معضلة لبنان بسيطرة العصابات المنظّمة العابرة للحدود والتنّظيمات الأيديولوجيّة

معضلة لبنان بسيطرة العصابات المنظّمة العابرة للحدود والتنّظيمات الأيديولوجيّة


29/09/2021

رياض قهوجي

عندما ينتشر الفساد انتشاراً كبيراً في الدوائر الحكومية، ويزداد حجم التهريب على الحدود الدولية للدولة (برية وبحرية وجوية) من دون أي قدرة أو إرادة للأجهزة الأمنية على وقفها، وتكثر الجرائم من دون أي محاسبة فعلية من القضاء، ويصبح تدخل السياسيين في القضاء مشهداً مألوفاً، ويصبح إنتاج المخدرات وتصديرها الى الخارج بكميات كبيرة حدثاً متكرراً من دون رادع، وينتشر البؤس والفقر، فإن هذه الدولة هي مسيطر عليها من عصابات الجريمة المنظمة والمتعاونة مع ميليشيات أو منظمات مصنفة إرهابية من دول كبرى.

هذا ما تجمع عليه دراسات أكاديمية لمراكز أبحاث جامعية وخاصة حول عصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، ويمكن لأي شخص أن يجري بحثاً بسيطاً على الإنترنت ليتأكد من ذلك. وتشير هذه الدراسات الى أن حجم التعاون بين هذه العصابات والمنظمات المصنفة إرهابية تضاعف تضاعفاً كبيراً منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة بسبب الإجراءات المتشددة التي فرضها المجتمع الدولي بضغط أميركي على عمليات تحويل الأموال وعمل المؤسسات الخيرية التي كانت تستخدمها هذه المنظمات، بالإضافة الى فرض عقوبات دولية على شخصيات وشركات مرتبطة بممولين لهذه المنظمات. 

إذا ما أجريت مقارنة لوصف حالة الدول التي تسيطر فيها عصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، كما ورد أعلاه مع الوضع في لبنان، فإن هناك تطابقاً كبيراً. الفساد منتشر في لبنان باعتراف السياسيين قبل المحللين والشعب. التهريب على أشده والحدود سائبة، بحيث تقوم أحزاب وقيادات بإدخال وإخراج ما تريد من دون حسيب أو رقيب، ولا أي تدخل من الأجهزة الأمنية والعسكرية كافة. جرت عمليات اغتيال وتفجير مرفأ وجرائم أخرى من دون أي نتيجة لتحقيقات قضائية، واتهامات مسؤولين لبعضهم بعضاً بالتدخل في القضاء وتسييسه تحدث بشكل شبه يومي. وما يجري في التحقيق في جريمة انفجار المرفأ مثل من عشرات الأمثلة الأخرى. أما تصنيع المخدرات في لبنان، وتحديداً الكبتاغون، وتهريبه الى الخارج، فبات من الصفات المعروف بها لبنان لدى الدوائر الأمنية حول العالم مع عشرات التقارير الإعلامية والأمنية عن هذا الموضوع، وارتباط العصابات المنتجة والمصدرة في لبنان مع عصابات في أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية. 

وبناءً على ما تقدم، فإنه ليس مستغرباً أن نجد البيئة الجاهزة في لبنان لاستغلال كل شيء، من تهريب الأدوية والحليب المدعوم والتلاعب بالدولار وبيع الأطعمة الفاسدة. فهذه كلها عمليات لا يمكن تنفيذها من قبل أفراد أو بعض العصابات الصغيرة، بل هي بحاجة لعصابات منظمة لديها علاقات داخل الدولة والأجهزة الأمنية ومع عصابات في الخارج، من أجل أن تحقق هذا الكم من السيطرة على أسواق بلد بأكمله من دون أن يطالها أي شيء. وما الأخبار التي توزع بين الحين والآخر عن العثور على مستودعات ومخازن وتوقيف متورطين سوى حركات بهدف، إما الاستهلاك الإعلامي المحلي لتصوير أن هناك دولة تعمل في لبنان، أو تأتي ضمن عمليات تصفية حسابات بين هذه المجموعات بهدف مكاسب مالية أو سياسية. فهذه العصابات لها وسائل إعلامها وجيوشها الإلكترونية التي تساعد في التستر على أخبار وتحويل الأنظار الى أمور تافهة. فهل هناك من يعلم ما جرى لكل أصحاب هذه المستودعات والمخازن وكيف أطلق سراح غالبيتهم؟ 

ومما تظهره الدراسات حول تكوين عصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود والمنظمات الأيديولوجية التي تتعامل معها، أنها تعتمد على شبكات مترابطة اجتماعياً وإثنياً ومناطقياً ومذهبياً مع بعضها بعضاً. فهي تبدأ من زعيم العصابة أو المنظمة الذي يجند إخوته وأبناء عمه وأصهرته وأبناءه، ومن ثم كل منهم يتوسع ضمن دائرته الخاصة لتكبر بشكل يصبح لها مع الوقت تركيبات غير مركزية، أي يعين الزعيم الكبير مسؤولاً لمنطقة وهو بدوره يشكل شبكته الاجتماعية من أفراد العصابة الذين لا يكونون مرتبطين بالشبكة الأم ولا يعرفون أحداً من أفرادها. وتعتمد قيادات هذه العصابات على اللاعبين الصغار لتنفيذ الأعمال "الخبيثة"، مثل قيادة سيارات التهريب وبيع البنزين والمازوت المهرب وبيع الدولار في الشنطة وتوزيع المخدرات وغيرها من الأمور الميدانية. التركيبة الطائفية - المذهبية - المناطقية اللبنانية جاهزة وممتازة لتشكيل هذه المجموعات وتسهيل عملها. ومن المثير أنه كلما جرى توقيف شخص بتهمة تهريب أو فساد ومخدرات، تهب قيادات سياسية، ودينية أحياناً، لتدافع عنه بحجة أن الطائفة أو المذهب هو المهدد. فلقد تقمصت هذه العصابات والمنظمات الدولة اللبنانية واخترقت مفاصلها جميعها، بحيث باتت هي الدولة ولها رأي بماذا يحدث داخل البلد ومن يعين في المراكز الحساسة. ففيما هدف العصابات هو الربح المادي والنفوذ، هدف المنظمات الأيديولوجية خدمة أهداف سياسية عابرة للحدود.    

القيادات الأمنية والعسكرية في لبنان تدرك الواقع في البلد، ولذلك يقوم العديد منها بالتروي عند أداء مهامه. فعند توقيف سيارة تنقل سلاحاً أو ممنوعات، يجري تواصل بين المسؤول الأمني وبعض الجهات الكبيرة لمعرفة إن كان عليه غض الطرف أو إحالتها على القضاء. ويملك العديد من الضباط المتقاعدين حديثاً عشرات القصص والأمثلة عن ذلك، ولكن أياً منهم لن يتكلم علانية وفي محكمة حتى لا يدين نفسه، هذا إن سمح للقضية أن تصل الى محكمة. وطبعاً تدرك السفارات الأجنبية في لبنان واقع الحال، وهي بدورها رفعت وترفع تقاريرها عن واقح الحال الى الخارج. لذلك، يكثر الحديث في المحافل الدولية ولدى الجهات التي يعنيها الواقع اللبناني عن الحاجة لتغيير الطبقة التي تسيطر على البلد، كونها باتت عاجزة عن إصلاح ما هي مصممة على استغلاله حتى الرمق الأخير. 

مقولة أن لبنان هو تحت حصار دولي غير صحيحة إطلاقاً. فالطائرات والسفن تدخل كما تشاء وكيفما تشاء، حتى تلك التي لم تستوردها الدولة ولا علم لمسؤوليها بها مثل المازوت الإيراني. المشكل أن لبنان مفلس والمجتمع الدولي فقد الثقة بقياداته ولم يعد مهتماً بمساعدته مالياً. كما أن ارتباطات ونشاطات الأحزاب المسيطرة المعادية لدول الخليج العربية حرمت لبنان من أهم مصدر للاستثمارات والمساعدات. كما أن بعض هذه الجهات الحزبية متهمة بالإرهاب من أميركا، وبالتالي تخضع هي وعناصرها لعقوبات دولية. وعليه، فإن لبنان هو مسرح لعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود التي تسيطر عليه بمساعدة تنظيمات أيديولوجية لها أجندات عابرة للحدود وتمسك بجميع مفاصل الدولة. هذا الواقع لن تغير فيه كثيراً انتخابات تجريها وتشرف عليها هذه القوى. مشكلة لبنان هي أمنية - سياسية بامتياز، وحلها يجب أن يكون ضمن هذا الإطار، وأي مسعى خارجي لا يركز على ذلك سيكون بمثابة ترقيع وشراء وقت ليس أكثر.  

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية