هل قدمت السينما المصرية صورة منصفة للمعلم؟

هل قدمت السينما المصرية صورة منصفة للمعلم؟


31/03/2021

قبل أكثر من قرن من الزمان؛ تبادل الصديقان الأديبان، مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، رسائل عديدة، من بينها رسالة عن المعلّم، يستطرد فيها تشيكوف عن حاله في روسيا؛ حيث يعيش أقسى حالات التقشف، ويتساءل: كيف يمكن للمعلّم أن يُقدم أجيالاً تعلي راية الوطن وهو لا يجد قوت يومه؟

اقرأ أيضاً: بعد تسليح المعلمين..هل ستصبح مدارس أمريكا آمنة؟!

ويبدو أنّ تساؤلات تشيخوف عبرت الأزمان لتستقر في الواقع المصري، الذي يشهد على ما يتكبّده المعلم من عناء من الناحيتين؛ النفسية والاقتصادية، وكان من الطبيعي أن تعالج السينما صورة "مربي الأجيال" منذ بداياتها، لكن غلبت على أعمالها السخرية المقصودة، وتقديمه ضمن الشخصيات الكاريكاتيرية، التي حُفرت في أذهان أجيال عديدة، رغم ظهور بعض الأعمال التي قاومت هذه الصرعة.

أسطورة أستاذ حمام

قدّم الفنان المصري الراحل، نجيب الريحاني، في فيلمه "غزل البنات"، أشهر نماذج المعلّم في السينما المصرية، فنجد في بداية الفيلم رجلاً رثّ الثياب يبدو عليه البؤس، ويعمل مدرس لغة عربية، لابنة أحد الباشاوات، وتلعب دورها الفنانة ليلى مراد، وبهذه الشخصية البائسة يبدو المدرس ألعوبة للطبقة الأرستقراطية، التي تسخر من ثيابه وتتقزّز منها، فيأمر الباشا أن يرتدي معلم ابنته ثياباً مهندمة ليصير لائقاً بالفيلا الفخمة التي يسكنها برفقة ابنته وكلبه.

عالجت السينما صورة "مربي الأجيال" منذ بداياتها لكن غلبت على أعمالها السخرية المقصودة وتقديمه ضمن الشخصيات الكاريكاتيرية

ومن خلال أحداث الفيلم تتابع مشاهد سخرية الفتاة المدللة وصديقاتها، اللاتي يصنعن مواقف مضحكة تجاه المدرس للتقليل من كرامته، إلّا أنّ النهاية تكون مغايرة ولكنها لم تنجح في مسح هذه الصورة التي تكرّست في أعمال فنية لاحقة.

طُرح الفيلم بدور العرض المصرية، العام 1949، مقدماً نقداً للظلم الاجتماعي الذي كان سائداً في العهد الملكي رغم محاولات البعض اليوم التباكي على تلك الأيام وتقديمها بصورة مثالية في مقابل المرحلة الجمهورية؛ فالطبقة الأرستقراطية تنعم بكلّ ما لذّ وطاب، والباشا الذي يقطن قصراً فارهاً برفقة ابنته الوحيدة، بينما المعلم مغلوب على أمره أسير وضعه المالي المتردي، ما أبرز حقيقة التفاوت الطبقيّ الكبير الذي عاشه المجتمع المصري وقتها، ولكن ذلك جاء على حساب الاستهزاء من المعلم نفسه.

قدّم الفنان نجيب الريحاني في فيلم غزل البنات أشهر نماذج المعلّم في السينما المصرية

مادّة خام للسخرية

يقول أستاذ النقد بجامعة حلوان، الدكتور صلاح السروي، لـ "حفريات": "الفنّ لعب دوراً رئيساً في تحريك الوعي الجمعي للشعب المصري تجاه المعلّم، والعملية التعليمية بشكل عام، فقد نحّى الجانب الإنساني للمُدرّس؛ باعتباره تاجراً يسعى إلى كسب عيشه، فتجرّد المعلّم تدريجياً من رسالته السامية، وبفعل العوامل الاقتصادية والمعيشية التي يمرّ بها قطاع عريض من الشعب المصري، تحوّل المعلم إلى تاجر علم، ومادّة خام للسخرية الدرامية التي لم تكف عن هذا التوجه منذ عقود".

عادت موجة السخرية من المعلم للظهور بقوة مع "المضحكين الجدد" بدءاً من فيلم الناظر العام 2000

وبينما انتهج كتّاب السناريو هذا النهج الساخر من المُعلمين المصريين في كثير من الأعمال؛ تعدّدت أوجه التعبير عنه بين حالته المادية المزرية، والشخصية العشوائية المضطربة، واتّسم هذا الخطاب السطحي، بتهميش دور المعلّم وقيمته أمام الطلاب، وإظهاره بصورة البائس الخالي من أيّ نوع من المعرفة، ولا يكاد يدخل إلى الفصل إلا ليكون هدفاً لسخرية التلاميذ، وإن وجدت بعض الاستثناءات في بعض الأفلام.

موجة لم تتوقف

عادت هذه الموجة للظهور بقوة مع "المضحكين الجدد" بدءاً من فيلم الناظر لعلاء ولي الدين العام 2000، ثم فيلم "عسل أسود" الذي عُرض العام 2010 للنجم أحمد حلمي، الذي جاء ساخراً من كلّ شيء في المجتمع المصري، ظهر فيه نموذج "مِس ميرفت" (إيمي سمير غانم)، معلّمة الإنجليزية المضطربة، التي لا تستطيع النطق بشكل سليم، في إشارة إلى أنّ مستواها الذي ليس إلّا نتاج تعليم رديء، في مجتمع احتكرت فيه طبقة الأغنياء تعلّم اللغات الأجنبية، وأصبح أبناء المدارس الحكومية غير قادرين حتى على نطق العربية بشكل سليم.

اقرأ أيضاً: كيف قدمت السينما العربية صورة الإرهابي؟

والصورة السابقة تذكّر بفيلم "زقاق المدق" (1963)، للمخرج حسن الإمام، الذي قام فيه الفنان الكبير حسين رياض بدور مدرس اللغة الإنجليزية، المضطرب نفسياً، الذي أصبح محطّ سخرية أهل الحي.

من كواليس فيلم زقاق المدق

وفي السبعينيات قدّم حسين فهمي، في "انتحار مدرس ثانوي"، دور المعلم المسكين الذي أرهقته سياسات الانفتاح وغلاء الأسعار، وزواجه بامرأة أخرى طمعاً في أن يصبح أباً، لتتحوّل زوجتاه إلى مصنع أطفال، فضاق عليه الحال، لينتهي منتحراً في مياه النيل.

يعد "آخر الرجال المحترمين" لنور الشريف دور البطولة من الأفلام القليلة التي أنصفت المعلم

أمّا أحمد زكي، في فيلمه "البيضة والحجر" العام 1990؛ فقد جسّد شخصية دور معلم الفلسفة، الذي حوّلته المدرسة للتحقيق؛ لأنّه دعا طلابه للتمسك بالقيم والمبادئ، فضاق به الحال، بعد خسارة عمله الذي لا يكفل له حياة كريمة، فاستخدم قدراته المعرفية في الدجل والشعوذة، ليصبح صاحب سلطة ومال.

أما المخرج سعيد مرزوق؛ فقد رصد جانباً مغايراً إلى حد ما في فيلمه "المذنبون" الذي عُرض العام 1975؛ حيث يبيع ناظر (مدير) إحدى المدارس الحكومية أسئلة امتحانات نهاية العام، لقاء حفنة من المال، لرجل ثريّ في حفلة ماجنة، ليتمّ إلقاء القبض على الجميع، ويتلقى المعلم عقوبة السجن، ويظهر كضحية للمجتمع الذي أفسد منظومة التعليم، ويلقي الضوء على الفساد داخل المؤسسة التربوية، وهنا يقع المعلم أسير القضبان نتيجة جشعه الذي ولّده ضيق حال المدرسين في مصر.

إعلان فيلم "انتحار مدرس ثانوي"

الوجه الآخر

هناك بعض الأفلام أنصفت صورة المدرس، وأظهرتها بموضوعية، مثل ما قدّمه نور الشريف، في فيلمه "آخر الرجال المحترمين" العام 1984، في شخصية الأستاذ فرجاني، المعلم الريفي الذي يتخبط بين تقاليده الريفية الراسخة، وحياة المدينة المضطربة، ويظهر هذا بقوة بعد خروجه في رحلة مدرسية مع تلاميذ لزيارة حديقة الحيوان في القاهرة، واختطاف امرأة مضطربة (بوسي) إحدى الطالبات، فتظهر الشخصية الإنسانية للمعلم خارج النمط الفني المعتاد الذي استمرأ النيل من مكانة المدرس.

 لجأ بعض كتّاب الدراما إلى رسم صورة مثالية عن المدرسين وكأنّها أصبحت مطالب اجتماعية

وعن أبرز أدوار المدرسين في "زمن الفن الجميل"؛ نجد الثنائية التي قدمها شكري سرحان وعبدالمنعم إبراهيم، في فيلم "السفيرة عزيزة" العام 1961؛ حيث جسّد سرحان دور المدرّس الطموح، الذي يكفّ أذاه عن الناس، لكنّه يتصدّى للشرّ الذي ينشره جاره الجزار في المنطقة، أما إبراهيم فقد جسّد شخصية معلم اللغة العربية؛ الذي يتقن الفصحى، ولا يتحدث إلّا بها، ويستخدمها بشكل فكاهيّ وسط أصدقائه، دون إسفاف يتعمد الإقلال من شأنه.

وعلى صعيد آخر؛ لجأ بعض كتّاب الدراما إلى رسم صورة مثالية عن المدرسين، وكأنّها أصبحت مطالب اجتماعية؛ كما في الدور الذي لعبه نور الشريف العام 2006 في مسلسل "حضرة المتهم أبي"؛ حيث يؤدي دور مدرس ثانوي يمتنع عن إعطاء الدروس الخصوصية، رغم ضيق عيشه، ويقاوم الفساد بالمثاليات، التي لا تضعف أمام هشاشة المجتمع.

وقبل ذلك جسّدت سميرة أحمد شخصية مقاربة، في مسلسل "امرأة من زمن الحبّ" العام 1998، وأظهر فيها السيناريست العربي الأشهر أسامة أنور عكاشة تلك القوة السحرية التي تمتلكها معلمة في سنّ التقاعد، تقوم على رعاية أبناء أخيها الذين تربّوا خارج مصر، لترسم ملامح حياة الضبط والالتزام لشبان في سنّ المراهقة، وتعيد تشكيل وعيهم من جديد، بعد وفاة والدتهم، متمسكة بالقيم الاجتماعية التي تربّت عليها في المنيا، صعيد مصر، حيث عاشت.

اقرأ أيضاً: كيف تناولت السينما المصرية تأثيرات هزيمة 67؟

لكن يبدو أن هذه الأعمال تمثل استثناءً في مسيرة السينما والدراما، فما تزال الشاشتان الصغيرة والكبيرة في سبيل الإضحاك تصران على المزيد من التشويه لصورة المعلم، كان من آخرها مسلسل "مسيو رمضان مبروك أبو العلمين حمودة" العام 2011 لمحمد هنيدي، بعد "النجاح!" الذي حققته الشخصية العام 2008 في فيلم "رمضان مبروك أبو العلمين حمودة"، الذي ظهر فيه المدرّس مادة للسخرية من قبل طبقة أبناء الأثرياء، الذين لا يأبهون للتعليم؛ بل يتّخذون المدارس نوادي اجتماعية للاستمتاع بالمقالب اليومية التي يمارسونها على المدرسين، وهي الصورة التي بلغت ذروتها مع مسرحية مدرسة المشاغبين (1973) التي بدأ عرضها بعد أشهر قصيرة من نصر أكتوبر وشكلت إهانة المعلم الجسر الذي عبر عليه أبطالها إلى النجومية، ويبدو أن هذه الوصفة "المضمونة" للنجاح غير مرشحة للتراجع بعد!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية