من "ولاية الفقيه" إلى "المهدوية"... نحو تفكيك الظاهرة الدينية في إيران

من "ولاية الفقيه" إلى "المهدوية"... نحو تفكيك الظاهرة الدينية في إيران


18/07/2022

يوسف بدر

في إيران رؤيتان نابعتان من تيار واحد، إحداهما لجناح المُحافظين والأخرى لجناح الإصلاحيين. إذ يختلفان في النظرة نحو الأشياء وكيفية معالجتها.

مثالاً، يقول المحافظون حول الاتفاق النووي والمحادثات مع أميركا إن قوة الثورة ترعبهم. إن الاتفاق النووي لم يحل أياً من مشاكل الاقتصاد. إن مَن وقعوا هذا الاتفاق صدّقوا الوعود الغربية. إن بايدن جاء إلى المنطقة نتيجة فشله في الضغط على إيران وتهديدها، ومن أجل أن يُقنع الحلفاء في إسرائيل والخليج بأهمية الحوار مع إيران. 

بل إنهم يتمادون في تفسير العلاقات الخارجية من منظورهم الخاص، فيقولون إن روسيا والصين أحرص على إيران من الإصلاحيين؛ فهما قد طالبتا بالرفع الكامل للعقوبات بما فيها اسم "الحرس الثوري" من قائمة الإرهاب؛ بينما الإصلاحيون كان جُل همهم هو الرهان على الغرب.

أما بالنسبة الى الإصلاحيين، فإنهم يقولون: انظروا بواقعية؛ إن الشارع يغلي، والناس تبتعد من النظام، والأجيال الجديدة تهاجر إلى الخارج. إن العقوبات قد أضرتْ بإيران واقتصادها أكثر من الاتفاق النووي. إن إيران لا تملك أسلحة متقدمة، ويمكن لإسرائيل أو القوات الأميركية أن تقضي على جيشنا بسهولة. إن روسيا والصين لا تريدان أن نقترب من المعسكر الغربي، وإن العقوبات تعمل لمصلحتهما؛ حتى تظل إيران في خدمة معسكرهما.

لكن، من أين تنبع هذه المثالية في تفكير المُحافظين؟

إنها عقيدة ولاية الفقيه التي جعلتْ من الفقيه محوراً في تفسير كل شيء بداية من الدين حتى العلاقات السياسية. وتعتبر هذه المثالية الدينية التي تشكلت في ذهن السلطة، أن العالم المادي والمحسوس يجب أن يكون مثالاً ومتطابقاً للعالم الذهني والأفكار المثالية التي تشكلتْ على أساس ديني، ووفق تصور الولي الفقيه وتفسيره.

وهذه المثالية الدينية التي تشكلت بعدما هيمنت نظرية ولاية الفقيه على كل جوانب الحياة؛ تفسر لنا أيضاً كيف تحولتْ العقلية الحاكمة في إيران، إلى عقلية أكثر "شيفونية"؛ بحيث باتتْ ترى إيران متقدمة في كل شيء، وأن نموذج ثورتها ونظامها هو الحل الناجع لكل المجتمعات. وأن ما دون هذا النظام، هي أنظمة فاشلة ومجتمعات متهاوية.

وبهذه العقلية، نجد المرشد الأعلى، علي خامنئي، يقول في رسالته إلى الحجاج في البيت الحرام، إن العالم يشهد اليوم نموذجاً ناجحاً من الإسلام السياسي في إيران. وبينما يسخر المرشد في رسالته من الأنظمة الليبرالية والشيوعية؛ نجد واقعياً، اقتصاد بلاده يعتمد على التهريب وتجارة المافيا ولوبيات الجماعات الدينية والعسكرية، التي لطالما تتحدث أمام كاميرات الإعلام عن مؤامرة الغرب على النموذج الإسلامي.

مهدوية الولي الفقيه!

إن مسألة المهدوية تناولتها كل الأديان، وليست بالقضية الجديدة في المذهب الشيعي الإمامي، ولا يعنينا هنا الإيمان بها أو الرفض؛ وإنما فهم كيفية توظيفها في إيران الشيعية التي يحكمها الولي الفقيه. فقد تقاطع هناك السياسي مع الديني؛ لدرجة أن محاولة الفصل بينهما باتت بالأمر المستحيل وتواجهها اتهامات بالزندقة والكفر. فقد بات السياسي يستغل الديني ليعزز موقعه ويضمن لنفسه الاستمرارية في نفوس أتباعه بصورة مقدسة. 

وكما تشير رؤية الاجتماع الديني؛ فإن العقائد يتم دفعها إلى منطقة الهامش أو المركز وفق المصلحة السياسية. ومثالاً، حينما تم غزو العراق أو سوريا فقد خرجت لنا أحاديث نهاية العالم وعلامات الآخرة من الهامش، إلى مركز الاهتمام؛ من أجل دفع الجهاديين للقتال على عقيدة راسخة بأن القادم هو لمصلحة رواية نهاية العالم.

والأمر هنا نفسه بالنسبة الى عقيدة المهدوية التي أخرجها الولي الفقيه من الهامش، وجعلها تتصدر مركز كل شيء في إيران، حتى بات هذا البلد، وكأنه محل سرداب الغيبة ومطلع ظهور المهدي المنتظر. وهذه الصورة التي تشكلت في أذهان أنصار النظام تخالف الروايات الشيعية.

بل الأخطر، هو الاستبداد الديني، فإن نظام ولاية الفقيه يفرض روايته حول الإمام الغائب؛ بينما هناك جدل فقهي حول روايات المهدي المنتظر. لكنه جعل منها قضية مركزية في حياة إيران ونظامه (ولاية الفقيه)، فنجد برنامجاً دينياً في التلفزيون الإيراني، باسم "نحو الظهور"، يناقش المهدوية وعلامات الظهور وكيفية الانتظار والاستعداد لظهور الإمام الخفيّ.

ونجد أيضاً جماعة دينية باسم "مبشرو الظهور"، وهم من دراويش رواية النظام، يُعدّون الأفلام الوثائقية التي تؤكد أن ظهور المهدي بات وشيكاً. بل إن الرئيس الإيراني الأسبق، أحمدي نجاد، كان يدْعيّ لقاءه المهدي ورؤيته، وأنه مأمور بإمرته. 

لقد استفحل الأمر، لدرجة أن هناك مؤتمرات سنوية ومنشورات دورية وبرامج تلفزيونية وأبحاثاً ورسائل علمية وقطاعاً كبيراً من علماء الحوزة، كلها تدور في فلك عقيدة المهدوية؛ حتى باتت هذه العقيدة جزءاً لا يتجزأ من نظام ولاية الفقيه. 

من الثورة إلى العقيدة!

علينا التساؤل، لماذا كل هذا الاهتمام من جانب النظام بمسألة المهدوية؟

والإجابة تبدأ من نظرية ولاية الفقيه التي أعطت السلطة لرجل الدين (الولي الفقيه)؛ بينما كانت هناك نظريات أخرى تعطي الولاية للناس، فيما كان سيؤسس لديموقراطية حقيقية. ولكن رجال الدين الذين صعدوا إلى السلطة بعد ثورة 1979، جاءوا في إطار علاقة دياليكتيكية وتضاد مع السياسة التي اتبعها معهم الشاه الأخير محمد رضا؛ فوضعوا أنفسهم فوق رأس السلطة الروحية والزمنية؛ ليضمنوا عدم إزاحتهم مرة أخرى من المشهد واستمرار هيمنتهم على المجتمع، بعدما كان الشاه قد نحاهم جانباً عن شؤون الدولة والمجتمع.

ولكن، رجال الدين لم يُقدموا أنفسهم للمجتمع الإيراني بهذا التفسير الدياليكتيكي؛ بل قالوا إن وصولهم الى السلطة كان نصراً من الله وبتأييد من السماء، وأن زعيمهم روح الله الخميني أرسله الله لينقذ الأمة الإيرانية. بخاصة أن هذه الهالة المقدسة التي فرضوها على أنفسهم، كانوا في حاجة لها؛ من أجل أن يبرروا قمعهم لشركائهم في الثورة من اليساريين والشيوعيين والتيارات الأخرى. 

ومن أجل أيضاً أن يضمنوا استقطاب الطبقات البسيطة والمُتدينة حولهم؛ ليُشكلوا طبقة اجتماعية في مواجهة الطبقات الأخرى.

ثم جاءت فكرة المهدوية، لتُضفي على هذا النظام حالة من التقديس؛ فهي الدولة التي ستُحضر لظهور الإمام الغائب، وهي وعد الله في نهاية الزمان. 

وبذلك، انتقل النظام من الثورة إلى العقيدة؛ فأي محاولة لإسقاطه أو تغييره، هي محاولة للتغيير في عقيدة المجتمع الدينية. 

إذن، النظام سعى الى منح المركزية لعقيدة المهدوية؛ من أجل حماية نفسه من التآكل، الذي بدأ فعلياً يظهر مع الجيل الجديد الذي يتوق إلى التغيير؛ فهو لم يحضر الثورة ولا الحرب العراقية، ولا تشغله كل هذه الآلام التي يكررونها على مسامعه في وسائل الإعلام. بل كل شاغله، هو ما السبيل إلى المستقبل وملاحقة ركب الأمم الأخرى؟.

عقلية جماعة دينية

إن تغليف النظام في إيران بالأوشحة والهالات الدينية انتهى به إلى تحوله إلى نظام يَحكمُ بعقلية جماعة دينية تظن أنها شعب الله المُختار، وليس بعقلية رجال دولة يؤمنون ببشرية النظام. 

وهو ما أدى إلى انقسامات وخلافات وتناقضات داخل النظام ذاته. وشهدنا ذلك من خلال رجال دين قاموا بانتقاد الصورة الثابتة لمفهوم ولاية الفقيه وطبيعة الحكم في الإسلام؛ فقد رأوا أن هذه الصورة الجامدة أدتْ إلى تشكيل طبقة ديكتاتورية ونظام استبدادي؛ بما يخالف فلسفة ولاية الفقيه، وهي خلافة الإمام الغائب في إقامة العدل.

لكن النظام الحاكم، بالبطع يئد هذه الأصوات، ولا يلتفت إليها؛ لدرجة أن عقيدة المهدوية التي يتحصن بها؛ تسربتْ إلى ذهنية شريحة كبيرة في المجتمع الإيراني، حتى بات يتحرك في موازاة المجتمعات الكنسية التي تسيطر عليها فكرة المسيح والخلاص والقيامة. 

فقد احتل المهدي المركزية لدرجة الإطاحة بالنبي محمد والإمام علي؛ وبات الإمام الغائب الحيّ المستتر في الأرض، ينادونه لقضاء الحوائح وللحصن والحماية، بدعاء "يا مهدي أدركني!".

وتلعب الأدبيات التي يبثها النظام دوراً في تغيير ذهنية المجتمع الشيعي في إيران؛ فالأمر لا يقتصر على الحوزة الدينية ومنابر الجمعة؛ بل يمتد إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بما فيها المنصات الرقمية. فقد رعى المرشد الأعلى، علي خامنئي، قبل أيام، "مهرجان فجر الدولي" الأول للأنشودة. وذلك على غرار مهرجان فجر للسينما أو للموسيقى. والهدف هو الاستفادة من تأثير الأناشيد في نفوس الجيل الجديد؛ بخاصة من الأطفال، لما فيها من حماسة وإيقاع وأفكار تتخلل النفس والعقل عبر التكرار. 

وهذا الأمر ارتبط بشكل وثيق بالجماعات الدينية التي استفادت من الأناشيد في تربية النشء والأجيال الجديدة على الأفكار العقائدية التي تبثها هذه الجماعات. 

وإذا نظر إلى أنشودة "سلام أيها القائد" (سلام فرمانده)، التي راجتْ قبل أيام في العالم الشيعي، بعد أن تمت ترجمتها من الفارسية إلى العديد من اللغات واللهجات؛ فهي دليل عملي الى غاية النظام الإيراني من وضع عقيدة "المهدي" في مركزية عقائد الشيعة، إذ تم تصوير هذه الأنشودة في مسجد "جمكران" الواقع في مدينة قم المقدسة والمرتبط بعودة المهدي، واعتمدت الأنشودة على الأطفال الذين يمثلون الجيل الجديد. وتمثل هذه الأنشودة تحولاً في الاهتمام من الأناشيد الثورية إلى نظيرتها العقائدية.

المحصلة

إن فشل نظام ولاية الفقيه في تصدير نموذجه إلى المجتمعات الشيعية خارج إيران؛ بخاصة أن الحوزة الدينية في العراق على سبيل المثال؛ تدرك الغاية من هذا النموذج، وهي التبعية لإيران ولحوزة قم- دفع الملالي في إيران إلى الاهتمام بعقيدة المهدوية؛ ليصبح مشروعهم مقدساً باسم دولة المهدي، وتصبح هذه العقيدة أيديولوجيا إمبريالية لبسط إيران هيمنتها على المنطقة، وعلى عموم الشيعة في العالم. وهذا ما نشاهده عملياً مع عموم الشيعة خارج إيران، الذين يصفقون لأنشودة المهدي، ويعتبرون كل من يرفضها، هو رافض للإمام المهدي وليس للولي الفقيه.

إن انتقال النظام في إيران من الثورة إلى العقيدة، مؤشر الى تآكل هذا النظام؛ حيث ستصاب دعايته مع الوقت بحالة من الضمور، وسيقتصر تمدده على أوساط أنصاره؛ مثلما حدث من قبل، مع الثورة البلشفية في روسيا. فالأيديولوجيا التي تتوقف عن الحركة والتغيير، لن تواكب حركة الزمن وتطور المجتمعات، ومن ثَمّ هي تذهب إلى الأفول.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية