هل انتحرت عنايات الزيات لأنها عاشت في الزمن الخطأ؟

هل انتحرت عنايات الزيات لأنها عاشت في الزمن الخطأ؟


26/11/2019

ارتبطت قصص انتحار الأدباء بأسماء لامعة، خُلِّدت أعمالهم الأدبية، ولم يطوِها النسيان، وما تزال تُقرأ حتى هذه اللحظة، هذا إلى جانب ارتباط كتاباتهم بسيرة حياتهم التي انتهت بالانتحار، ليستحضر خيالنا على الفور صورة الكاتبة الإنكليزية، فرجيينا وولف، التي أغرقت نفسها في نهر أوس (ouse)، بعد أن ملأت جيوب معطفها أحجاراً ثقيلة، في 28 آذار (مارس) 1941، وتحضر أيضاً الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، التي انتحرت في 11 شباط (فبراير) 1963، والشاعرة الأمريكية آن سيكستون، التي انتحرت في 4 تشرين الأول (أكتوبر) 1974.

اقرأ أيضاً: تيسير السبول: سار مع الوهم وانتحر بعد هزيمة العروبة
عام 1963، وقبل 37 يوماً من انتحار الشاعرة الأمريكية، سليفيا بلاث، في مدينة لندن، انتحرت الكاتبة المصرية، عنايات الزيات، في شقتها بمنطقة الدقي في مدينة القاهرة، بتاريخ 5 كانون الثاني (يناير) من العام نفسه.
حادثتَا انتحار لكاتبتين؛ سيلفيا التي ظلّ العالم يتداول اسمها على مدار نصف قرن بعد موتها، وعنايات التي ماتت قبل أن تصدر روايتها الوحيدة "الحب والصمت"، والتي صدرت بعد موتها بخمسة أعوام (1967).  
رواية "الحب والصمت"

"في أثر عنايات الزيات"
لا يمكن اقتصار الفضول الذي انتاب الشاعرة والأكاديمية والمترجمة المصرية، إيمان مرسال، لعملها على تأليف كتاب "في أثر عنايات الزيات"، الصادر مؤخراً عن دار كتب خان في القاهرة، إلى سبب أو دافع واحد؛ إذ إنّ الكتاب ليس سيرة ذاتية لعنايات الزيات، ولا يدور حول دراسة نقدية عن كاتبة عظيمة لكنّها هُمشت، إنّما هو، بحسب تعبير إيمان مرسال، داخل الكتاب، عبارة عن تتبع أثر شخص ما، وإن كان قد مضى على أثر عنايات الزيات نصف قرن آخر، لكان اندثر؛ إذ إنّ أغلب الأشخاص الذين عثرت عليهم إيمان مرسال، ممن عاصروا أو عرفوا عنايات في حياتها، هم عجائز الآن، بدءاً من صديقتها المقربة، الفنانة المصرية نادية لطفي، مروراً بشقيقتها الصغرى، السيدة عظيمة الزيات، وانتهاء بمدام مِيسار، وبحسب ما تروي إيمان مرسال؛ فإنّ رواية "الحب والصمت" غائبة عن كلّ تأريخ للرواية العربية في القرن العشرين.

في رواية "الحب والصمت" لعنايات الزيات لغة طازجة ومنعشة؛ أحياناً باردة وأحياناً عاطفية ومتعثرة كأنّها ترجمة من لغة أخرى

أثناء بحث إيمان مرسال عن نسخة رخيصة الثمن من "كرامات الأولياء" للنبهاني في سور الأزبكية في القاهرة (مكان مخصص لبيع الكتب القديمة)، ستقع بين يديها رواية "الحب والصمت" لعنايات الزيات، والتي ستدفع ثمنها جنيهاً واحداً، وعند قراءتها للرواية تقول إيمان: "في "الحب والصمت" لغة طازجة ومنعشة؛ أحياناً باردة، وأحياناً عاطفية، وأحياناً متعثرة كأنّها ترجمة من لغة أخرى، أحياناً متأثرة بأجواء الرواية الرومانسية عامة في زمانها، وأحياناً حديثة وغرائبية وشفافة وفريدة، إنّها عمل أوّل بامتياز، تتجاور النبرات، لكنّها تتآلف تحت بصمة كاتبة موهوبة".
كتاب "في أثر عنايات الزيات"

لماذا انتحرت؟
ورغم صرامة وجدية البحث عن أيّ خيط، أو تفصيل، ممكن أن يكون ذا أهمية في معرفة جوانب من شخصية عنايات الزيات، أو لماذا انتحرت؟ هل للكاتبة كتابات أخرى غير الرواية؟ هل تأخر نشر الرواية أو رفض نشرها هو سبب انتحارها أم هناك أسباب أخرى؟ إلا أنّ أسلوب إيمان مرسال في الكتابة، الذي هو أقرب لأسلوب الكتابة الروائية، يوضح أنّ الهدف من الكتاب ليس عملاً بحثياً، بقدر ما هو شغف الكاتبة نفسها، في معرفة أيّ شيء عن حياة عنايات الزيات.

ترصد إيمان مرسال في كتابها عن الزيات صورة المثقف وسلطته والمشهد الثقافي وانشغالاته في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات

لذلك إيمان مرسال حاضرة في النصّ، جزء من حياتها اليومية، وانفعالاتها الشخصية، وتأثرها الشخصي جداً بعنايات الزيات يظهر بوضوح داخل النصّ. تقول: "أحياناً يهزّ كيانك عمل أدبي ما ولا يعني ذلك أنّه عمل غير مسبوق في تاريخ الأدب، أو أنّه أفضل ما قرأت في حياتك؛ إنها الصُدف العمياء التي تبعث لك رسالة تساعدك على فهم ما تمرّ به، في اللحظة التي تحتاجها تماماً، دون حتى أن تعرف أنّك تحتاج إليها".
هذا الخيط الرفيع، الذي يربط بين كاتبتَين من جيلَين مختلفَين، لافت للغاية في الكتاب، فعنايات الزيات كانت تعيش في فترة زمنية، وهي فترة الخمسينيات وبداية الستينيات؛ أي في زمن المصائر الجمعية، وثورة 23 تموز (يوليو) 1952، وزمن جمال عبد الناصر، وصعود خطاب القومية العربية، كانت عنايات في ذلك الوقت تبحث عن ذاتها وفرديتها، عن صوتها الخاص مقابل صوت الجماعة، هذا التوق للشعور بالفردانية، هو ما اتّسم به جيل التسعينيات الذي تنتمي إليه إيمان مرسال، إنّه الجيل البعيد كلّ بعد عن الأيديولوجيات التي كانت راسخة في فترة الخمسينيات والستينيات.
إيمان مرسال

الفردانية والخيبة
في الحوار الذي أجريناه مع علاء خالد، بتاريخ 2 حزيران (يونيو) 2019؛ يُعلّق على موضوع الفردانية في فترة الثمانينيات والتسعينيات، فيقول عن تلك الفترة: إنّها "كانت تخلو من أحداث، كان هناك شيء من الخيبة نوعاً ما، ولم نكن مسيّسين، لم يكن هذا بمزاجنا، في تلك الفترة كانت الدولة هي من تسيطر على الجامعة، وتفرض وجودها، ولا يوجد أيّ حدث يحصل؛ فالأيديولوجيا هنا لم تكن تصلنا من ناحيتين؛ من اهتمام الفرد بفردانيته، وقراءته للفكر الوجودي أكثر، ومن ناحية أخرى كان هناك عقم في اللحظة التي عشناها، وعدم الاهتمام هذا غير نابع من فكرة الفرادة، لكنّ جزءاً منه "خامل" نوعاً ما، وبمعنى آخر لا يوجد ميل لهذا النوع من التفاعلات في ذلك الوقت".

اقرأ أيضاً: 7 مشاهير اختاروا الانتحار.. هل تعرفهم؟
هل عاشت عنايات الزيات في الزمن الخطأ؟ سؤال يظلّ مطروحاً في ذهن القارئ طوال صفحات الكتاب، وخصوصاً أثناء قراءة بعض اليوميات التي استطاعت إيمان مرسال أن تلملم شتات بعضها، وتضمنها كتابها؛ إذ تقول عنايات في إحدى يومياتها: "إنني أحسّ بانفصال عن الكلّ، وأنظر من نافذة عينيّ إلى الناس، والأماكن حولي، لكنّني لا أتفاعل معهم، وفجأة أجدني قد انفصلت عن وجودي، وخرجت من داخلي، أتفرج وأسمع، وكأنّ ليس لي جسد جالس يتحرّك ويعيش، أحسّ أنّني قد عشتُ حياتي من قبل، فلماذا إذاً أوجد من جديد؟!".

زواجها سلبها سعادتها
عوامل عدة تداخلت وتكثفت وساعدت في تكوين مشهد الانتحار في حياة عنايات الزيات؛ أوّلها زواجها الذي سلبها سعادتها، وبعدها صراعها مع زوجها في المحاكم لحصولها على الطلاق؛ إذ كانت القوانين في وقتها منحازة لسلطة الرجل، ففي حال لم تقتنع المحكمة بأسباب طلب الزوجة الطلاق من زوجها، يحقّ للزوج طلبها في بيت الطاعة، "يتمّ القانون جبرياً، وعلى الزوجة أن تنصاع أو تذهب إلى السجن مثل المجرمات"، والعامل الأخير؛ أنّ الدار القومية وقتها رفضت نشر رواية "الحب والصمت".

اقرأ أيضاً: متى أصبح الانتحار شهقة اليائسين ونظاماً راقياً للحزن؟
ترصد إيمان مرسال كلّ عامل من تلك عوامل، في ربطه في سياقه التاريخي، بدءاً من قوانين الأحوال الشخصية التي كانت سائدة في تلك الفترة، والمؤسسات الثقافية الرسمية وآليات عملها، إضافة إلى صورة المثقف وسلطته والمشهد الثقافي وانشغالاته في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية