن هناك نسبة من 10% إلى 15% حداً أقصى أن يعودوا إلى العنف بصوره المختلفة، وهنا لا بد من تقبل هذه النسبة واستيعاب نسبة النجاح الأخرى في تأهيل باقي الجهاديين.

وهنا لا مشكلة في إنشاء مراكز تأهيل عالمية أشبه بالمنتجعات ما دامت فائدتها ستعود على الوطن ومواطنيه، فحجم ما ملأ صدور هؤلاء المنحرفين وعقولهم يحتاج إلى مجهود جبار على مستوى الفكر والسلوك، كما يحتاج إلى بيئة مؤهلة لذلك. لا بد من أن يكون التفكير أعمق في تفكيك ظاهرة الإرهاب ودفع ما يستلزم لأداء هذه المهمة مهما كانت الأثمان.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية