هل جميع حواسك ناضجة؟

هل جميع حواسك ناضجة؟

هل جميع حواسك ناضجة؟


27/12/2022

في الأشياء والتفاصيل الصغيرة ثمة فتنةٌ تُحرّضُ على إعادة الحسابات. لكنّ السعادة كقيمة مطلقة، لا "تنوجِد" من تلقاء نفسها، بل تتوسل أشياء عدّة طريقاً لتحققها. تتوسل السعادة والصحة والعافية والمال والنجاح والشهرة وراحة البال وقُبَل الأحبة ومسك الأصحاب جسراً للإعلان عن نفسها. كلام جميل، لكن أنْ تكون سعيداً أكثر الأحيان، رائقاً غالب الأوقات، إنما يعني أنّك تمارس تفاصيل حياتك اليومية، وجزئياتها الصغيرة، بكثير من الرضا والتقبّل والإيجابية، وكلّ ذلك لا يمنع بالطبع وجود منغصات وصعوبات ومرارات تتزيّا بزيّ النكد أو الملل أو الإخفاق أو المرض أو سريان بعض الأمور على غير ما تشتهي، لكنها في النهاية لا تطغى على عموم المشهد، ولا تخنق وازع الفرح.

الإبداع اللئيم في التحايل على الشحنات السالبة المغروسة في الأشياء والناس وتخفيف سلبيتها عملٌ عبقريٌّ تُرفع له القبعات

التدرّب على اقتطاف الشحنات الموجبة من فيزياء الكون والناس أمرٌ شاقٌ للغاية ويستحق العناء. والإبداع اللئيم في التحايل على الشحنات السالبة المغروسة في الأشياء والناس وتخفيف سلبيتها عملٌ عبقريٌّ تُرفع له القبعات.
قد يفضحك الرضا والانشراح، وتتملكك السعادة وأنت تحتسي كوباً من القهوة أو الشاي، تتذوقه على مهل، وترتشفه بلذاذة آسرة، تعلن أنّك رائق المزاج أو تودّ لو تكون.
نسعد بلقيا الأصحاب أو مهاتفتهم، أو "الدردشة" معهم إلكترونياً. نسعد بتناول لقمة هانئة مع من نحبهم. تنسيك الإرهاقَ ضحكةُ طفلتك الوادعة، وهي تعلن شوقها لك عائداً لبيتك بعد يوم عملٍ عامرٍ بالمهمات والتركيز المضني... وربما المنغصات!

لا متعة إن لم نتذوق التفاصيل الصغيرة باندفاع حميميّ يكسر عنها رتابتها، ويفكك روتين اليوميّ، ليبدو، قدر ما أمكن، محتملاً.
أميلُ إلى القول إنّ الهدوء الأسري، والاستقرار العائليّ والسعادة بين الأهل والزوجة والأبناء، إنْ لم يتحقق سيكون معوّقاً أمام اكتمال الفرح، واستوائنا سعداء راضين عن حياتنا. وعند اشتداد الكرب علينا في بيوتنا سنهرب نحو أصدقائنا، يتملكنا شعر الشنفرى الهارب من أهله نحو البراري: "ولي دونكم أهلون..."، وقد نتساءل في رحلة الهروب هذه أو التعويض أو الموازنة الشعورية: أيهما أشد إخلاصاً أصدقاؤك الأقدمون أم الجدد؟ زملاء العمل أو من هم خارجه؟ هل الصداقة في السنين الأولى من شبابك أكثر صدقاً وإخلاصاً ووفاء من تلك التي بنيتها في سنّ متأخرة أو في بيئة العمل وغيرها؟ لماذا تدوم بعض العلاقات سنوات طويلة وتبقى قادرة على منح عطاياها ومسرّاتها، صامدة أمام عواصف التفسخ، فيما تبدو بعض العلاقات هشة لا تحتمل "هبّة" منغصات؟.

ثمة حاجة بمنتصف العمر أو ما بعده لانتقاء أصدقاء جدد يضفون على حياتنا لحناً ماتعاً ينعش المعنى

هل خبرة الحياة تمنحنا مقدرة أوسع على اختيار واختبار من (وما) يناسبنا من الصداقات والعلاقات؟ أم أنّ هذه الخبرة تبدو أحياناً عائقاً أمام إقامة علاقات جديدة، والدخول في المغامرة؟ هل الخبرات و"اللذغات" تزيد منسوب الحذر في إقامة صداقات حقيقية غير عابرة، بدعوى أنّ أيّ صداقة هي انفتاح مغامر على احتمالات متعددة، وربما مرهقة أحياناً، وقد تبدو لوهلة كضريبة تودّ النفس لو تنأى عن دفع أكلافها، ومن هنا تنبع دوافع الحذر والحيطة، وتفضيل الخلوة (وليس العزلة) مع الذات؟!
في المقابل، ثمة حاجة، في منتصف العمر، أو ما بعده لانتقاء أصدقاء جدد يمنحون العمر عمراً جديداً، ويضفون على حياتنا لحناً ماتعاً يحرّك ركود الوقت، ويزعزع عرش الملل والرتابة، ويُنعِش المعنى.

فنجان قهوة، لقمة هانئة، طفلة عابثة وادعة، صديق جميل، زوجة أشبه بحقل سنابل، منغصات حياة يمكن احتمالها من دون أن تكسر الظهر... كل هذه التفاصيل اليومية والجزئيات الصغيرة الدائمة، شريط يحتوينا، وينسج حياتنا، ويرسم تضاريس العمر، قد ننجح في جعلها محفوفة بالامتلاء الداخليّ: صفاءً ورضا وإيجابيةً وصموداً، أو جعلها نهباً لرتابة مالحة، ونذراً لتثاؤب لا ينجب سوى الملل ورداءة العيش وانتظار المستحيل.
تظنّ أنّك تفهم الحياة، وكلّما أوغلتَ فيها وأوغلتَ في الفهم تكشّفتْ لك جوانبُ نقصك وزوايا جهلك. كلّما فهمت الحياة زاد شكك وتوارى يقينك.
لكي تتفهمك الحياة، يتوجب عليك أن تعيشها، وكلما غصتَ في العيش، تبددتْ طمأنينتك.

نرغب في الحياة، فنعشق، لنكتشف كم كنّا أميّين قبل العشق. نسافر لنلحظ كم كانت حياتنا ضيّقة قبل اقتراف فعل السفر، وكم كانت دنيانا محدودة وناقصة.
حين نتوهم نضجنا واكتمالنا، تتوقف حواسّنا عن رغبة الاكتشاف، نكتفي بالإجابات الجاهزة، والأفكار "المعلّبة".
ذق العشق، وتمعّنْ بأحلامك وإحباطاتك، حدّق في انكساراتك وتجلياتك... واسأل.. اسأل كثيراً... فالأسئلة أهمّ من الإجابات..
إنّ إبقاء جذوة التساؤل مشتعلةً في داخلك يبقي دم الحياة نابضاً في الأوردة والشرايين. واعلم أنّك في خطر حين يستنكف عقلك عن ممارسة التساؤل وإثارة الشكوك.
كل إجابة هي مشروع سؤال من دون توقف.

أنتَ لا تدنو من الحياة حين تظلّ إجاباتُ سنين مضت تكفيك اليوم، وتحوز رضاك!!
إنّ التبرّم بالإجابات، والشكّ باكتمالها، يعني شغفاً بالجمال، وسعياً لجني ما تيّسر من الأفكار والمعاني والمشاعر، التي تمنح لأيامنا مذاقاً وحرارة.
اسألْ نفسك: هل كلّ حواسّك على سويّة واحدة من الثقة والنضج والاقتدار؟ هل شاركتَ حواسّك جميعها في حياتك؟ هل عاشتْ معك طعم الأشياء واكتشفتْ رحيقها ومرارتها؟.
إنّ لأسرار الحياة واكتشافاتها أواناً ومواسم، وأجمل الأسرار ما افتُضّ في موسمه، لتتذوقه ناضجاً طازجاً مختالاً بفيضه وسحره والتماع عينيه.

تظنّ أنّك تفهم الحياة، وكلّما أوغلتَ في الفهم تكشّفتْ لك جوانبُ نقصك. كلّما فهمت الحياة زاد شكك وتوارى يقينك

ما أنتَ سوى أحلامك وإحباطاتك وانكساراتك ومخاوفك وارتباكاتك ونجاحاتك وتناقضاتك... ما أنتَ سوى أسئلتك الباحثة عن المعنى والمضامين والإحساس ونبض الأشياء والبشر..
ما أنتَ سوى طموحاتك اللاعجة في صدرك.
ما أنتَ سوى اكتشاف نقصك وجهلك، والاعتراف بالجميل لمن حاول أن يسدّ نقصاً فيك، أو يردم جهلاً ألمّ بك. ولا تكون أنتَ من دون الإيغال في الحياة "ما استطعت إليها سبيلاً"، فأنتَ دون حياة ناجز ومكتمل ومكتفٍ بذاتك.
أنتَ مع الحياة بتحدياتها ولذاذاتها ومنغصاتها وغموضها وتعقيداتها وأسئلتها.. أنتَ مع كلّ هذا ناقصٌ يبحث عن اكتمالٍ مشتهى.. جاهلٌ يرجو معرفة لا تُسلِمُ مفاتيحها مهما أدمنتَ جوارها.
منذ القدم حلم الإنسان بالخلود، وابتدع "إكسير الحياة"؛ لأنه اكتشف أن ثمة مسافة شاسعة بين العمر والحياة، بين العمر والاكتمال، فراح يصبو لردم نقصه بالحلم بأن يعيش المزيد، ويُكثِرَ من الحياة، أو تكون له حياتان: واحدة للفهم واستخلاص الدروس وأخرى للعيش بنُضج مبكر، لكنه عرف أنّ الخلود غير متاح لأي إنسان، فاكتفى بأن يردم نقصه بالشغف بالحياة، والتلصص على أسرارها، واستراق السمع لخباياها، والظفر بما أمكن من عطاياها، والتعايش مع ألمها وفجورها، والتصبّر بوهمٍ ساذج (لمَ لا؟) يقول إن 101 من أسباب البهجة تهزم 100 سبب للوجع والبؤس...فهل درّبنا حواسنّا على هذه المقامرة ولم نستسلم لـ100؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية