هل سنكون أكثر أخلاقاً إذا قلّصنا نوافذ الحرية؟

هل سنكون أكثر أخلاقاً إذا قلّصنا نوافذ الحرية؟


16/03/2021

حين نظنّ أنّنا سنكون أكثر أخلاقاً إذا ما قلّصنا نوافذ الحرية والانفتاح، فإننا نقدّم بذلك مفهوماً بائساً للأخلاق؛ أيْ حين نُقيمُ تعارضاً ما بين الأخلاق والحرية، ونزعم أنّ الإنسان لا يستحقّ مكانته المركزية في هذا العالم، لأنه قاصرٌ وحده عن معرفة ما هو أخلاقي!

اقرأ أيضاً: تنوُّع خيارات الإنسان.. ماذا عن سؤال الأخلاق؟
نتخيل لو أنّ العقلية العامة التي تسود اليوم العالم الإسلامي هي التي كانت سائدة أيام الأمويين والعباسيين والأندلسيين، لما وصلنا شيء من آداب وفنون وعمارة وفلسفة الحضارة العربية الإسلامية، فهل كانت هذه الإبداعات لا أخلاقية؟ وإذا كانت إجابة البعض نعم، فماذا يبقى من هذه الحضارة إذاً؟ وماذا يبقى من الإرث الإنساني العميق في تاريخنا وحضارتنا؟

التجربة الاعتزالية في احتفائها بالحرية والعقل لم تقوَ على الوقوف بوجه الرياح الفقهية السَّلَفية التي أحبطت النزعة العقلانية لدى المعتزلة

يرى محمد أركون أنّ مصير علم الأخلاق وآداب التصرُّف والسياسة في العالم الإسلامي بقي مرتبطاً مباشرة بمصير العلاقات الصراعية أو غير الصراعية بين اللاهوت والفلسفة، وأنّ آخر ممثل لهذا الصراع في تاريخنا وأكبر ممثل له هو ابن رشد، الذي كان لحظةً عابرة في هذا التاريخ. وقد كان قبله التيار العقلاني المعتزلي فاصلاً قصيراً وإشعاعاً عابراً في عهد المأمون وجيل مسكويه والتوحيدي الذي تلاه.
نحسب أنَّ من الأفكار العميقة والجريئة التي تناولها علماء الكلام وفلاسفة المعتزلة ما بين القرنين الثاني والثالث للهجرة قولهم (بالرغم من أهمية التنبه إلى منطلقاتها وخلفياتها الميتافيزيقية المرتبطة بعقيدة العدل الإلهي): إنّ الإنسان لديه المقدرة على تشخيص العمل الحسن والعمل القبيح من خلال عقله. وحين كان الأشاعرة يعتقدون أنّ الحسن والقبح "شرعيَّان ونصِّيَّان"؛ أي إنّ الحَسَن ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه النص الديني، اعتقد فلاسفة المعتزلة أنّ الحُسن والقبح "ذاتيَّان وعقليَّان"، وأنّ الإنسان قادر على أن يميز الحسن من القبيح بعقله، وأنّ الأوامر والنواهي التي تصدر عن الشريعة تؤيد ما شخَّصه العقل قبلاً وفي مرتبة سابقة، كما ألمح إلى ذلك، المفكر الإيراني، محمد مجتهد شبستري. وقد شرح ونظّر للفكرة بشكل أوسع وأشمل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانْت من بعد، عندما قعَّد مفهوم القانون الكلي الأخلاقي والمبدأ الأخلاقي الأعلى.

اقرأ أيضاً: "المجتمع المعنوي": دولة الأخلاق هي الحل
وعلى مستوى تعيين القوانين الأخلاقية الكلية، "قالت المعتزلة، مثلاً، إنّ شكر المنعم يُعدُّ قانونا كلياً أخلاقياً، وأداء الأمانة هو قانون كلي أخلاقي، والإنسان يمكنه تشخيص ذلك بعقله، وهكذا. لقد وضع المعتزلة بعض القوانين العقلية، وقد تحرَّك كانْت من موقع تعيين القوانين أيضاً، وكان هناك عنصر مشترك بينهما، وهو أنّ الإنسان هو الذي يعيِّن لنفسه وبعقله وظيفته الأخلاقية، فعقل الإنسان هو الذي يكتشف القانون الكلي الأخلاقي ويستطيع تطبيقه في مجالات عدة، وعندما تتعلق الإرادة بهذا العمل تكون الإرادة حرة".

اقرأ أيضاً: فقه الاستبداد: العلاقة الجدلية بين السياسة والأخلاق في التاريخ الإسلامي
إذاً، كان فكر المعتزلة، والمرجئة، فكراً متقدماً؛ لأنه قدَّم رؤية متقدمة للإنسان، فبينما تُقدِّم المنظومة السلفية الفقهية رؤية تكاد في مجملها "لا تثق بالإنسان"، وتسعى جاهدة لتأكيد نقصه وقصوره وحاجته لمن يبيِّن له الطريق الصحيح ويحذره من الشرور والأخطاء والفتن والآثام، قام الفكر الاعتزالي، في رؤيته الميتافيزيقية، في حقيقة الأمر، على "الاعتراف الصريح بأنّ الإنسان هو الذي (يخلق أفعاله) جميعاً، بخيرها وشرِّها، وهو مؤهَّل لذلك بجبلة الخلق التي أودعها الله فيه، ومن ثم فهو يمتلك الإرادة الحرة والقدرة المؤثرة، وأنه، بحكم التكوين، يمتلك الأدوات اللازمة لذلك كله، وعلى رأسها العقل، الذي هو قادر في ذاته على إدراك الأشياء والحقائق، بما في ذلك معرفة الخير والشر والحق والباطل والحسن والقبيح"، كما يذكر عبد الجواد ياسين.

اقرأ أيضاً: الحقيقة الدينية والأخلاقية في الفضاء العام.. أين هي من الفردانية؟
لكن التجربة الاعتزالية في احتفائها بالحرية والعقل لم تقوَ على الوقوف في وجه الرياح الفقهية السَّلَفية التي أحبطت النزعة العقلانية المتحررة لدى المعتزلة، بحسب ياسين، وبذلك "فقدَ العقل المسلم بنفيها فرصة مبكرة على ممارسة التعقل الحر داخل دائرة الإيمان". ويذهب ياسين إلى أنّ العقل، من حيث هو "منهج"، لا يترادف مع الفلسفة من حيث هي "رؤية" تصدر عن مناهج مختلفة ومتعددة، وأنّ "العقل المنهج" هو العقل الكلي الذي يكاد أن يتطابق مع مفهوم "الفطرة" الإنسانية، التي فطر الله عليها الإنسان بما هو إنسان، ومن ثم فهي مضطردة في النوع الإنساني كله، أو هي الحد الأدنى المشترك بين البشر من "قدرة الإدراك" أو "الحدس المباشر".

اقرأ أيضاً: الدين والأخلاق في الواقع المعاصر.. أزمة تطبيق أم فهم؟
وفي سياق المقابلة والتقويم مع أفكار شاعت في الفكر الغربي، يذهب بعض الباحثين إلى اعتبار أنّ "مصطلح الفطرة مفهوم تدشيني، بمعنى أنه يمثل ركيزة إبستمولوجية في المنظومة الخُلُقية في القرآن الكريم ﴿فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (الروم: 30 و31)، إذْ إنّه يؤكِّد أولاً أنّ أصل الإنسان خيِّر بطبيعته الأولى، وهذا بدوره يُخرج ضمناً كل الرؤى والمناهج الخُلُقية التي ترتكز في بلورة نظريتها على أصل الشر في الإنسان، كما نرى عند جون لوك وعموم الرؤية الخُلُقية الغربية".

لم تُعمَّر نزعة الأنسنة التي طورتها الحضارة العربية الإسلامية إذ سرعان ما اختفت لانتشار فكر عصور الانحطاط في هذه الحضارة

على هَدْي هذه الركيزة الإبستمولوجية وسواها في المنظومة الأخلاقية الإسلامية، طوَّرت الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي نزعة "الأنسنة" منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وصولاً إلى منتصف القرن الخامس الهجري. هذا الزمن كان زمن البُوَيْهيِّين الذي انتشر فيه الرخاء الاقتصادي، والنشاط الفكري الفلسفي، وعمَّتْ فيه الحيوية الثقافية التي انشغلت بالإنسان؛ أدباً، وفكراً، ونقداً، وثقافة أصولية، وفلسفة، ومحاورات ومناظرات كانت تتوجه إلى الإنسان من حيث هو قيمة عليا ومركزية. غير أنَّ نزعة "الأنسنة" هذه لم تُعمَّر طويلاً؛ إذ سرعان ما اختفت على إثر انتشار فكر عصور الانحطاط في الحضارة الإسلامية، وما زالت تلك النزعة، بما تعنيه من رؤية بذرية للحداثة والعقلانية الإسلامية، ضعيفة في الفكر الإسلامي المعاصر، الأمر الذي يدفع محمد أركون، أحد أهم من بحث في هذه المسألة ونادى بضرورة إحياء تلك النزعة الأخلاقية العقلانية العربية والبناء عليها، إلى القول باستغراب، بسبب هجر تلك النزعة والنكوص عنها: "نكاد نشعر أحياناً بأنَّ تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية هو تاريخ معكوس: بمعنى أنه يمشي عكس التيار؛ أيْ تيار الحضارة والرقي".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية