هكذا صالحت أنجيلا ميركل السياسة مع الأخلاق

هكذا صالحت أنجيلا ميركل السياسة مع الأخلاق


14/02/2022

لم تكن ميركل مجرد أول سيدة تتولى منصب المستشارية، في أقوى وأكبر دولة أوروبية، وهي ألمانيا، بل كانت أول زعيم أوروبي يفتح قلبه وبلاده لمليون لاجئ سوري، في سابقة لم تحدث من قبل في أوروبا، كتبت سيرتها الذاتية كاثي مارتون، تحت عنوان "المستشارة" مسيرة أنجيلا ميركل الملحمية.

الكتاب لون مختلف من ألوان السيرة الذاتية، يطلعك على القليل مما تود أن تعرفه عن حياتها الشخصية، التي أحاطتها بستار كثيف من الخصوصية، فتّشت الكاتبة عن تفاصيل حياتها فلم تظفر بالكثير، لكنّ الإصرار على أن تنقل للقارئ الحقائق جعلها تكشف الكثير من جوانب عظمة تلك الشخصية.

عاين العالم العبقرية في الحكم وأخلاقية ونبل ميركل؛ فمع استسلام دول العالم لرهاب الخوف من الغرباء، حوّلت ميركل ألمانيا إلى ملاذ للاجئين قائلة: "ألمانيا لن ترفض اللاجئين"

ميركل، ابنة القسيس الذي كان راعياً لكنيسة بسيطة في الشرق الألماني، مبشراً في الدول الشيوعية الملحدة، وعُرف عنه أنّه صعب المراس، استطاع التكيف مع أنظمة الحكم الصارمة، وقد ورثت أنجيلا تلك الصرامة والتفكير المنطقي، ورغم أنّها ترعرعت في الشرق الملحد، لكنّها تمسكت بقيم النشأة في كنف عائلة تتمسك بإيمانها.

تقول ميركل: "في اليوم الأول من العام الدراسي، كان يفترض أن يعرّف التلامذة بأنفسهم وبمهنة أبائهم، نصحني أحد الزملاء في الصف قائلاً: "قولي إنّ والدك سائق فحسب؛ لأنّ السائق مهنة صديقة للبروليتاريا أكثر من القسيس، وفي اللغة الألمانية يبدو لفظ الكلمتين متشابهاً إلى حدّ بعيد"، لكنّ ميركل ردت على السؤال الموجه إليها قائلة إنّ والدها قسيس".

اقرأ أيضاً: ماذا طلبت ميركل من أردوغان بما يتعلق بالمرتزقة في ليبيا؟

في ألمانيا الشرقية بلغ عدد موظفي وزارة أمن الدولة (الإستاسي) 173 ألف موظف، جلّهم من المخبرين، أي مخبر لكلّ 63 شخصاً، اخترقوا خصوصية أفراد المجتمع أكثر مما فعل الجستابو، تقول ميركل: "لا شكّ في أنّ كلّ ما تقدم أثّر في طفولتي" بدا من خلال كلامها أنّها تقدم، ربما دون قصد، تفسيراً لاحتفاظها بالسلطة على مدار عقد ونصف العقد، ومع ذلك ما يزال الغموض يلفّ شخصيتها في بلادها، بل وفي مختلف أنحاء العالم.

سألها القسيس ماتياس فيشت مولر إن كانت تقرأ الكتب التي تؤلَّف عنها؟ فأجابته ضاحكة: "نعم، إلا أنني لا أتعرّف إلى نفسي في تلك الكتب"، ثم أردفت قائلة: "لقد بذلت قصارى جهدي لوضع حدود لما ينبغي نشره، وهذا يعنى أنّ في حياتي شؤوناً شخصية لا يفترض أن يطلع عليها العامة".

كانت ميركل واضحة في أنّه لا يفترض بالعامة أن ينتهكوا شؤونها الشخصية، وهذا الأمر يحرص المحيطون بها على التكتم عليه، ويتجلّى ذلك في غياب التسريبات التي تتناول حياتها الشخصية، وقد أظهر الموظفون القريبون منها إخلاصهم لها طوال ستة عشر عاماً من توليها منصب المستشارة، عام 2016، وأبدى لها الرئيس أوباما تعجبه من عدم حصول أيّ تبديل يذكر في فريق عملها قائلاً: "ألا تزالون جميعاً هنا أيها الرفاق"؟

اقرأ أيضاً: من يملأ فراغ المستشارية الألمانية بعد أنجيلا ميركل؟

لم يملّ الألمان من رؤية صورة ميركل وسماع صوتها وفرضها لشخصيتها الغامضة المهددة، وذلك لأنّها لا تشكّل أيّ تهديد بالنسبة لهم، وعلى الرغم من شحّ المعلومات التي عرفها عنها الألمان، إلا أنّهم أعادوا انتخابها ثلاث مرات، وكان فارق الأصوات كبيراً في كلّ مرة.

كيف استطاعت هذه العالمة الأنثى القادمة من ألمانيا الشرقية أن تحقق ما حققت في بلد لم يسبق لامرأة أن حكمته؟ كيف تبوأت تلك المرأة الحديدية منصباً مهماً في الدولة واستطاعت الحفاظ عليه لفترة طويلة، وهي التي يتسم خطابها السياسي بالبساطة، شأنه شأن مظهرها، في ظلّ هذا العصر الرقمي، وتقلص ظاهر ومستمر لإدراك الناس وتركيزهم؟ لا بدّ من أنّ جزءاً من الجواب يتمثل في الذكاء الحاد والعمل الدؤوب، في بلد ما يزال الأجداد فيه يتذكرون استعراضات المشاعل والحشود، التي هدرت باسم الغوغائية مرتفعة بصوت واحد، وغالباً ما كان أسلوب ميركل غير المثير للاهتمام ميزة تفردت بها عن غيرها.

اقرأ أيضاً: بعد هجوم فيينا.. ميركل تهاجم ما وصفته بـ "الإرهاب الإسلامي".. ماذا قالت؟

 إنّ مقاربتها الأمور بالهدوء والتحليل المنطقي، اللذين اكتسبتهما خلال سنوات دراستها الفيزياء، أتاحت لها التمعن برويّة بأمور الحكم، وهي توضح قائلة: "في البدء أفكر في تحليل الأمور من خلال دراسة النتيجة التي نرغب في تحقيقها، ثم أنتقل بالتحليل من النتيجة.. ما يهم هو ما سيتحقق خلال عامين، وليس ما تقرأه في الصحف غداً"، لم تنخرط ميركل في سياسات التلميح أو اغتيال الشخصية معنوياً، ولم تقع في شرك أولئك الذين يسعون إلى ذلك، وعلى حدّ تعبير الرئيس الألماني الأسبق يواكيم غوك: "إنّها لا تكتفي بعدم مجاراتهم في ألاعيبهم، بل تعرف عندما يكذب بوتين أو ترامب عليها" ما جعلها تتجاهل تلفيقاتهما وتواصل تقدمها.

كان يتحتم عليها أن تكون شرسة وحازمة طوال المدة التي تربعت فيها على قمة السلطة، فنجحت ميركل في حلّ قضايا حساسة عديدة، من خلال العمل خلف الكواليس على نحو غير مباشر ومن دون جذب الانتباه إليها.

 ساهمت حقيقة أنّ أنجيلا ميركل أنثى من الشرق في بزوغ نجمها السياسي، فعندما سعى هلموت كول إلى إشراك سياسيين من شطري البلاد في إدارة البلاد، لا سيما من الإناث، لم يجد أفضل من هذه الطموحة والذكية وذات التفكير المستقل، في ظلّ ندرة الإناث الشرقيات العاملات في مجال السياسة. إنّ قدرتها على ضبط النفس وتفكيرها الإستراتيجي، ولجوءها إلى السلبية الشديدة عند الضرورة صنعت هذا الصعود السياسي.

اقرأ أيضاً: من يحكم ألمانيا عندما تمرض المستشارة ميركل؟

أدّى الحظ دوراً في نجاحها، عندما مهّد طريقها رحيل ثلاثة من مرشديها السياسيين، طالتهم شبهة علاقات بجهاز أمن الدولة الشرقي.

عام 1990 أظهرت مهارة عندما تولت منصب متحدثة رسمية باسم التحالف الديمقراطي؛ الواجهة السياسية التي احتضنت مواهبها السياسية، بعد عام واحد تولت منصبها الوزاري في حكومة هلموت كول، أول مستشار لألمانيا بعد الوحدة.

كانت ميركل، العضو الأصغر وربما الأقل خبرة في حكومة كول، على دراية بالظروف التي أوصلتها إلى الوزارة، واعترفت بالأمر بموضوعية كعادتها قالت: "ما كنت لأصبح وزيرة على الرغم من مؤهلاتي ما لم أكن ترعرعت في ألمانيا الشرقية".

كانت أنجيلا في معظم الأحيان المرأة الوحيدة في حلقات الأكاديميين والعلماء في الشرق، لكنّها وصفت الجوّ السياسي في الغرب بقولها: "لم يكن الذكاء والعمل الجاد قادرين على مضاهاة الرجال بأصواتهم الجهورية وأجسامهم الكبيرة".

ميركل عن ملابسها: لا توجد مشكلة بالنسبة إلى الرجل، في ارتداء بدلة زرقاء داكنة مئة يوم، لكن إذا ارتديت أنا السترة ذاتها أربع مرات أتلقى رسائل من المواطنين

تعذبت ميركل من التركيز على بساطة وتواضع مظهرها، وتذمرت قائلة: "لا توجد مشكلة على الإطلاق، بالنسبة إلى الرجل، في ارتداء بدلة زرقاء داكنة مئة يوم على التوالي، لكن إذا ارتديت أنا السترة ذاتها أربع مرات أتلقى رسائل من المواطنين".

لعلّ أكثر التحديات التي واجهت ميركل دولياً؛ هي التكيّف مع رئيس قويّ ومسيطر لروسيا العدو القديم لألمانيا.

كانت ميركل تدرك أنّ الغرب هزم الاتحاد السوفييتي من خلال الاحتواء والصبر الإستراتيجي، فجيوش الناتو لم تحرّر المجر أو تشيكوسلوفاكيا أو برلين الغربية عندما توغلت الدبابات السوفييتية في عواصمها.

اقرأ أيضاً: كيف ردّت ميركل على اتهامات أمريكا لإيران؟

اختبرت ميركل عبقريتها في العديد من المحطات والأزمات الدولية، لكنّ العالم عاين إلى جانب تلك العبقرية في الحكم أخلاقية ونبل تلك الشخصية عام 2015؛ فمع استسلام دول العالم لرهاب الخوف من الغرباء، حوّلت ميركل ألمانيا إلى ملاذ للاجئين قائلة: "ألمانيا لن ترفض اللاجئين"، وتابعت: "إذا فشلت أوروبا في معالجة مسألة اللاجئين فلن تكون أوروبا التي نتطلع إليها".

هكذا كانت ميركل سياسية عظيمة وإنسانة عظيمة في الوقت ذاته، وهي استثناء نادر في عالم السياسة أن تتصالح الأخلاق مع السياسة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية