هكذا قاربت رواية "طرق الرب" طُرق البيروقراطية المقدسة

هكذا قاربت رواية "طرق الرب" طُرق البيروقراطية المقدسة


13/04/2021

هناك أعمال أدبية، تُوقِع القارئ أحياناً في حيرة ما عند الانتهاء من قراءتها، سواء أكان العمل رواية، أو قصة، أو شعراً، أو حتى نصاً مفتوحاً، وتطرح عليه سؤالاً؛ هل يجب أن يكتفي في تأمل الأحداث والخطوط الرئيسة للعمل الأدبي الذي انتهى من قراءته، وأن يُعجب ببلاغة ورشاقة اللغة المكتوب بها العمل، أم يذهب للحديث عن براعة الكاتب في رسم شخصيات روايته أو قصته؟ لكنّ الحيرة الأكثر إلحاحاً؛ هي عندما يجد القارئ نفسه أمام عملٍ أدبي، يدرك حتى وهو على مشارف نهايته، أنه لن ينتهي؛ بل سيزداد تأملاً في الحكايات التي لم تحكَ ما بين السطور، أو ينتابه شعور؛ أنّ أبطال وشخصيات العمل، وصلت لدرجة من اليأس أو الكف، من/عن الكلام.

اقرأ أيضاً: شعرية الأعماق في رواية "بأي ذنب رحلت؟" للكاتب محمد المعزوز
رواية "طرق الرب"، للكاتب المصري شادي لويس، والصادرة مؤخراً عن دار كتب "خان" للنشر في مصر، من هذا النوع من الأعمال الأدبية، التي تترك القارئ في حيرة تأملاته فيما قرأ، وتجليه وانعكاسه على الواقع الذي نعيشه.
رواية "طرق الرب"، للكاتب المصري شادي لويس

رواية الخيوط المتشابكة
هي رواية عن تلك الخيوط المتشابكة التي تربط ما بين بيروقراطية مؤسسات الدولة، والمؤسسات الدينية، والتي من خلالها قد تغير مصائر الأفراد، وتتحكم بمسار حياتهم. ومن جانب آخر؛ تسرد الرواية على لسان بطلها "شريف" قصة صراعه، وصراع ثلاثة أجيال من عائلته مع الكنيسة؛ إذ يجد شريف نفسه، مضطراً للذهاب إلى الكنيسة بشكل متكرر، زيارة واحدة كلّ أسبوع، بعد أن أحدث قطيعة معها، للاعتراف، للأب أنطونيوس، من أجل أن يثبت أنه إنسان مسيحيّ صالح، وكل هذا من أجل الحصول على شهادة "خلو موانع" تسمح له بالزواج.

لا يريح الراوي القارئ أثناء سرد الأحداث الكبرى داخل الرواية وأثرها الذي سيغير مصائر أبطالها فيما بعد

وقد وظَّف الكاتب "اعترافات" بطله شريف للأب أنطونيوس، لتكون جزءاً لا يتجزأ من بنية النصّ الروائي، وحيث يكون مدخلاً، ليتحرك فيه البطل/ الراوي، بحرية بين الأزمنة المتعددة، والأمكنة التي تسرد سيرة عائلته من خلالها، وأنّ الجواب عن امتناعه للذهاب للكنيسة، ليس مرتبطاً بقرار شخصي، بقدر ما هو مرتبط بجده لأمه، "جعفر"؛ الذي قرر الانتقام من قسّ كان جلفاً بالتعامل معه، وبسبب رفضه تعميد ابنته حديثة الولادة، ورفض مساعدته بإنقاذها وهي بين الحياة والموت، وفي النهاية تموت، مما يدفع الجدّ إلى التمرد على الكنيسة الأرثوذكسية، وأن يتحول هو وأسرته إلى العقيدة الكاثوليكية؛ لذلك، وفي عملية تحايل على فكرة "الاعتراف"، يلجأ شريف إلى سرد قصة عائلته للأب أنطونيوس، والتي تبدأ بحكاية الجد "جعفر"، وتنتهي بقصته هو.
سرد تاريخ العائلة
خلال سرد تاريخ العائلة/ الاعتراف، هناك سرد موازٍ للماضي القريب، وهو علاقة شريف بحبيبته الألمانية "إستر"، وبأصدقائه: مايكل وزوجته مريم من السودان، والصحفي علاء، وجميعهم منخرطون في السياسية، وذوو توجه فكري يساري.
يفاجأ شريف وإستر وأصدقاؤه الثلاثة، بصورة لهم وهم جالسون بأحد مقاهي وسط البلد، منشورة في إحدى الجرائد اليومية، مرفقة مع مقال لصحفي بعنوان "أجانب في حركة كفاية"؛ ليفتح هذا الحدث الصراع بين الأصدقاء أنفسهم، والسؤال حول إن كانت تلك الصورة وصلت للجريدة، لأسباب كيدية بين الأصدقاء، أم وصلت أولاً لجهة أمنية، ومن بعدها وصلت للجريدة؟

اقرأ أيضاً: هل انتهى زمن الرواية؟
تناولت الرواية أيضاً، بعض تفاصيل واقعة فضّ اعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود في القاهرة، والذي حدث بتاريخ 30 كانون الأول (ديسمبر) 2005، والتي أدت إلى مقتل العشرات من اللاجئين السودانيين، وكما اختفى على إثرها مايكل السوداني، زوج مريم، وهنا مقطع يسرد فيه الراوي مشهد ميدان مصطفى محمود، بعد تلك الواقعة بساعات قليلة: "لم تدر إستر بنفسها سوى بعد أن وصلت إلى ميدان مصطفى محمود، وكان الأمر قد انتهى؛ عشرات من جثث اللاجئين المكومة فوق بعضها على جنبات الميدان، وبعض جثث لأطفال سود البشرة وضعت على حشائش الحديقة التي تتوسطه، في صف جنباً إلى جنب".
لا يريح الراوي القارئ أثناء سرد الأحداث الكبرى داخل الرواية

حاضر متأرجح
لا يريح الراوي القارئ أثناء سرد الأحداث الكبرى داخل الرواية، وأثرها الذي سيغير مصائر أبطالها فيما بعد؛ لأنّ القصص التي تتوالد من علاقة شخصيات العمل بين بعضهم البعض، إلى جانب ثِقل مصائر عائلاتهم على مصائرهم، والأثر النفسي/ الفطري على تكوينهم كأفراد، حاضرهم متأرجح ما بين ماضي الأمكنة التي ولدوا وعاشوا فيها، والصراع الأيديولوجي الذي أكسبهم صوراً وأنماطاً جاهزة في ذاكرتهم، شكلت بمرحلة ما من حياتهم، مفهومهم عن الآخر المختلف عنهم أيديولوجياً، والمستقبل الذي يقتله، ما صنعه تحالف بيروقراطية المؤسسة الدينية، وبيروقراطية الدولة، لينشأ في النهاية شيء اسمه "الرتابة"، وكأن رتابة الحياة عندما نستسلم لها، في تلك اللحظة فقط، تكون قد تحققت بيروقراطية الحياة اليومية المكررة، إلى ما لا نهاية، بأبهى أشكالها، بالشيء الذي نسميه "الروتين".

من الرواية: "لكنّ مسألة الروتين ليست عويصة كما تبدو، فقد توصلت منذ وقت ليس ببعيد، إلى أنّ لرتابته علاقة بالزمن"

يشير الروائي إلى تلك البيروقراطية الخفية في أكثر من مناسبة؛ كأن يتحدث شريف عن والدته، فيقول: "هي وإن لم تمتلك البلاغة الكافية للتعبير عن وجهة نظرها في العالم بشكل متماسك، كانت لديها قناعة، عبرت عنها بالممارسة الدؤوبة، بأنّ الروتين هو ما يجعل حياتها ممكنة، وأنّ رتابته هي الشيء الوحيد القادر على جعل العالم على قسوته محتملاً. وأنا بدوري كنت قد ورثت ذات القناعة عنها، أو ربما اكتسبتها بفعل الاعتياد".
وفي مقطع آخر؛ يقول شريف: "لكنّ مسألة الروتين ليست عويصة كما تبدو، فقد توصلت منذ وقت ليس ببعيد، إلى أنّ لرتابته علاقة بالزمن، فتلك الدوائر المغلقة من التكرار تجعل اليوم كالأمس تماماً، وتحمل طمأنينة بأنّ شيئاً لن يتغير في الغد أيضاً (…)؛ فهي ]أي والدته[، لسبب ما، كانت موقنة بأنّ المستقبل يعني الخطر، ولذا لا مفرّ من قتله تماماً، وفي مهده. أما أنا فقد أطلقت على ما يخصني منه (رتابة اليائسين)".
وفي النهاية، غير المتوقعة، التي تجعل القارئ في انتظار محموم، للتغيير، حيث كان طموح شخصيات العمل، يتقلص شيئاً فشيئاً، حتى يتحوّل إلى طموح للهروب، وللنجاة من فخّ الحاضر، وفخّ الماضي، لكن عند تلك اللحظة يكون المستقبل فعلياً يحتضر، لتكون فكرة التصالح مع "رتابة اليأس" لا مهرب منها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية