منكرات زمن (الصحوة)

منكرات زمن (الصحوة)

منكرات زمن (الصحوة)


06/12/2022

ناصر الحزيمي

إن الحديث عن مرحلة معينة من تاريخ قريب قد عايشناه وشهدناه يحتاج إلى نوع من الدربة المنهجية، وإلا تحول الموضوع إلى مجرد معلومة نذكرها كشهود عليها وقد نكون مشاركين في صنعها.

في بداية السبعينات تعرف المجتمع عموما في الخليج على عبد الحميد كشك صوت جهوري له أداء مجلجل لا يخلو من الظرف والنكتة تعرفنا عليه من خلال شريط الكاسيت ويغلب على المصلين خلفه والمستمعين له أنهم من العوام الذين سوف يجندهم الإسلام السياسي ويطلق عليهم (شباب الصحوة) هؤلاء العوام سوف يكون لهم شأن في حراك مشروع الإسلام السياسي لم يكن عبد الحميد كشك هو أداة التفريخ الوحيدة التي ساهمت في صناعة العوام وإنما ساهم غيره في مناشط شبيهة تصب في صالح تجريم وتخطئة المجتمعات تمهيدا لتقديم البديل المرتقب وهو حل جماعات الإسلام السياسي (أسلمة المجتمعات) وتحويلها إلى بؤر سخط وتململ وهو الدور الذي ما زالت تقوم به جماعات الإسلام السياسي.

إن تشكيل العامة ومن ثم ضخهم في المجتمع بمسمى (شباب الصحوة) أو (الصحوة) كانت خطوة جديدة في تاريخنا المعاصر إذ أن استغلال العامة كقوة ضاغطة ومتسلطة كنا نجده في التاريخ في فترات محدودة إلا أن العامي بقي عاميا ولم يتحول إلى شيخ دين ولم تصلنا أدبيات تمدح السوقة أو العوام برغم أدوارهم الفاعلة أحيانا كما حدث مع رجل تولى حكم دمشق لمدة سبع سنوات تقريبا وكان زبالا حسبما قيل أو ترابا ذكر ابن كثير في تاريخه في أحداث سنة (( ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.... فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لَمَّا اتَّقَى أَفْتِكِينُ مَعَ الْعَزِيزِ بِأَرْضِ الرَّمْلَةِ وَانْهَزَمَ أَفْتِكِينُ وَالْحَسَنُ الْقِرْمِطِيُّ مَعَهُ، وَأُسِرَ أَفْتِكِينُ فَذَهَبَ مَعَ الْعَزِيزِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ نَهَضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهُ: قَسَّامٌ التَّرَّابُ، كَانَ أَفْتِكِينُ يُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَأْتَمِنُهُ عَلَى أَسْرَارِهِ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دِمَشْقَ وَطَاوَعَهُ أَهْلُهَا، وَقَصَدَتْهُ عَسَاكِرُ الْعَزِيزِ مِنْ مِصْرَ، فَحَاصَرُوهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَجَاءَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَحَاصَرَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ خَائِبًا إِلَى طَبَرِيَّةَ فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ، آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ قَتُلِ أَبُو تَغْلِبَ، وَكَانَتْ مَعَهُ أُخْتُهُ جَمِيلَةُ، وَامْرَأَتُهُ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَرُدَّتَا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، فَأَخَذَ أُخْتَهُ، وَبَعَثَ بِجَمِيلَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَحُبِسَتْ فِي دَارٍ وَأُخِذَ مِنْهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ.

وَأَمَّا قَسَّامٌ - وَهُوَ الْحَارِثِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنَ الْيَمَنِ - فَأَقَامَ بِالشَّامِ يَسُدُّ خَلَلَهَا، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهَا مُدَّةَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ بِالْجَامِعِ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ عِنْدَهُ فَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، وَيَقُومُ فَيَمْتَثِلُونَ مَا يَرْسُمُ بِهِ.

قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا وَكَانَ تَرَّابًا.

قُلْتُ: وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ: اسْمُهُ قُسَيْمٌ الزَّبَّالُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَسَّامٌ، وَلَمْ يَكُنْ زَبَّالًا بَلْ تَرَّابًا مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا بِالْقُرْبِ مِنْ قَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ بُدُوَّ أَمْرِهِ أَنَّهُ انْتَمَى إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَاثِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ الْجَسْطَارِ، فَكَانَ مِنْ حِزْبِهِ، ثُمَّ
اسْتُحْوِذَ عَلَى الْأُمُورِ، وَغُلِبَ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ إِلَيْهِ أَزْمَةُ الْأَحْكَامِ، إِلَى أَنْ قَدِمَ بُلُكِّينُ التُّرْكِيُّ مِنْ مِصْرَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَدَخَلَهَا، وَاخْتَفَى قَسَّامٌ التَّرَّابُ مُدَّةً، ثُمَّ ظَهَرَ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَأَرْسَلَهُ مُقَيَّدًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأُطْلِقَ وَأُحْسِنَ إِلَيْهِ وَأَقَامَ بِهَا أَيْضًا مُكَرَّمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ))
إن شخصية هذا الرجل تصلح لأن يكتب عنها عمل درامي ففيها مفارقات عجيبة إذ بدأ ترابا أو زبالا وكلا المهنتين تدلان على الوضاعة والدونية، ثم سيطر على دمشق لمدة سبع سنوات دافع فيها عن دمشق بكل بسالة وكان ممدحا من الشعراء ولم يصل لنا مما قيل فيه من شعر إلا القليل.

عن "العربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية