هل يتجه الأتراك نحو المجهول؟

هل يتجه الأتراك نحو المجهول؟

هل يتجه الأتراك نحو المجهول؟


15/11/2022

ترجمة: محمد الدخاخني

أثناء ركوبي قطاراً مسائيّاً خارجاً من كييف، أواخر الأسبوع الماضي، انتابني شعور بأنّني لست متّجهاً نحو وجهة معيّنة، ولكنّني، ببساطة، أبتعد عن شيء ما - على الأرجح القنابل والطائرات المسيّرة المحمّلة بالقنابل، وأيّام انقطاعات التّيار الكهربائيّ والمياه التي صارت تُعرّف الحياة في العاصمة الأوكرانيّة.

جعلني هذا أُفكّر في المشهد السّياسيّ في تركيا وإلى أين يمكن أن يتّجه، حيث يستمرّ التّضخّم في الوصول إلى مستويات قياسيّة مع اقتراب موعد انتخابات قد تُغيّر قواعد اللعبة في الرّبيع المقبل. الأسبوع الماضي، بعد أيّام من بدء الجمهوريّة التّركيّة عامها المائة، احتفل حزب العدالة والتّنمية الحاكم بعقدين من بقائه في السّلطة.

كتب مايكل ماكفول، سفير الولايات المتّحدة السّابق لدى روسيا، في كتاب صدر عام 2009: «كلّما طالت مدّة بقاء نظام ديمقراطيّ في السّلطة، قلّ احتمال انهياره»، مضيفاً أنّه «كلما طالت مدّة بقاء حكم أوتوقراطيّ في السّلطة، زاد احتمال انهياره».

إرث أتاتورك

في معظم تاريخها، بدا أنّ قادة تركيا يهزأون من هذا التّأكيد من خلال الموازنة على الخطّ الفاصل بين هذه التّسميات. ومؤسّس الدّولة، مصطفى كمال أتاتورك، شخصيّة يبدو أنّ إرثها ينمو بشكل أكثر إثارة للإعجاب وأكثر إشكاليّة مع مرور كلّ عام.

شخص تركي يحمل علماً يحمل صورة مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك، في ضريح أنيتكابير، في أنقرة 10 نوفمبر 2021

لقد رُسّخ بوصفه تحديثيّاً فريداً في الشّرق الأوسط، حيث جلب ديمقراطيّة مستقرّة نسبيّاً ورشّةً من العلمانيّة إلى منطقة لم تشهد سوى القليل من أيّ منهما خلال القرن الماضي. كما يُقارن أتاتورك بشكل إيجابيّ بالقادة الأوروبيّين في عصره.

ضع في اعتبارك أنّ الأسبوع الماضي صادف الذّكرى المئويّة لمسيرة بينيتو موسوليني إلى روما، التي أصبح بعدها بوقت قصير زعيم إيطاليا وأسّس دولة توتاليتاريّة فاشيّة. بوحي من النّجاح الإيطاليّ، أطلق أدولف هتلر انقلاب ميونيخ بير هول الشّهير في العام التّالي. فشل الانقلاب، لكنّه صنع اسمه وبحلول نهاية العقد التّالي، كان الاثنان يُخطّطان لغزو أوروبا بأكملها - وكادا يفعلا ذلك تماماً.

ومن السّهل رسم خطّ من حملة كمال أتاتورك القمعيّة على النّفوذ الإسلاميّ على الحياة العامّة إلى ولادة حزب العدالة والتّنمية وهيمنته اللاحقة

حقيقة أنّ أتاتورك فعل كلّ ما فعله في تركيا في الفترة نفسها يجعله من بين حفنة من قادة القرن العشرين العظماء. يصادف يوم الخميس الذّكرى الرّابعة والثمانين لوفاته، والتي ستتيح مرّة أخرى للأتراك فرصةً للتّعبير عن فخرهم وإعجابهم على طريقتهم الفريدة.

في الذكرى السنوية

بعد بضعة أشهر من انتقالي إلى تركيا، في عام 2013، كنت أسير على طول مضيق البوسفور بالقرب من الصّرح الخياليّ لقصر دولما بهجة عندما شرعت السّيارات المارّة بالتّوقف، واحدة تلو الأخرى. تجمّد المشاة، أيضاً، فيما فتح السّائقون أبوابهم وخرجوا من سيّاراتهم ووقفوا في حالة سكون. توقّفتُ مؤقّتاً ونظرتُ حولي، مذهولاً ومشوّشاً. هل هناك غزو أجنبيّ أو هجوم نوويّ كبير؟ هل هذه مجموعة الاستعراضات المفاجئة الأكثر تنسيقاً على الإطلاق؟ ثمّ تذكرتُ أنّني قرأت شيئاً عن هذه الذّكرى السّنويّة.

وضع البعض أيديهم على قلوبهم، لكنّ معظم الأتراك الذين كانوا يحتفلون بهذه اللحظة من الذّكرى الصّامتة في شوارع إسطنبول، خلال ساعة الذّروة الصّباحيّة، أبقوا أذرعهم على جوانبهم ووقفوا ساكنين لمدة دقيقة كاملة قبل أن يواصلوا يومهم، فجأة. شعرت وكأنّه مشهد من فيلم الخيال العلمي «منطقة الشفق»، أو من عصر أكثر براءة، ولا يزال حتّى يومنا هذا أكثر عروض الاحترام الوطنيّ التي شهدتّها اتّقاداً على الإطلاق.

ومع ذلك، لم يكن أتاتورك قدّيساً. فالبعض يتّهمه بالفشل في وقف أو كبح الإبادة الجماعيّة للأرمن، وفي عمود صحافيّ نشرته مؤخّراً تساءلتُ عمّا إذا كان يَنظر إلى العرب على أنّهم أقلّ شأناً. ويُنظَر إلى فترة حكمه، التي استمرّت 15 عاماً، على نطاق واسع على أنّها فترة حكم أوتوقراطىّ. عندما أجرت تركيا انتخابات بعد اثني عشر عاماً من تأسيس الدّولة، كان هناك حزب واحد فقط، حزب أتاتورك، حزب الشّعب الجمهوريّ، على ورقة الاقتراع.

أتراك يقفون بجانب سياراتهم، الساعة 09:05 صباحا، في 10 نوفمبر، وهو وقت وفاة مصطفى كمال أتاتورك

والعديد من قراراته السّياسيّة - إلغاء الكتابة بالخطّ العربيّ، وحظر الطّربوش، وإنهاء الخلافة، وتقييد الاحتفالات الإسلاميّة - اتُّخذ تعسفيّاً. ومن السّهل رسم خطّ من حملة أتاتورك القمعيّة على النّفوذ الإسلاميّ على الحياة العامّة إلى ولادة حزب العدالة والتّنمية وهيمنته اللاحقة.

بشكل جزئي، تأسّست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 استجابةً لانتهاء الخلافة. وحزب الرّؤية الوطنيّة، الذي تزعّمه نجم الدّين أربكان، وهو في الأساس فرع تركيّ عن جماعة الإخوان المسلمين، أرشدَ مؤسّسي حزب العدالة والتّنمية، الذين احتضنوا بدورهم شكاوى الأتراك المحافظين الذين همّشتهم الكماليّة.

رسم مسار جديد

من خلال خلق ديمقراطيّته العلمانيّة، اعتقد أتاتورك أنّه يتعيّن عليه الانحياز إلى الجيش ووضع الإسلام في صندوق؛ بعد بضعة أجيال، أدّى ذلك إلى ردّة في شكل حزب العدالة والتّنمية. فهل الأتراك، الآن، على استعداد لرسم مسار جديد؟

رأى مراقبو تركيا عموماً أنّ ظهور حزب العدالة والتّنمية وإنهاء الوصاية العسكريّة يمثّلان علامةً على حقبة ما بعد كماليّة. وفي السّنوات الأخيرة، هناك الكثير من الحديث عن حقبة ما بعد بعد كماليّة، حيث يبتعد الأتراك عن سياسة حزب العدالة والتّنمية المحافِظة وسياسة حكم الرّجل القويّ ويتّجهون نحو شيء آخر.

قد تعكس العقود المقبلة في تركيا التّقلّبات البندوليّة التي شهدتها الرّئاسة الأمريكيّة بين الدّيمقراطيّين والجمهوريّين. ربما يكون المجتمع التّركيّ مستقطباً فلا يمكن تحقيق إجماع دائم

ربما سنبدأ في رؤية توليفة تتلاقح فيها الأيديولوجيّات المتنافسة. الشّهر الماضي، اقترح كمال كيليتشدار أوغلو - رئيس حزب أتاتورك القديم، حزب الشّعب الجمهوريّ، الذي يمثّل المعارضة الرّئيسة، والمنافس المحتمل للرّئيس رجب طيّب أردوغان - قانوناً جديداً يكرّس حقّ المرأة في ارتداء الحجاب في الأماكن العامّة.

بدلاً من ذلك، قد تعكس العقود المقبلة في تركيا التّقلّبات البندوليّة التي شهدتها الرّئاسة الأمريكيّة بين الدّيمقراطيّين والجمهوريّين منذ أوائل التّسعينيّات. ربما يكون المجتمع التّركيّ مستقطباً للغاية بحيث لا يمكن تحقيق إجماع دائم في أيّ وقت قريب. قد يكون النّجاح، ببساطة، عبارة عن سلسلة انتخابات حرّة ونزيهة إلى حدّ ما، واستقرار نسبيّ ودرجة من التّعدّديّة السّياسيّة.

ساعياً وراء الاستقرار، اتّخذتُ من بودابست مستقرّاً لي كأوّل ميناء أتوجّه إليه بعد مغادرة أوكرانيا. بعد وصولي في وقت متأخّر من الليل، استيقظت على دخان أسود، وحطام متفحّم، ومركبات تعرّضت للقصف، وأبنية متضرّرة من الحرائق. كما قُدِّر، كانت كيت وينسلت وطاقم ضخم يصوّرون فيلماً هوليوديّاً كبيراً عن مصوّر صحافيّ بطوليّ من الحرب العالمية الثّانيّة أمام نافذتي.

يوماً ما قريباً، قد يتعلّم الأتراك، أيضاً، أنّ الذّهاب إلى مكان جديد لا يغيّر المشهد دائماً كما يأمل المرء.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

ديفيد ليبيسكا، ذي ناشونال، 9 تشرين الثّاني (نوفمبر)  2022



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية