هل يعاني العالم اليوم تبعات "تديين" الغزو السوفييتي لأفغانستان؟

هل يعاني العالم اليوم تبعات "تديين" الغزو السوفييتي لأفغانستان؟

هل يعاني العالم اليوم تبعات "تديين" الغزو السوفييتي لأفغانستان؟


01/02/2024

إبان الحرب العالمية الأولى، وتحت الضغط العسكري لدول الوفاق، أعلنت الدولة العثمانية نفير الجهاد، وفي مشهد مفعم بالمشاعر الدينية، تقلد السلطان العثماني محمد الخامس، ما زعم أنّه سيف النبي عليه السلام، قبل أن يعلن الجهاد ضد معسكر الكفر (إنجلترا وفرنسا وروسيا)، وذلك بإيعاز من حلفائه في ألمانيا القيصرية، استجابة لاقتراح المستشرق الألماني "ماكس أوبنهايم"؛ حيث كان الأمر من شأنه إزعاج دول الوفاق، وخاصة إنجلترا، التي كانت تحكم ملايين المسلمين في الهند ومستعمرات أخرى.

اقرأ أيضاً: بين حربين: اليمن وأفغانستان
أدركت إنجلترا خطورة الأمر، ومن ثم قررت استخدام السلاح ذاته، بالتحالف مع الشريف حسين، والذي أعلن نفيراً موازياً يدعو فيه العرب والمسلمين إلى الجهاد ضد الدولة العثمانيّة، ما أربك حسابات إسطنبول، وعجل بسقوط دولتها فيما بعد على إثر الهزيمة الساحقة في الحرب.

 

أداة فعالة لحسم الحرب الباردة
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع انقسام العالم إلى معسكرين يعادي كل منهما الآخر، ظهرت عدة بؤر ساخنة للصراع بين القطبين؛ في كوريا وفيتنام وكوبا والشرق الأوسط وغيرها، وكان الصراع العسكري في أفغانستان آخر حلقات الحرب الباردة، وأكثرها سخونة.

تحويل مسار المسألة الأفغانية إلى محض صراع بين الإسلام والإلحاد خلق تداعيات مازالت تعانيها المنطقة العربية والعالم

عقب سلسلة من الاضطرابات التي أعقبت سقوط الحكم الملكي في أفغانستان، وفشل نظام محمد داود خان القمعي في السيطرة على البلاد، وصل حزب الشعب الديموقراطي الماركسي إلى الحكم، والذي انتهج مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وجدت فيها الولايات المتحدة مؤشراً خطيراً على ظهور كيان شيوعي جديد، في منطقة من أكثر مناطق الصراع الأيديولوجي اشتعالاً، ما يعني تغيير موازين القوى في قلب آسيا لصالح الاتحاد السوفيتي، خاصة بعد توقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين موسكو وكابول في العام 1978، وعليه نشط عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية بين القبائل، لتأليبهم على الحزب الحاكم، ووصمه بالكفر والإلحاد، واعتماد قوانين تخالف الشريعة الإسلامية، وهو ما أثمر عن جملة من التحركات المناوئة، بلغت ذروتها في إقليم نورستان.

اقرأ أيضاً: أفغانستان: جحيم للنساء.. والرجال أيضاً
ومع الصعوبات التي واجهت حزب الشعب الديموقراطي، ومقتل رئيس الوزراء والسكرتير العام للحزب "نور محمد تراكي"، وفشل نائبه "حفظ الله أمين" في السيطرة على زمام الأمور، وسط تقارير أشارت إلى تورطه في مقتل "تراكي"، تطورت الأمور بشكل حاد، ونجحت اللجنة الثورية المركزية الأفغانية بمساعدة الاستخبارات السوفييتية في التخلص من "حفظ الله"، وتعيين "بابراك كارمال" رئيساً للحكومة، والذي طلب عوناً عسكرياً صريحاً من موسكو، لمواجهة الثورة الإسلامية، وفي أواخر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1979، بدأ الاجتياح السوفيتي لأفغانستان.
تورط الاتحاد السوفييتى في فخ محكم، ونشطت الدوائر العسكرية والسياسية الأمريكية، لتكتيل العالم الإسلامي في مواجهة مباشرة مع الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما أُعلن الجهاد الإسلامي في أنحاء العالم الإسلامي، واستنفرت الشعوب لأجل معركة الخلاص الأخير ضد الشيوعية التي باتت والكفر سواء.

 


ويمكن القول إنّ تحويل مسار المسألة الأفغانية، إبان التدخل العسكري السوفييتي، إلى محض صراع ديني بين الإسلام والإلحاد، خلق تداعيات مازالت المنطقة العربية، وربما العالم يعاني منها إلى الآن، مع عودة المقاتلين، ورغبتهم في رفع رايات الجهاد على كل بقعة تطأها أقدامهم، لكن أحداً لم يقرأ المستقبل، أو يتنبأ بمآلات الوحش الجهادى، الذي تم تدجينه في أروقة الاستخبارات الأمريكية.

 

صحافة ترفع رايات الجهاد
احتفت الصحافة العربية بالمجاهدين الأفغان، ونجحت في شحن الرأي العام وتجييشه تحت راية الجهاد، مع وصم كل ما هو شيوعي بالكفر والإلحاد، ويعطي التحقيق المنشور في جريدة "أخبار اليوم" القاهرية، بعددها الصادر يوم 2 آب (أغسطس) من العام 1985، صورة واضحة عن الدور الذي قام به الإعلام الرسمي، في دعم أكبر حركة جهادية في العصر الحديث، وتضخيم اللغم الذي انفجر بعد ذلك في وجه الجميع.

في مشهد مفعم بالمشاعر الدينية أعلن السلطان العثماني محمد الخامس الجهاد ضد معسكر الكفر بالحرب العالمية الأولى

حمل المانشيت الرئيسي لجريدة أخبار اليوم العنوان التالي: أخبار اليوم في أرض المعركة مع المجاهدين الأفغان، وفي التفاصيل ورد التالي: "نجحت أخبار اليوم في الوصول إلى قلب أفغانستان، التقى محمد عبد القدوس بالمجاهدين الأفغان، الذين يعزفون أروع ملحمة نضال لشعب يدافع عن أرضه، وأجرى حواراً مع الأسرى الروس"، وبالطبع ليس من قبيل المصادفة أن يقوم محمد عبد القدوس بإجراء التحقيق، وهو الذي كان نشطاً ضمن جماعة الإخوان المسلمين آنذاك، والتي ارتبطت بعلاقات قوية على الأرض مع المقاتلين الأفغان، ونشطت في مجال الدعم المالي، وتدريب ونقل المجاهدين إلى مناطق القتال هناك، وهو ما سهّل مهمته، وجعلها قيد التنفيذ.

اقرأ أيضاً: أفغانستان ولواء "فاطميون"
نلمح بين طيات التقرير مركزية مفهوم الجهاد الإسلامي، كرسالة وجودية فرضها الله على كل مسلم، مع تأكيد البعد الديني للمعركة، باستخدام أكثر التعبيرات شعبوية، وربما ركاكة ومجافاة للواقع،  ففي الصفحات الداخلية، التي احتوت تفاصيل الرحلة إلى منطقة "جلجي" في قلب أفغانستان، وتحت عنوان لافت كتب محمد عبد القدوس: "اكتشف الأسرى السوفييت وجود الله وأعلنوا إسلامهم"، بكل ما يحمله ذلك من دلالات تجعل المجاهد صاحب رسالة ربانية، اصطفاه الله لنشر الإسلام ورفع رايته.

كما يحتفي التحقيق بــ "عبد رب الرسول سياف" وهو واحد من أشهر أمراء الحرب في أفغانستان، وكان وقتها أمير الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان، كبرى التنظيمات القتالية التي واجهت السوفييت على الأرض، ويعد من أكثر أمراء الحرب الأفغانية غموضاً، فسياف الذي حصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام في العام 1985 درس بالأزهر وتعرف على الإخوان المسلمين، وانخرط في أنشطتهم، وهو يعلن دوماً اعتزازه بصداقة عبد الله عزام، كما أنّه استقبل أسامة بن لادن في أفغانستان، ونشأت بينهما صداقة، قبل أن ينقلب عليه، ويتحالف مع القوات الأمريكية التي غزت بلاده في العام 2001.

 

 

لقاء مع الأسرى
على الرغم من أنّ اتفاقية جنيف، لحقوق الإنسان، تؤكد على ضرورة حماية الأسرى من كل أعمال الترهيب وفضول الجمهور، إلا أنّ ذلك لم يمنع فضول محمد عبد القدوس من الالتقاء بالأسرى السوفييت، والذين سردوا، في ظل ظرف إنساني شديد البؤس، فصولاً من حياتهم، تدور حول الفقر والعوز، وعدمية الحياة في قلعة الكفر السوفييتية، وزفّ التحقيق إلى ديار الإسلام اعتناق هؤلاء الأسرى للإسلام، ودخولهم في دين الله أفواجاً، يقول أحدهم: "أعجبني سلوك الأفغان معنا.. كان نموذجاً للسلوك الطيب.. درست دينهم الإسلام واقتنعت به، وهكذا أصبحت مسلماً"، ثم قرأ الفاتحة، بينما يقول أسير آخر: "كنت من قبل ملحداً لا أؤمن بشيء، أما الآن فأنا مسلم"، ثم قرأ الفاتحة، ولا ندري لماذا أبقاهم "المجاهدون" في الأسر بعد إسلامهم؟!

ارتبطت جماعة الإخوان بعلاقات قوية على الأرض مع المقاتلين الأفغان ونشطت في مجال الدعم المالي والتدريب ونقل المجاهدين

وبشكل عام، يقوم التحقيق بتكريس الفكرة الجهادية، وتأكيد شمولها وحتميتها التاريخية، فينقل عبد القدوس عن أحد المقاتلين المنخرطين في صفوف المجاهدين، على الرغم من كونه سوفييتياً قوله: "أصبحنا مسلمين والجهاد فرض علينا، وفي الكثير من غزوات الرسول كان المسلمون يقاتلون أقاربهم الكفار، رابطة الدين أقوى في هذه اللحظات من أي رابطة.. لقد قررنا تكريس حياتنا للجهاد".

وعليه، يمكن القول إنّ الدعاية الإعلامية العربية دعّمت وكثفت من تنامي الحشد الشعبي العربي، خلف الجهاد الأفغاني، لتدور في سياق بدا تنفيذاً لمخطط شديد التعقيد، باستدعاء مفهوم الجهاد، وتوظيفه لخدمة أيديولوجيا أخرى، في خضم صراع دولي، أعاد أصحابه إنتاج التخلف في أشد مناطق العالم بؤساً وأكثرها خراباً، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ليتجرع من ذات كأس.

الصفحة الرئيسية