من هم الفقراء فعلاً؟.. الحالة السورية نموذجاً

من هم الفقراء فعلاً؟.. الحالة السورية نموذجاً


26/07/2020

يرى علماء الاجتماع أنّه من الصعب رسم صورة تصف "الفقراء"، نظراً لاختلاف الملامح والمتغيرات في وجه الفَقر في مختلف المجتمعات، وتفاوت الخط البياني للفَقر في المجتمع الواحد، لكنّ أغلب الدراسات التي أجريت على المجتمعات المتقدمة، والمجتمعات النامية؛ تتفق على أنّ الفقراء هم المستضعَفون في مجالات اجتماعية محددة.

كما أنّهم؛ أي علماء الاجتماع، أوجدوا مقاربتين لمسألة الفَقر عن طريق تطبيق مفهومي: الفقر النسبي، والفقر المطلق، فالفقر النسبي: هو عيش الأفراد في الحدود الدنيا من مستوى المعيشة؛ أي تأمين ما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة، من مأكل ومشرب وملبس ومأوى، أمّا الفقر المطلق، فهو يتعدى تلك الحدود الدنيا إلى حدّ الجوع ثم الموت جوعاً.

 

علماء الاجتماع أوجدوا مقاربتين لمسألة الفَقر عن طريق تطبيق مفهومي: الفقر النسبي والفقر المطلق

يقول "أنتوني غدنز": إنّ الفقراء "هم المتعطلون عن العمل، أو من لا يتمتعون بالأمن الوظيفي في عملهم، والمسنّون والمرضى والأطفال والنساء، وأعضاء الأسر الكبيرة، وأفراد الأقليات الإثنية في المجتمع". فمن المسؤول الأول عن الفقَر أو تفقير الأفراد في المجتمعات حسب تعريف "غدنز"؟

بعد نشوء الدولة الحديثة، وتشكّل المجتمع المدني؛ أصبح من واجب الدولة حماية أفراد المجتمع الذين أوكلوا لها شؤون حمايتهم من الفقر والجهل والمرض، لا سيما في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية، فإنّ غاية الدولة، حسب أرسطو، "تتعدّى الحفاظ على الحياة إلى توفير نوعية جيدة للحياة"، وهذا ما يلقي على عاتقها مسؤولية تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع أفراد المجتمع، المتساوين في الحقوق والواجبات، على النحو الذي حققته الثورات الاجتماعية في أوروبا بعد معاناة طويلة من الفقر والجوع وعدم المساواة، بحيث "لا يصل أحد في الجمهورية الحقيقية إلى درجة من الفقر تضطره إلى بيع نفسه، ولا يصل أحد إلى درجة من الثراء تسمح له أن يشتري طاعة المواطنين الآخرين عبر تبادل المنافع"، حسب تعبير "جان جاك روسو".

اقرأ أيضاً: مسؤول في "العدالة والتنمية" التركي يسخر من الفقراء.. ماذا عن الفساد والبطالة؟

إذا أردنا أن نرى الفَقر والفقراء وسياسات التفقير عن قرب، فليس علينا إلّا أن نوسّع عدسة الكاميرا قليلاً لنرى وضع الأفراد في المجتمع السوري منذ عشر سنوات إلى الآن، على الأقل، لنجعله مثالاً نتعرّف منه على حالات الفَقر وسياسات الإفقار المتعمّد وتفقير الحياة الاجتماعية والأخلاقية، التي مارستها الحكومات السورية المتعاقبة، وقد استقالت من جميع وظائفها الاجتماعية والإنسانية، وحوّلت الدولة إلى مزرعة للمحاسيب والموالين.

 

إذا أردنا أن نرى الفَقر والفقراء وسياسات التفقير عن قرب فعلينا أن نوسّع عدسة الكاميرا قليلاً

وقد بينت الحرب التي ما تزال مفتوحة أنّ سياسة التجويع من أجل التركيع كانت السياسة غير المعلنة منذ العام 1970، والسياسة المعلنة بعد عام 2011. لذلك يعتقد الباحثون في الشأن السوري أنّ غياب العدالة وغياب القانون واختناق المؤسسات واستشراء الفساد، وانتهاك حقوق الإنسان وتعميم القمع والخوف والسيطرة على الثروات الوطنية وقوة عمل المجتمع، كانت الأسباب الرئيسة للثورة السلمية، التي واجهتها السلطة بالقتل والتدمير والتهجير.

اقرأ أيضاً: الجزائريون يتهمون برنامجاً ساخراً بإذلال الفقراء.. وهذا موقف السلطات

لم يكن المجتمع السوري ينعم بالعيش الحر الكريم قبل حدوث الأزمة السورية، ولم يكن أفراده  ينعمون بالحماية الاجتماعية والعدالة والحرية والمساواة، ممّا أدى إلى انتفاض أكثرية الشعب للمطالبة بالعدالة والحرية والكرامة الإنسانية، لكنّ الاستبداد السياسي القائم منذ خمسين عاماً أخمد تلك الانتفاضة بطريقة جعلت الموالين والمواليات من أفراد المجتمع يصدّقون أنّ الحرب أو الأزمة السورية هي مؤامرة كونية لا بدّ من الصمود للتخلص منها، وأنّ الصمود لا يتحقق إلّا بمساندة المجتمع للدولة، وتحمّل كافة أنواع الذل والإهانة التي تعتبرها الدولة صموداً، وهذا ليس بجديد على الدولة، فقد أوهمت المجتمع منذ سبعينيات القرن الماضي أنها دولة المقاومة والممانعة، والصمود والتصدي، وهي تحتاج إلى التفاف الشعب حولها وحمايتها من المؤامرات المزعومة على سلامتها، على عكس ما ورد في تعريف "أرسطو" السابق لواجبات الدولة.

اقرأ أيضاً: فقراء العالم ومنكوبوه.. أول ضحايا الوباء

لقد أدّت الأزمة السورية إلى هدر الإنسان السوري، وهدر الاجتماع السوري، وهدر الوطن، وتبديد طاقاته المادية والمعنوية، وإخضاع المجتمع لأشكال غير مسبوقة من العنف العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي، واستباحته بالقتل والخطف والنهب و"التشبيح" و"التعفيش" وتجنيد شبابه وشاباته وأطفاله أيضاً لمصلحة أطراف النزاع، التي صارت تبتزّ الأسر بلقمة العيش لتجنيد أبنائها وبناتها. لم يكن هذا كله ممكناً لو لم تكن سياسة الإفقار والتجويع والتقفير سياسة مقصودة تهدف إلى إدامة النزاع، حتى يتخلى المجتمع عن جميع الحريات والحقوق وعن المطالبة بحقه في الثروات الوطنية المنهوبة مقابل مجرد البقاء على قيد الحياة.

اقرأ أيضاً: المناخ يتسبب بفصل عنصري بين الفقراء والأغنياء.. كيف ذلك؟

أدت سياسات السلطة قبل الحرب وفي أثنائها إلى انقسام المجتمع قسمين متباينين: أكثرية من المُفقَّرين والمهمَّشين تبلغ نسبتها أكثر من 80% من السكان، وأقلية ميسورة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال الذين لم يتأثروا بالأزمة، ولم يشاركوا المنتفضين/ــات ضد الجوع والمطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية، خوفاً على مصالحهم الشخصية، إضافة إلى الطبقة التي أطلق عليها حنا بطاطو اسم "رأسمالية المحاسيب" والطبقة الجديدة من أغنياء الحرب، واللصوص الذين جمعوا ثروات طائلة من التهريب والنهب والخطف والابتزاز والخوَّات والاتجار بالبشر.

اقرأ أيضاً: "كفر ناحوم": توقفوا يا فقراء عن الإنجاب!

الفقر الذي كانت تعاني منه أكثرية الشعب السوري، قبل الحرب وما تزال تعاني منه، لا يقتصر على الحرمان من شروط الحد الأدنى من الحياة المادية أو الاقتصادية، بل يتعدّى ذلك إلى الحرمان من الحقوق، التي حلّت محلها الهبات والمنح للعامة من جهة، والامتيازات للخاصة من الأتباع والموالين، من الجهة المقابلة، والحرمان من الموارد الثقافية، والتهميش أو الحرمان من المشاركة الحرّة والمبدعة في الشؤون الاجتماعية والحياة العامة، علاوة على الحرمان من الكرامة الوطنية التي أهدرتها الاحتلالات الأجنبية؛ فإنّ أشكال الفقر المذكورة كلها مقرونة بالذل.

 

الفقر الذي يعانيه أكثرية الشعب السوري لا يقتصر على الحرمان من شروط الحد الأدنى من الحياة

في ظل عدم توفر أي نوع من أنواع الرعاية الاجتماعية للمجتمع السوري، يعاني السواد الأعظم من السوريين من الغلاء الفاحش، الذي اقتحم سوريا في هذا العام 2020، ومن انخفاض سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، علاوة على آثار الحصار والعقوبات الدولية وقانون قيصر، حتى باتت الرواتب والأجور والدخول عامة لا تفي بالحاجات الضرورية للأسر والأفراد، ما حدَّ من إمكانات التكافل الاجتماعي المعروف في الحياة السورية، والذي كان قائماً قبل الأزمة وفي أثنائها. لذلك، تحاول بعض منظمات المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، والجمعيات الخيرية، أن تقدّم بعض العون، لكنها حُوربت بشدّة من قِبل الحكومة، إلى حد أنّها أطلقت عليها اسم "الاستعمار الجديد".

اقرأ أيضاً: تقرير صادم يكشف عدد الفقراء في تركيا في ظل حكم "العدالة والتنمية"

الفقراء في سوريا هم المهمَّشون والمحرومون والمهدورون اليوم وغداً وبعد غد؛ فقد رسّخ النزاع ثلاثة أنواع من الظلم، حسب المركز السوري لبحوث السياسات: الأول هو ظلمٌ ذو أثر رجعي، يتجلّى في تدهور ما تراكم من الثروة الحضارية، المادية واللامادية وتدميرها. والثاني هو الظلم الحالي، الذي من أبرز مظاهره تحويل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى أنشطة مدمّرة (اقتصادات حرب وتنافر اجتماعي وانحطاط ثقافي)؛ والثالث هو الظلم الذي سيرافقنا إلى المستقبل، إذ تقوم قوى التسلط بإضفاء الطابع المؤسسي على البنى والعلاقات والاقتصادات المتمركزة على النزاع، من خلال سياسات وتشريعات وإجراءات تهدف إلى الاستثمار في نتائج النزاع وما تخلله ورافقه من مظالم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية