معاداة السامية تقلق ألمانيا

معاداة السامية تقلق ألمانيا


25/06/2018

ترجمة: علي نوار

بعد وصول لاجئين مسلمين وافدين من دول ينتشر فيها الخطاب المعادي لليهود والإسرائيليين، بدأت مدارس وشوارع ألمانيا تشهد وقوع حالات مضايقة بحق اليهود، ما دفع حكومة برلين لتدشين برامج تعليمية لتخفيف وطأة هذه الظاهرة.

في هذه البلاد، حيث تدرّس المحرقة النازية (هولوكوست) في المدارس، منذ الصغر، وحيث تلقّن الذاكرة التاريخية بشكل يخضع لسيطرة دقيقة، وحيث تعدّ الدولة أنّ ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة تجاه اليهود والإسرائيليين، نتيجة الماضي النازي المشين، تتمكّن معاداة السامية من البقاء، رغم كافة الجهود التي تبذل للقضاء عليها، وحيث يتواجد أتباع ليسوا من النازيين الجدد المحليين؛ ففي مقابلة أجرتها معها قناة "تشانل 10 نيوز" التلفزيونية الإسرائيلية، في نيسان (أبريل) الماضي، اعترفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنّ "ألمانيا تشهد ظواهر جديدة؛ اللاجئون وأشخاص آخرين ينحدرون من أصول عربية يجلبون معهم صورة مختلفة من معاداة السامية إلى البلاد".

بدأت المدارس والشوارع تشهد حالات مضايقة لليهود ما دفع لتدشين برامج تعليمية لتخفيفها

فبعد قرار فتح الحدود الذي تبنّته ميركل، خلال صيف 2015، وصل إلى ألمانيا ما يزيد عن مليون شخص من طالبي اللجوء، أغلبهم من المسلمين الوافدين من الشرق الأوسط؛ حيث ينتشر خطاب معاداة السامية والمناهض لإسرائيل، أضيف هذا العدد إلى قطاع قائم بالفعل من الشعب الألماني، وقد أوضح جوزيف شوستر، رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، خلال لقاء عقد قبل أيام مع صحفيين أجانب؛ أنّ "الإحصائيات تشير إلى أنّ 20% من المجتمع الألماني، أو واحد من كلّ خمسة ألمان، لديهم أحكام مسبقة تجاه اليهود"، وأنّ هذا الوضع موجود منذ عقود.

يعرف يفجيني أبراموفيك، رئيس نادي (توس مكابي برلين) لكرة القدم اليهودي، معاداة السامية جيداً، خاصّة تلك التي تصدر من الألمان الأصليين، ويوضح أبراموفيك: "يتعرض لاعبونا للبصق عليهم، والركل، والسباب على أرضية الملعب، وهذه تفاصيل صغيرة فحسب؛ اشتدت وتيرة اللعب ذات مرة لدرجة أن لاعبي الفريق الآخر هددوا فريقنا بالقتل، وبالطبع ألغيت المباراة".

زينا أرنولد:يربط الكثير من اللاجئين بين اليهود والثراء والنفوذ ويحملونهم المسؤولية عن الحروب في العالم

وفي لقاء آخر، كان الفريق المنافس يضمّ بين صفوفه عدداً كبيراً من اللاعبين العرب، وقد انتهى بأعمال شغب، مرّ وقت طويل دون حوادث جسيمة مثل هاتين الواقعتين، وفق أبراموفيك، لكنّ "البصق وتوجيه السباب والركلات" تعود بين الحين والآخر.

وفي حالة طالبي اللجوء الوافدين إلى ألمانيا، أو الذين تشبّعوا بالخطاب المعادي لليهود السائد في بلدانهم الأصلية، أو يتعرّضون له هنا في ألمانيا من قبل لاجئين آخرين أو رجال دين، تؤكد خبيرة العلوم السياسية زينا أرنولد: "يربط الكثير من اللاجئين بين اليهود والثراء والنفوذ، وينسبون لهم المسؤولية عن الحروب في العالم، ويتّصف كثيرون منهم بما يمكن أن نطلق عليه معاداة السامية الكلاسيكية"، وذلك استناداً إلى نتائج دراسة أجرتها لصالح جامعة "همبولدت"، التي اهتمت برصد مؤشرات معاداة السامية بين اللاجئين والإستراتيجيات المتاحة للتعاطي معها.

لم تشر الدراسة إلى وجود صلة بين الهجرة وجرائم معاداة السامية، لكن إذا كانت هناك حالة ملتبسة، فإن الشرطة تنسب مسؤوليتها عادة إلى اليمين المتشدد.

تعلّم إحدى المؤسسات متعددة الثقافات ببرلين، صغار اللاجئين أنّ معاداة السامية هي فكر منحرف

كما أثبتت دراسة أجرتها مؤسسة "هانز زايدل"، التابعة للحزب الاجتماعي المسيحي البافاري، هذا التحليل؛ فوفق استطلاع رأي شمل 780 لاجئاً وصلوا إلى إقليم بافاريا، فإن 52% من السوريين، و53% من العراقيين، و57% من الأفغان، اعتبروا أنّ "اليهود يحظون بقدر كبير من السطوة في العالم"، وتوضح الباحثة أرنولد أنه "بشكل عام، تشهد المدرسة تشكيل اتجاه قومي معاد لليهود، يضع الصهيونيين في مرتبة العدو الأول"، واستطردت: "وفيما يتعلق بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فإنهم يوجهون الكثير من الانتقادات لإسرائيل، ولا يميزون بين اليهود والإسرائيليين، لكنّهم يعرفون قدراً قليلاً للغاية عن الهولوكوست، أو ربما لا يعرفون شيئاً على الإطلاق".

ويلحظ تصاعد هذا الاتجاه بالمدارس الحكومية في برلين؛ حيث وقعت حالات قيام أطفال اللاجئين بتوجيه السباب أو التعرض في فناء المدرسة للأطفال اليهود، النتيجة: الأسر اليهودية تنقل أبناءها إلى مدارس يهودية أو مدارس خاصة.

ولتخفيف هذه الظاهرة؛ تعلّم إحدى المؤسسات متعددة الثقافات، في حي كرويتسبرغ بالعاصمة برلين، صغار اللاجئين كي ينقلوا إلى قصّر آخرين لاجئين كيف أنّ معاداة السامية هي فكر منحرف، وتنفّذ المؤسسة ذلك عن طريق ورشات ضمن ما يعرف باسم (فصول الترحيب)، حيث يدرس التلاميذ المهاجرون من أجل الوصول لمستوى كاف من اللغة الألمانية يؤّهلهم للالتحاق بالمدارس، ويقول أيكان دميرل، مدير مؤسسة مبادرة كرويتسبرغ لمكافحة معاداة السامية (كيجا)، وهو من أصول تركية: إنّ "اللاجئين أنفسهم يجب أن يقوموا بعملية التوعية هذه مع لاجئين آخرين، لتحويلهم إلى جزء من الحلّ، بدلاً من النظر إليهم بوصفهم جزءاً من المشكلة".

الشرطة تنسب مسؤولية جرائم معاداة السامية عادة إلى اليمين المتشدد

وفي مقرّ (كيجا)، تنتشر الكتب التي تتحدث عن المذبحة اليهودية التي ارتكبها النظام النازي، ويوضّح دميرل أنّ الشباب من اللاجئين، وكذلك والديهم، يكون لديهم عادة معرفة تاريخية ضئيلة بالهولوكوست، وإضافة إلى الأحكام المسبقة المعادية لليهود التي تلقوها في دولهم، والشعور بالتمييز بسبب معاداة الإسلام من جانب الغرب، يتولّد أو يتعزز تيار معاداة السامية، وللحد من ذلك؛ تعمل (كيجا) على خلق حالة من التعاطف. ويضيف دميرل: "في إحدى الورشات، تسرد قصة حقيقية تدور حول طبيب مسلم من برلين، أنقذ خلال الحقبة النازية اليهود من الملاحقة".

تشارك ساندي وسامر، أبناء الـ 20 عاماً، (فضّلا عدم ذكر اسميهما كاملين)، في المجموعة التي تذهب إلى المدارس لرواية هذه القصة باللغة العربية.

درست ساندي المحاسبة في بلادها، بينما يحمل سامر شهادة في الاقتصاد من جامعة دمشق، تقول ساندي: "لطالما شدّتني السياسة والتاريخ، يعتقد الألمان أننا جميعاً في العالم العربي معادون للسامية، لكننا رأينا في مدننا أشخاصاً من جميع الأديان يتعايشون معاً دون أيّة مشكلات"، ويؤكد سامر من ناحيته: "عندما أتأمل مسؤولية ألمانيا بسبب النازية، أتساءل عمّا إذا كنا جميعاً (كسوريين) سنحمّل الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية الجهادي (داعش) مسؤولية كلّ ما يفعلونه؟".

في أجواء يشوبها القلق بسبب معاداة السامية، شهدت ألمانيا، في 25 نيسان (أبريل) الماضي، يوماً للتضامن، في تجمّعات في برلين ومدن أخرى حضرها المشاركون معتمري القلنسوة اليهودية (كيبّاه)، التي يرتديها الرجال اليهود، كان مصدر هذا القلق هو تلك الواقعة التي حدثت في حي نيوكولن ببرلين؛ فقد تعرض شاب يرتدي الكيبّاه (لم يكن يهودياً، بل من عرب إسرائيل كان يرتدي القلنسوة كتجربة) لهجوم من قبل شاب صرخ عليه "يهودي"، واعتدى عليه بالضرب.

ألقت معاداة السامية بظلالها على جوائز إيكو الرفيعة وهي الأهم في عالم الموسيقى بألمانيا خلال هذا العام

أثارت هذه الواقعة حالة واسعة من الجدل، لكن رغم كلّ شيء، تكشف الإحصائية أنّ العلاقة بين الهجرة وجرائم معاداة السامية واهنة جداً؛ فمن بين ألف و366 حادثة من هذا النوع، جرى توثيقها عام 2015، فإنّ ما نسب منها إلى المهاجرين كانت 78 حالة فحسب، أما أغلب هذه الوقائع (ألف و246 حالة) فقد ألقيت اللائمة فيها على اليمين المتشدد، لكن يجب الانتباه -في الوقت ذاته- كذلك إلى أنّ الشرطة في بعض الحالات غير الواضحة تشير بأصابع الاتهام لليمين المتشدد عادة، في جرائم معاداة السامية، وفق الباحثة آن كريستين فجنر، في دراسة نشرت أواخر 2017، لصالح مكتب حماية الدستور في ولاية هيسن، فقد كتبت فجنر في تقريرها: "رموز اليمين المتشدد يتعرضون للملاحقة في ألمانيا، إلا أنّ الأمر عينه لا يطال الأوساط الإسلامية، لذا فإن الجرائم التي تستخدم فيها اللغة العربية أو التركية تحظى بقدر أقل من اهتمام أجهزة الأمن".

كما ألقت معاداة السامية بظلالها على جوائز (إيكو) الرفيعة، وهي الأهم في عالم الموسيقى بألمانيا، خلال هذا العام؛ ففي مطلع نيسان (أبريل) الماضي، نال ألمانيان اثنان من مغنيّي موسيقى الراب، هما كوليجاه وفريد بانج، الجائزة، وتقول إحدى أغنياتهما: "جسدي محدد أكثر من أجساد سجناء أوشفيتس"، أكد كوليجاه، وهو متحول للإسلام، واسمه الحقيقي فليكس بلومه، وفريد عبد الله المنحدر من أصول مغربية، أنّهما لا يكرهان اليهود، لكنّ مشاعر السخط أجبرت أشخاصاً فائزين بالجائزة في نسخ سابقة على إعادتها، ثم إلغاء حفل جوائز (إيكو) نهائياً، زار كوليجاه وعبد الله مؤخراً معسكر الاعتقال النازي السابق (أوشفيتس)، تعبيراً عن تفهّمهما للماضي النازي الذي ربما لم يكن يدركاه من قبل.

يحذر رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، جوسيف شوستر: "ما تغيّر هو أنه كانت هناك خطوط حمراء قائمة منذ حقبة ما بعد الحرب، والآن تحدث تجاوزات لهذه الخطوط، أصبح الناس حالياً أكثر جرأة عند قول أشياء عن اليهود، كانوا يفكّرون فيها فقط من قبل، لكن لم يكونوا يستطيعون التعبير عنها على الملأ"، معتبراً أنّ هذا التغيير ناتج عن ظهور حزب (بديل لأجل ألمانيا) اليميني المتشدد، وهجومه المستمر على ثقافة الذاكرة التاريخية، بسبب نزعة الفخر القومية المفرطة، وهو التشخيص الذي يتفق معه فيه مفوض مكافحة معاداة السامية فليكس كلاين.

حزب(بديل لأجل ألمانيا) يعاني من تناقض واضح إذ يعادي الإسلام وفي الوقت ذاته يحتوي معاداة السامية

أنشأت المستشارة ميركل هذا المنصب في أعقاب حرق أعلام إسرائيلية وترديد هتافات معادية لليهود في برلين (هذه المرة من قبل متشددي اليسار) احتجاجاً على قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ويرى كلاين، الذي تولى منصبه نهاية نيسان (أبريل) الماضي، أنّ معاداة السامية باتت أكثر "حضوراً"، وأنّ "حزب "بديل لأجل ألمانيا" أسهم في ذلك".

لكن الوضع لا يخلو من التعقيد، فحزب (بديل لأجل ألمانيا) يعاني من تناقض واضح؛ نظراً إلى أنّه يتبنى فكراً معادياً للإسلام، لكنه يعمل جاهداً، في الوقت ذاته، لاحتواء معاداة السامية الدفينة داخل صفوفه؛ فقد كشف تقرير أعدته مؤخراً وزارة الداخلية: أنّ "الأحزاب الشعبوية اليمينية تركز على المسلمين، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة تجنب الظهور على هيئة المعادين للسامية".

يعدّ المفوض كلاين اللاجئين "مشكلة أخرى من حيث معاداة السامية؛ فالسلفيون والجماعات الأصولية الأخرى يحاولون التأثير عليهم، ومن هنا يتعين على أجهزة الأمن أن تظل متيقظة"، بينما يدعو اليهودي شوستر لزيادة جرعة دورات الاندماج، بما لا يشمل فحسب هذه المسألة؛ بل أيضاً المساواة لصالح النساء وجميع التوجهات الجنسية المختلفة؛ نظراً إلى أنّ المهاجرين يظهرون مؤشرات تدعو للقلق في هذا الصدد.

مقال للصحافية ماريا باث لوبيث منشور في جريدة "لا بانجوارديا" الإسبانية

الصفحة الرئيسية