هل كانت بداية دعوة "الإخوان" تأسيساً للاستبداد؟

هل كانت بداية دعوة "الإخوان" تأسيساً للاستبداد؟

هل كانت بداية دعوة "الإخوان" تأسيساً للاستبداد؟


23/12/2023

تحت عنوان "بدايات التأسيس والتعريف – البناء الداخلي 1928: 1938"، كتب الإخوان التأريخ الرسمي لأهم مرحلة في تاريخهم، وهي مرحلة التأسيس في الإسماعيلية. تلك المرحلة التي أستطيع أن أسميها "مرحلة الدعوة"، والتي ارتدت فيها جماعة الإخوان الوجه الصوفي الهادئ المتصالح مع الجميع، في محاولة لجمع القلوب والعقول حول مشروعها، الذي لم تكن ملامحه قد اتضحت في تلك المرحلة.

يقدم محمد المأمون الهضيبي، مرشد الإخوان السابق، هذا الكتاب، معرفاً دعوة الإخوان المسلمين بأنّها هي دعوة الإسلام، في تأكيد على ما حاول أن يؤكّده كلّ مرشد، من حسن البنا وحتى آخر مرشد، في أنّهم وحدهم التجسيد الحيّ لدعوة الإسلام في القرن العشرين، يقول: "فإنّ دعوة الإخوان المسلمين التي نتشرّف بحمل لوائها، هي دعوة الإسلام الشامل الكامل، على الإسلام وحده تعتمد، ومنه تستمدّ وجودها ومنهجها وخط سيرها، وهي دعوة الحق والخير دائماً، تبني وتعمّر، لا تخرب ولا تهدم، ودائماً تجمع على الحق ولا تفرق، تؤمن بالإسلام نظاماً كاملاً شاملاً، يرفق بالبشرية ويخرجها من الظلمات إلى النور، ويصحح للناس أوضاعهم، ويقوّم مجتمعاتهم، ويعينهم في جميع شؤون حياتهم".

قسم البنا الفئات إلى أربع، وتعامل مع كلّ منها بما يناسبها، وراعى ترتيبها من حيث القدرة على التأثير، فكانت كالتالي: العلماء وشيوخ الطرق الصوفية والأعيان ثم الأندية

التاريخ يقول لنا إنّه كلّما ادّعى فرد أو مدرسة ما تمثيل الإسلام الحق، فإنّ مثل هذا الادّعاء يفضي إلى رفض التعددية الفكرية، لصالح الفكرة القائلة إنّ للحقيقة معنى واحداً، ولهذا انتهت معظم الاختلافات في الفكر الإسلامي، إلى تحوّلها إلى حركات معارضة تدّعي أيديولوجيات مناوئة للسلطة، كما يقول صالح زهر الدين.

كان تاريخ الجماعة في الحقيقة تجسيداً لخلاف كلّ ما ورد في الفقرة السابقة، فلم تتقيّد الجماعة في سلوكها بأدب الإسلام وقيمه، بقدر ما تقيدت بتعاليم ميكا فيلي في سبيل حيازة السلطة، ولم يساهم حضورها في أيّ مجتمع، سوى في تقسيمه وزرع بذور الشقاق والفرقة بين الناس، هدمت ولم تبنِ، خربت ولم تعمّر، ولم تحسّن من واقع تلك المجتمعات بل سعت لجعل الماضي الملتبس حكماً على الحاضر والمستقبل.

اقرأ أيضاً: كيف صار حسن البنا أقوى منوّم مغناطيسي في مصر؟

ثم يقول الهضيبي: "لقد استطاع الإخوان، بتوفيق الله لهم وفهمهم الصحيح للإسلام، أن يرجعوا بالمسلمين إلى إسلامهم الأول، في عمقه وسماحته، خاصة في العقيدة والشريعة ....".

من المأثور لهذا المرشد الذي عمل مستشاراً بالقضاء المصري؛ أنّه قال على رؤوس الأشهاد في المناظرة الشهيرة في معرض الكتاب في التسعينات: "الإخوان المسلمون يتعبدون بأعمال النظام الخاص لله" هذا النظام الذي قتل المصريين من القضاة والوزراء والضباط بل وحتى من أعضائه. 

تخضع مرحلة التأسيس لغموض قد تشرحه تلك الفقرة من الكتاب الذي بين أيدينا، يقول مؤرخ الجماعة، بعد الحديث عن ندرة المصادر التي تحدثت عن فترة التأسيس والتكوين: "كثير من الإخوان الذين عاصروا تلك الفترة لم يكتبوا شيئاً، أو يسجلوا هذه الأحداث كتابة، ويرجع ذلك إما لانشغالهم بالعمل المتواصل داخل الجماعة، أو ربما لأسباب أخرى ليس مجال سردها الآن، أضف لذلك طول فترة المحنة مع حرص الحكومات المتعاقبة على طمس تاريخ الإخوان ومصادرة وثائقهم وكتبهم، وما حرق الغوغاء لدار الإخوان المسلمين في 1954 منا ببعيد".

 

اقرأ أيضاً: ماذا قال حسن البنا لوزير الداخلية المصري قبل حلّ "الجماعة"؟

ما يلفت النظر في الفقرة السابقة أنّها تحيل الأسباب التي حالت دون التسجيل الأمين لتاريخ الجماعة إلى عدد من العوامل، التي تجعلنا نشكّ في دقة هذا التاريخ وصحته، فالشهود من أعضاء الجماعة إما لم يكتبوا لانشغالهم بالحركة عن التوثيق، أو لأسباب أخرى لم يذكرها المؤرخ، وأظنّ بعضها نابع من كون بعض الكتابات ذكرت ما كانت تحبّ الجماعة أن يبقى سراً، فالتحفت بالصمت عن الكتابة، خوفاً من فضح أهداف الجماعة ومراميهاـ خصوصاً أنّ وقائع لاحقة، منها واقعة ضبط سيارة الجيب عام 1948، كشفت مخططات الجماعة، خاصة النظام الخاص، وجعلت أهدافها كتاباً مفتوحاً لدى السلطات المصرية في هذا الوقت، مما ساعد في تبرير حلّ الجماعة وإحالة عناصرها وقيادتها للقضاء المصري،  كما ساهم الصدام مع الدولة المصرية، في 45 ثم في 65، في كشف المزيد من أهدافها وخططها.

 ثم يشير الكاتب الى طول فترة المحنة، هذه الكلمة المراوغة التي تخفي إصرار الجماعة على الصدام مع كلّ الأنظمة في سبيل انتزاع السلطة.

كانت مدينة الإسماعيلية هي المكان الأول الذي شهد تأسيس تنظيم الإخوان المسلمين عام 1928.

يلفتنا مؤرخ الجماعة في هذا الجزء إلى مقابلة بين حسن البنا وزميل سابق له كان يعمل مدرّساً في مدينة السويس، وينتمي إلى الطريقة الحامدية الشاذلية، قابله في القطار فتجاذبا أطراف الحديث، يقول: "وحدّثه الإمام الشهيد عن آماله في أن يدعو الناس إلى العودة إلى الإسلام!"، نحن أمام تصوّر راسخ لدى حسن البنا عن أنّ الناس في حاجة إلى العودة إلى الإسلام، وهو التصور الحاكم في عقله ووجدانه عن المجتمع المصري المتديّن بطبعه، والذي تأكد في سلوكه في كل المراحل، وهو في هذه البيئة الجديدة لديه خطة للنفاذ لهذا المجتمع، ترفع واقع القوى الأساسية المؤثرة فيه، والتي استهدفها بخطة ممنهجة قد تكشف قدرات تنظيمية وتخطيطية جبارة، أو ربما تشير بغموض إلى  جهة ما تقف خلفه وتعبّد له الطريق.

 

اقرأ أيضاً: انهيار الإخوان.. تصدع جديد بسبب "حسن البنا"

كانت نسبة الأمية في المجتمع الإسماعيلي تبلغ 70 في المئة، وصف مؤرخ الإخوان أحوالهم بأنّهم "كثر فيهم فساد الأخلاق وضعف التدين والتشبه بالأجانب ...".

كان الأولى بحسن البنا أن يتجه نشاطه إلى العمل على محو الأمية ونشر التعليم، لكن كانت لديه خطة مسبقة في امتلاك العقول والقلوب، عبر استغلال عواطف الناس الفطرية تجاه الدين وجهلهم ربما بأحكامه، لذا لم يستهدف أرباب التدين والعلم من دعاة الأزهر أو شيوخه أو رجال التصوف، بل اختار البنا العمل مع الفئات المؤثرة بطريقته على ثلاثة محاور: "العمل في المدرسة، والتعامل مع الفئات المؤثرة في الإسماعيلية، والدعوة على المقاهي".

تحت عنوان "التعامل مع فئات المجتمع"، كتب مؤرخهم: "قسم الإمام البنا هذه الفئات إلى أربع، وتعامل مع كلّ منها بما يناسبها، وراعى ترتيبها من حيث القدرة على التأثير، فكانت كالتالي: العلماء وشيوخ الطرق الصوفية والأعيان ثم الأندية".

 

اقرأ أيضاً: حسن البنا والأدلجة السياسية للإسلام في القرن العشرين

يحرص مؤرخ الإخوان في روايته أن يقدم تلك الفئات، عبر اللمز الخفي، بأنّها كانت مشغولة بنفسها، تقتلها الخلافات، وتفتقر للإخلاص أو الورع الذي يتمتع بهما بالطبع البنا، فيحرص على تقديم العلماء في صورة تستخف بهم، يقول: "ومن النكات اللطيفة أنّ أحد قدامى المشايخ الذين قضوا بالأزهر الشريف سنوات طويلة، وكان من المولعين بالجدال والنقاش ومحاولة إحراج الوعاظ والعلماء والمدرسين، بطرح مسائل غير مطروقة والتعرض لمعانٍ وموضوعات مما تضمنته الحواشي القديمة والتقارير الدقيقة العميقة ....، وفكّر الإمام في علاج الشيخ من ذلك، فدعاه إلى المنزل وأكرمه وقدّم له كتابين في الفقه والتصوف هدية، وطمأنه على أنّه مستعد لمهاداته بما شاء من الكتب، فسّر الرجل سروراً عظيماً، وواظب على حضور الدروس والإصغاء إليها إصغاء تامّاً"، هكذا اشترى البنا شيخاً من شيوخ الأزهر بضيافة وهدية، هكذا تقدّم حقيقة جهل البنا بالفقه وعلوم الشريعة وضعف بضاعته مقارنة بعلماء الأزهر، بهذه الخفة والتسطيح نحن أمام حرص على الإساءة لهذا المكوّن الذي بقي عدوّاً لدعاوى حسن البنا وهو الأزهر ورجاله.

 

اقرأ أيضاً: كيف فصل حسن البنا جماعته عن عموم المسلمين؟

أما الفئة الأخرى من الفئات المؤثرة، وهم رجال الطرق الصوفية، وقد كانوا كثيرين، فحرص البنا على تجنّب الخصومة معهم، يقول عن تجنّبه الانتظام في الحصافية: "لكنّ الحقّ أنّي لم أكن متحمّساً لنشر الدعوة على أنّها طريق خاص، لأسباب أهمّها أنّي لا أريد الدخول في خصومة مع أبناء الطرق الأخرى"، الرجل سياسي يدرك أهمية كسب الجميع من وقت مبكر، ولديه هدف في أن تكون جماعته الحية التي تلتهم جميع العاملين في الحقل الدعوي، ليكونوا خدماً لمشروعه السياسي في حيازة السلطة، وكذلك فعل مع الأعيان الذين سعى إلى كسب صداقتهم ، لكنّ ميدانه الأثير الذي لم يكن ينازعه فيه أحد هو المقاهي، تلك الساحة المفتوحة التي بدأ الدعوة فيها باعتبار أنّ جمهورها من الفارغين الجاهلين بأبسط حقائق الدين، لكن لديهم عاطفة يبدو هو بارعاً في استثارتها بفنونه التمثيلية، وعبر هذا الجمهور المثالي لدعوته بدأ في اختيار العناصر الأولى لجماعته.

تحت عنوان "في الزاوية الأولى"؛ يتحدث عن تركيبة العناصر المؤسسة لجماعته الأولى ومستوى تأهيلهم، يقول: "كان المجتمعون حديثي عهد بالتعبد أو بعبارة أدقّ كان معظمهم كذلك، فسلك بهم الإمام الشهيد مسلكاً عملياً بحتاً، لا يعمد إلى عبارات يلقيها، أو أحكام مجردة يرددها، لكنّه أخذهم إلى الحنفيات توّاً، يقصد صنابير المياه، وصفّهم صفّاً ووقف فيهم موقف المرشد إلى الأعمال عملاً عملاً، حتى أتموا وضوءهم ثم دعا غيرهم ثم غيرهم"؛ نصّ قاطع في بساطة تصور هؤلاء عن الدين، وضعف محصولهم اللازم لمناقشة البنا في أيّ تصوّر يطرحه. نحن أمام فئة ستسمع وتطيع في شغف وانتظار للتعليمات التي تعبّد لهم طريق الخلاص من الفراغ والباطل، الذي شغلهم في السابق في المقاهي.

يقول مؤرخ الإخوان، بعد الحديث عن ندرة المصادر التي تحدثت عن فترة التأسيس والتكوين: كثير من الإخوان الذين عاصروا تلك الفترة لم يكتبوا شيئاً، أو يسجلوا هذه الأحداث كتابة

واستمرّ حسن البنا بنشاط في دعوة هذه الفئة تحديداً، التي مثّلت قوام جماعته، ومنهم تشكّلت النواة الأولى من ستة، تقدم دائماً رواية التأسيس على طريقة نشأة الدين وجماعته الأولى، في اليهودية والمسيحية والإسلام، وتحرص على استحضار أجواء نشأة كلّ رسالة منهما.

فمن أسس النواة الأولى سبعة، وهو رقم له حضوره في أدبيات الأديان الإبراهيمية، كما أنّ مهن الستة أعضاء البسيطة تأتي مغازلة للجماعة المسلمة الأولى، التي التفت حول دعوة الإسلام؛ فهل يبدو ذلك عفوياً، نجار وحلاق ومكوجي وجنايني وعجلاتي وسائق، وكلّها مهن شريفة لها كلّ التقدير والاحترام، لكن ليس من بين المؤسسين متعلم واحد، أو شيخ أزهري، أو شيخ طريقة، أو غيرهم، ممن لهم صلة بالدعوة أو العلم ومناهجه أو منطقه، هل ذلك مقصود؟ أظن نعم، بدليل ما أورده المؤرخ على لسان البنا، الذي تحدث عن لحظة التأسيس ورغبة هؤلاء النفر الستة في خدمة دينهم والعمل له، فقال لهم: "شكر الله لكم وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح يرضي الله وينفع الناس، وعلينا العمل وعلى الله النجاح فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جنداً، وفيها حياة الوطن وعزة الأمة، وكانت بيعة وكان قسماً أن نحيا إخواناً نعمل للإسلام ونجاهد في سبيله".

 

اقرأ أيضاً: رسائل حسن البنا... بين إقرار العنف وممارسته

هكذا اختار البنا أعضاء خليته الأولى التي تمتعت بعدد من المواصفات، أهمها العاطفة الفطرية للدين ونصرته، الجهل التام بحقائق الإسلام، وعدم القدرة على نقد أو تقييم أيّة تعليمات لحسن البنا، المرشد الوحيد لهم، الاستعداد التام للسمع والطاعة، وبقيت تلك المواصفات هي المواصفات المفضلة في تجنيد الأتباع، وكلّ من حاول أن يناقش أو يفهم أو يحاسب أو يراقب، كان مصيره الإبعاد وهذا ما يتضح في وقائع مشهورة لم تسلم منها حتى مرحلة التأسيس.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية