مناظرة الغزالي والقرضاوي لفؤاد زكريا.. تاريخ من المغالطات الإسلاموية

مناظرة الغزالي والقرضاوي لفؤاد زكريا.. تاريخ من المغالطات الإسلاموية


02/03/2020

في مبنى دار الحكمة (النقابة العامة لأطباء مصر) بالقاهرة في منتصف الثمانينيات، ووسط صيحات وهرج المئات من الجمهور الذي ينتمي أغلبه للتيار الإسلامي انطلقت مناظرة بعنوان "الإسلام والعلمانية" دعت إليها اللجنة الثقافية بالنقابة، ودار النقاش بين أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة الدكتور فؤاد زكريا، والشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي.

كانت من المناظرات القليلة التي جمعت الجبهتين من رجال الدين والفكر في مصر

  كانت تلك من المناظرات القليلة التي جمعت الجبهتين من رجال الدين والفكر في مصر، إلى جانب مناظرة الدكتور فرج فودة والدكتور محمد أحمد خلف الله الشهيرة مع الشيخ الغزالي والدكتور محمد عمارة ومرشد الإخوان السابق مأمون الهضيبي والتي اغتيل بعدها الراحل فرج فودة، بالإضافة لمناظرة الدكتور رفعت السعيد مع المفكر الإسلامي عادل حسين.
تعتبر مناظرة، فؤاد زكريا مع الغزالي والقرضاوي، كاشفة ودالّة على موقف التيار الإسلامي من المختلفين معه وتكتيكاته في مخاطبة الجمهور، وبالمناسبة فقد وقعت مناظرة بين القرضاوي والمفكر السوري الراحل صادق جلال العظم على شاشة قناة فضائية بعد مناظرة دار الحكمة بما يقرب من ربع قرن، ولم يختلف خطاب القرضاوي كثيراً بين المناظرتين.

أباح الغزالي في البداية حرية التفكير ثم انتهي باتهام المثقفين العلمانيين بالجهل بالدين الإسلامي وكراهيته
  تنوعت مقاربات الشيخين في مواجهة الدكتور فؤاد زكريا أثناء المناظرة؛ فبينما تبنّى الغزالي موقفاً متزناً نوعاً ما ومهاجماً أحياناً، فضّل القرضاوي الهجوم على العلمانية والعلمانيين، واجتمع الاثنان على توظيف مهاراتهم الخطابية واستخدام نبرات الصوت بإيقاع يحنو مرةً ويقسو أخرى ليضمن التفاف قلوب الجمهور ذي الأغلبية الإسلامية حول هذا الخطاب.

اقرأ أيضاً: بين القرضاوي والريسوني: هل أخونة الاتحاد العالمي قابلة للتغيير؟
صرح زكريا أنّه جاء لا يمتلك في جعبته أي مهارات خطابية سوى خطاب يوجهه إلى عقول المستمعين، كما أصرّ على ألا يغير إيقاع الصوت ونبرته فخطاب العقول أولى من مغازلة المشاعر واستدرار العواطف؛ الحوار إذن كان بين طرفين ينتميان إلى حقلين مختلفين هما حقل الحكمة وحقل الشريعة، استخدم الطرفان الأدوات المتاحة للحقلين، فكيف كان خطاب الطرفين؟

اقرأ أيضاً: هكذا فكّك فؤاد زكريا فكر الإسلام السياسي
بدأت المناظرة بمداخلة الشيخ محمد الغزالي؛ تدرج الشيخ في خطابه فبدأ بتأكيده على حرص الإسلام على الحرية الدينية عملاً بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، مشدداً على حرية التفكير في الإسلام، ومقتبساً لعنوان كتاب من كتب العقاد أنّ "التفكير فريضة إسلامية"، كما أكد أنّ الدولة الدينية تضمن حقوق الأقليات، كما ذكّر الجمهور بنماذج من عظمة الحضارة الإسلامية، وفسر سر تخلف المسلمين حالياً بالاستعمار واستهدافه للإسلام، ونعى على المسلمين حظر الأحزاب الإسلامية، فيما الأحزاب المسيحية الديقراطية تنتشر بالغرب، كما قسم العلمانيين إلى صنفين: الأول مصلح جاهل بالإسلام، والثاني جريء على الله كاره لدينه، وبذلك التدرج أباح الغزالي في البداية حرية التفكير ثم انتهى باتهام المثقفين العلمانيين بالجهل بالدين الإسلامي وكراهيته.

صرح زكريا أنّه جاء لا يمتلك في جعبته أي مهارات خطابية سوى توجهه إلى عقول المستمعين

ثم بدأت مداخلة الدكتور فؤاد زكريا الذي أكد على أنّه لا يوجد تضاد أو مقابلة بين الإسلام والعلمانية، وتساءل متعجباً ما هو حال المجتمع المصري قبل صعود الصحوة الإسلامية؟ وهل يمكن وصمه بالكفر لأنه لم تنطبق عليه معايير المجتمع الإسلامي كما يراها إسلاميو الصحوة؟! وشدد زكريا على استحالة الفصل بين المكون الإلهي والمكون البشري في التشريع، فالعامل البشري ليس متلقياً سلبياً، فهو قادر على إفساد التشريع وإبطال مفعوله مادام تعارض مع مصلحة هذه الفئة أو تلك، فيما تصر الجماعات الإسلامية على أنّ التشريع الإسلامي هو تشريع إلهي خالص، وما على البشر سوى تطبيقه كوصفة جاهزة للتنفيذ في كل زمان ومكان، وأكد على أنّ القانون يحتوي التشريع الديني والعرف البشري ليصيغ قانوناً اجتماعياً نافذاً، ودفاعاً عن العلمانية ذكر زكريا أنّها كانت طوق نجاة للهند فيما غرقت لبنان في مستنقع الحرب الأهلية الطائفية لعشرة أعوام.


ثم بدأ القرضاوي خطابه بتعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، ورفض الشريعة، كما اتهم العلمانيين بالجهل وعدم قراءة الكتابات الإسلامية، وأضاف أنّ الهدف النهائي لهم استبعاد فرائض معينة من الإسلام وقبول أخرى.
وفي سياق رده على خطاب زكريا، نفى القرضاوي أن يعبر القانون عن أحوال المجتمع الإسلامي؛ فالقانون فرضه الاستعمار قسراً على المسلمين، وجاء بقرارات فوقية، وبالمقابل أكد أنّ القوانين الربانية قادرة على تحقيق هدف الشرع، ومنع الخمر بالتدريج خير تطبيق لذلك المبدأ، والإسلام شامل، ومن يتبع الدين فعليه أن يطبق تعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه ويحتكم للقرآن الكريم وسنّة نبيه الكريم.

اقرأ أيضاً: القرضاوي.. الآمر الناهي في قطر
يلاحظ مشاهد هذا التسجيل المرئي الذي أذيع لأول مرة على موقع يوتيوب بعد ثورة 2011، أنّه نموذج معتاد للخطابات الإسلامية الشائعة في مواجهتها للمختلف معها، فالقرضاوي تحديداً ينطلق من موقف صلب مهاجم عنيف ضد العلمانية، وبرغم أنّه نفى وجود كهنوت في الإسلام فإنه يؤكد أنّ المسلم عليه أن ينصاع لأوامر الإسلام ما دام مسلماً، ولكن يظل السؤال قائماً عن أي نسخة من الإسلام يتحدث؟!

رؤية كل أيدولوجيا أو فلسفة على أنّها ديانة وضعية لازمت التيار الديني في مواجهة العلمانيين

إنّ القرضاوي يتعمد الخلط بين أفكاره وأفكار جماعة الإخوان المسلمين، وبين الإسلام، ويرى أنّ رؤية جماعته لشمولية الإسلام يجب أن تتصدر جميع الرؤى التي تتناول مواقف المسلمين المعاصرين من الإسلام، ومن سيخرج عن تلك الرؤية فهو خارج عن المعلوم من الدين بالضرورة، وتلك هي محنة الجماعة والحركات الدينية عموماً حينما تتوحد مع المقدس، وتظن خطأ أنّها صارت صوت المقدس الوحيد.
خطاب الشيخين عن العلمانية، وتعريفها بفصل الدين عن الدولة يؤكد ما ذهب إليه المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أنه تعريف يبغي شيئاً آخر غير التعريف البريء للمفاهيم، كما ذكر القرضاوي في مداخلته؛ فالتعريف يحمل رسالة موحية للعقل المسلم تقول إنّ العلمانية هي فصل الدين عن المجتمع ورفض الشريعة، كما أنّهما تعمّدا الحديث عن العلمانية كماهية مستقلة تجمع بين رؤى المثقفين غير الإسلاميين المتنوعة، فيحق لشيوخ التيار الإسلامي اقتباس أي رأي معادٍ للدين ونسبته للعلمانية وكأنها ديانة مقابلة، إنّ رؤية كل أيدلوجيا أو فلسفة على أنّها ديانة وضعية لها كهنة وأصنام رؤية، لازمت التيار الديني في مواجهته لكافة خصومه من العلمانيين بمختلف انتماءاتهم.

اقرأ أيضاً: فؤاد زكريا مؤذّن العقل في مالطا التعصب
اللافت للنظر أن الشيخ القرضاوي ألّف كتاباً بعنوان "الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه" للردّ على الدكتور فؤاد زكريا، حيث شن هجوماً ضارياً شرساً ضده متهماً أستاذ الفلسفة بأنه يحمل سيفاً للهجوم على الإسلام ويشكك في أنّ الشريعة من عند الله، وأسرف القرضاوي في تأويل كلام زكريا فقال رداً على فكرة زكريا عن الجانب البشري في التشريع أنّه "زعم أنّ كل ما هو إلهي ينقلب بشرياً صرفاً بمجرد تفسيره وتطبيقه، ومعنى هذا أن لا فائدة، ولا مبرر أن ينزل الله كتاباً، أو يلزمهم بشريعة، يبعث بها رسولاً".


وقد سار خط الكتاب الأساسي على التهكم والإسراف والمبالغة في تأويل كلام الدكتور فؤاد زكريا، متهماً إياه بأنه "يلوي عنق الحقيقة" وينصب نفسه للمحاماة عن الباطل الضعيف ويدافع عن قضية خاسرة، وهو يدافع عن "العلمانية" في مجتمع يؤمن بالإسلام، والدكتور يؤذن في مالطة لأنه ضد الأذان على خط مستقيم!
يقول الدكتور فؤاد زكريا قبل رحيله في مارس (آذار) 2010 عن تلك المناظرة وكتاب القرضاوي اللاحق له: "أعتقد أنّ ما كتبه القرضاوي عن هذه المناظرة كان به تشويه كبير لما حدث فيها، لكي يظهر نفسه ويعلن أنه هو المنتصر في هذه المناظرة، ويظهرني على أنني كنت متهافتاً، ما حدث في المناظرة كان عكس ما تم الترويج له تماماً، أنا أعتقد أنني استطعت الدفاع عن العلمانية والتنوير في تلك المناظرة بطريقة سببت الحرج الشديد لمناظريْ الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي".

اقرأ أيضاً: هل توسع الغزالي في باب التكفير بالقياس؟
تحدث الشيخان كعادة أئمة هذا التيار السياسي عن مظلومية الإخوان، وكيف تعادي الدولة شرع الله، وحَرِصا على التأكيد على إسلامية المجتمع المصري، وفي النهاية سقطا في فخ العداء لحرية الرأي، وكتاب القرضاوي خير دليل بما حفل بمبالغات وهجوم غير علمي.
ومع سقوط المشروع الإخواني في مصر؛ لأسباب أهمها رغبتهم المحمومة في احتكار مؤسسات الدولة وحصار المؤسسات الدستورية ومهاجمتها، تتجلى نفس البداية الناعمة والحديث عن المظلومية ثم تنتهي بالسقوط المدوي في وحل التكفير والإرهاب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية