نصر حامد أبو زيد كما عرفته

نصر حامد أبو زيد كما عرفته


15/07/2019

مع ذكرى رحيل المفكر المصري نصر حامد أبو زيد التي صادفت الخامس من تموز (يوليو) 2010، عادت بي الذاكرة إلى نيسان (إبريل) 1995 حين شكّل قسم الفلسفة بجامعتي لجنة لمناقشة أطروحتي للماجستير عن (إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر.. دراسة مقارنة بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري)، ولكم سعدت عندما علمت أنّ أبو زيد هو عضو تحكيم الرسالة، فقد كنت مفتوناً به حتى أنّي قرأت كل كتبه، وحتى المقالات التي كان يكتبها في مجلة القاهرة مع غالي شكري، وما سطّره في مجلة (ألف) التي تصدرها الجامعة الأمريكية.

حدثتني عن محنته في أيامه الأخيرة بمصر وخذلانه من كبار رموز الثقافة في بلده ما بين تراجع ومراوغة

اتصلت به لأوصل إليه نسخة من الرسالة في مكتبه بقسم اللغة العربية، يومها وجدت عنده المحامي عبد الرؤوف النويهي وقد أحضر له نسخة من كتاب (نحو ثورة في الفكر الديني) للدكتور محمد النويهي، وأهداني نصر يومها كتابه (التفكير في زمن التكفير) وجلست لأستمع منه عن أزمة ترقيته للأستاذية، وما جرى بينه وبين عبد الصبور شاهين، وفي كلامه ألم وحسرة تجاه المقربين الذين خذلوه في بداية محنته.. كنت أستمع أكثر مني مشاركاً في الحوار، واستأذنت منه للعودة إلى طنطا مجدداً، وكان ذلك لقائي الأول به.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف

وحدث ما لم يكن في الحسبان حيث أصدرت المحكمة حكمها بالتفريق بين نصر وزوجته في الدعوى التي أقامها الشيخ يوسف البدري، وهنا  فرضت الدولة لنصر أبو زيد حراسة خاصة ترافقه خشية على حياته، وبعد مرور شهر من صدور الحكم أبلغني أستاذي المشرف أنّ الجامعة لا تريد حضوره للمناقشة خشية تعرّضه للأذى، وكلّفني أن أحضر منه اعتذاراً حتى يتم تشكيل لجنة جديدة.

ولفرط سذاجتي هاتفته عارضاً عليه ما كُلّفت به دون أن أنتبه إلى ما وُرّطت به، فإذا به ينفجر بي "يا بني كان أولى بأستاذك أو جامعتك أن تقوم هي بمهاتفتي، بلغ أستاذك وجامعتك أن نصر أبو زيد ليس جباناً، وأنا لن أقدم اعتذاراً عن المناقشة، وسوف أحضر متى اتفقنا على تحديد الموعد".

شعرت بالذنب، وقلت له وأنا يا دكتور بدوري مصمم على أن تناقشني، وحين تحدثت مع مشرفي عما دار بيننا، قال لي عليك بالذهاب إلى نائب رئيس الجامعة للدراسات الدكتور عبد التواب اليماني لعرض الأمر عليه، وفعلت لكنه أصر على عدم حضور نصر مؤثراً السلامة، وأبلغني أن علي الانتظار ثلاثة أشهر، وحينها يسقط تشكيل لجنة المناقشة حُكماً، وتشكَّل لجنة جديدة، يومها شعرت بالاحترام والتقدير تجاه نصر أبوزيد الذي يقف وحيداً شجاعاً في مواجهة تيارات الجمود والتحجر داخل الجامعة وخارجها.. بعدها سافر الرجل إلى هولندا، وناقشت الرسالة بعد اختيار الدكتور حامد طاهر عميد كلية دار العلوم مكانه في اللجنة.

اقرأ أيضاً: نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً

بعد مرور تسع سنوات؛ أي في العام 2004، عاد أبو زيد إلى مصر بدعوة من حسن حنفي لحضور مؤتمر الجمعية الفلسفية، وكانت أيامه الأخيرة تعقد في المعهد السويدي بالإسكندرية، فلم أفوّت الفرصة، وقضيت معهم يوماً جميلاً وأهديت نصر كتابي الجديد وقتها عن الشيخ أمين الخولي.

بعد مرور عام، فوجئت به يبحث عني من خلال الدكتورة مني النموري قريبته وزميلتي بالكلية، وذلك لأنّه رشحني للسفر معه إلى دمشق في مؤتمر نظمه المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى عن الإمام محمد عبده، بمناسبة مرور مئة عام على رحيله، وكان ذلك في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2005، وهناك كان اكتشافي لنصر أبو زيد الإنسان والمفكر حيث أُتيح لي أن أجلس معه فترات طويلة، وأشاهده عن قرب.

آنذاك، صادفت باحثين من مختلف أرجاء العالم قد جاؤوا  للقائه في دمشق؛ من إيران والسعودية وباكستان، ومن إندونيسيا.. كنت أجلس وأستمع وأتعلم، وأرى مدى حب الناس وتقديرهم لهذا العلاّمة الكبير، ثم سافرنا من دمشق إلى حلب بالحافلة التي منحتني ست ساعات أخرى لأجلس بجواره وأتناقش معه في مختلف قضايا الفكر.

مرت الساعات دون أن أشعر، وفي الصباح وجدت نفسي في المؤتمر أمام جيل من المستشرقين الأجانب وباحثين من كافة أرجاء العالم، وتملّكتني الرهبة من تقديم ورقتي في جلستي التي يديرها نصر أبوزيد، ولم يهدأ لي بال حتى سألته إن كنت عند حسن ظنه بي، ولم أتمالك نفسي حين أبلغني أن ورقتي كانت الأفضل في الجلسة!

رحل أبوزيد في نفس العام الذي رحل فيه أركون والجابري لتتساقط أوراق مركزية في ثقافتنا العربية

في الصباح التالي تجاذبنا أطراف الحديث، فقلت له إنّي أشعر بالحسرة والألم بعد أن شاهدت الشباب الباحثين من المستشرقين الأجانب وحتى الطلاب العرب الذين يتعلمون بالخارج، وكل واحد منهم يجيد بدل اللغة ثلاثاً أو أكثر، ويعرفون عن تاريخ بلادي أكثر مما أعرف، فرد علي بأريحية وقال: "يا أحمد لا تقسُ على نفسك، أنت ابن واقع وثقافة ونظام مختلف عن واقعهم ونظامهم وثقافتهم، أي واحد من هؤلاء الشباب لو طلب أي مهمة لتعلم اللغة العربية، جامعته ستعطيه منحة لهذا الهدف في مصر أو أي دولة عربية.. يا بني أنا كنت موظف لاسلكي، حفرت لكي أبني نفسي، المهم أن تكون صادقاً مع نفسك، وراغباً في التعلم المستمر".

اقرأ أيضاً: بعد ربع قرن على مناظرة أبو زيد وعمارة.. هل اختلف خطاب الإسلامويين؟

في المساء ذهبت إليه في غرفته بفندق اسمه (ديوان رسمي)، وهو عبارة عن بيت الوالي في حلب القديمة، كانت غرفة نصر هي غرفة الوالي نفسه، دهشت من مستوى العمارة وتفاصيل الزخارف فيها، فقلت له لا بد أن أصورك لقطات تذكارية في هذا الجناح، وأمسكت الكاميرا، وأخذت أصوّره بالغرفة، وهو يضحك كالطفل، كان بطبعه الإنساني بسيطاً جداً، ولكنه فائق في ذوقه وأناقته.

حكى في تلك الليلة محنته في أيامه الأخيرة بمصر، وخذلانه من كبار رموز الثقافة في بلده، ما بين تراجع ومراوغة في المواقف، كان نصر يملك من الشجاعة في المواجهة ما عجز عنه أساتذته وزملاؤه، كان يحكي بأسى وحزن بأنّه كان يرغب في الزرع داخل وطنه، وأن يؤدي رسالته في جامعته، ولم يكن من الرحيل بدّ حفاظاً على حياته.

اللقاء التالي كان في شهر نيسان (إبريل) 2006 عندما عاد إلى مصر حين توفي شقيقه محمد بأزمة قلبية، لكن ظلت المراسلات الإلكترونية مستمرة بيننا، وراجع لي كتابي (نقد الفقهاء لعلم الكلام) ووضع ملاحظاته عليه، وما زلت أحتفظ بها، رحل نصر أبوزيد في 2010 في نفس العام الذي رحل فيه محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، لتتساقط أوراق مركزية في ثقافتنا العربية.. رحل نصر الشخص، وبقى نصر الفكرة والأثر والتوجّه.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية