هل ينجح التصوف الفردي بديلاً للطرقية؟

هل ينجح التصوف الفردي بديلاً للطرقية؟

هل ينجح التصوف الفردي بديلاً للطرقية؟


17/02/2024

منذ حوالي عقد زمني، نقرأ لأسماء بحثية في المنطقة العربية والأوروبية، تدعو إلى الانتقال من مقام العمل الصوفي المؤسساتي، أو ما يُصطلح عليه العمل الطرقي، نحو العمل الصوفي الفردي، ويمكن الاصطلاح على هذه الدعوة بـ"ما بعد الطرقية".

من باب التدقيق، نتحدث هنا عن "ما بعد التصوف الطرقي" بالتحديد، ولا نتحدث عن "ما بعد التصوف"؛ لأن النزعة الصوفية ابتداءً، قديمة ونجدها عند بعض أتباع الأديان الإبراهيمية، إضافة إلى أتباع بعض العقائد الوضعية، ولو أنّ حديثنا يهم التصوف الإسلامي السنّي دون سواه.

اقرأ أيضاً: التصوف.. هل هو الوجه الروحي للإسلام؟
صحيح أننا إزاء سياق خاص للظاهرة، ولكنه يأتي في سياق عام، عنوانه ظاهرة "الما بعديات"، من قبيل الحديث عن "ما بعد الأيديولوجيا" (مباشرة بعد صدور كتاب دانيال بل "نهاية الأيديولوجيا")، و"ما بعد الإسلاموية" (مع كتاب آصف بيات بالعنوان نفسه)، و"ما بعد الإنسان"، و"ما بعد الحداثة" و"ما بعد العلمانية"، وما بعديات أخرى.

ظهرت مؤخراً دعوات للانتقال من مقام العمل الصوفي المؤسساتي أو الطرقي نحو العمل الصوفي الفردي

إلا أنه ثمة عوامل ذاتية تهم العمل الصوفي والتحولات التي يمر منها، تخول للعديد من الأقلام البحثية الحديث أو الدعوة إلى تبني خيار "العمل الصوفي الفردي"، ومن ذلك، ما صدر عن الباحث الفرنسي المسلم، إريك جوفروا، أحد دعاة التديّن الصوفي في الساحة الأوروبية، واشتهر على الخصوص بكتابه الذي ترجمه الباحث والمترجم السوري هاشم صالح تحت عنوان "المستقبل للإسلام الروحاني" (صدر في غضون 2016، عن المركز القومي للترجمة، القاهرة).
كما نُعاين في الساحة المغربية، وهي ساحة دينية صوفية بامتياز ــ رغم الاختراقات الإسلامية الحركية ــ أنّ بعض الباحثين في المجال الديني، وخاصة بعض المتخصصين في العمل الصوفي، بما في ذلك بعض الباحثين الذين ينهلون منه، ينتصرون بشكل أو بآخر لهذا الخيار، ولكن، بسبب الحساسية الكبيرة التي يُثيرها الحديث عن "ما بعد التصوف الطرقي" في "بلد الأولياء"، فإننا لم نطرق بعدُ هذا الباحث بشكل صريح في محاضرة أو ندوة أو عمل بحثي، ونتحدث عن عدة أسماء، نذكر منها عبد الإله بنعرفة من المغرب (صاحب مشروع "الرواية العرفانية") وخالد محمد عبده من مصر (باحث متخصص في أعمال جلال الدين الرومي والحلاج).

اقرأ أيضاً: هل جنى التصوف على حضارة الإسلام؟
يقتضي بيت القصيد الإجابة عن سؤال يكاد يكون لامفكَراً فيه عند أغلب أتباع الطرق الصوفية: لماذا الحديث أساساً عن "ما بعد التصوف الطرقي"؟ وما هي الأسباب أو المقدمات التي دفعت إريك جوفروا هناك في فرنسا، وبعض الباحثين المغاربة والمصريين، إلى الحديث عن خيار "ما بعد التصوف الطرقي"؟ وهم ينهلون من العمل الصوفي، بل يدافعون عنه، في مواجهة الانحرافات التي طالت التديّن الإسلامي بشكل عام، وخاصة الانحرافات التي طالت العمل الإسلامي، في تفرعاته الدعوية والسياسية والقتالية أو قل "الجهادية"؟

اقرأ أيضاً: بعد هزيمة الإخوان…هل يكون التصوف هو الملاذ الأخير للشباب المصري؟
واضح أننا نتحدث هنا عن آفات مسكوت عنها، طالت العمل الصوفي في نسخته الطرقية أو الحركية؛ أي العمل الصوفي الذي يُجسد في طرق صوفية، كما هو الحال في العديد من الدول الإسلامية، من قبيل المغرب ومصر وتركيا والسودان وبلدان أخرى.

ما يثير الاستغراب في الخطاب الصوفي العربي المعاصر إصراره على تجاهل الخوض في آفاته

بل إنّ تأمل بعض هذه الآفات، يُحيلنا إلى الآفات ذاتها التي طالت العمل الإسلامي الحركي، والذي تورط بشكل مقصود ومتوقع في شيطنة التصوف، سواء تعلق الأمر بشيطنة عقائدية، كما هو الحال مع التديّن السلفي، أو شيطنة سياسية كما هو الحال مع التديّن الإخواني، ومع أنه سواء تعلق الأمر بالتديّن السلفي أو التديّن الإخواني، فإننا نتحدث عن أنماط طائفية من التديّن، تسببت لنا في مشاكل لا حصر لها، مع المسلمين وغير المسلمين، وبالرغم من ذلك، اتضح عملياً، كما نُعاين ذلك في الساحة المغربية والمصرية على الخصوص، أن بعض الأمراض السلوكية التي تطال أي عمل ديني مؤسساتي، سواء كان طائفياً أم لا، توجد عند بعض الفاعلين في العمل الصوفي.
أما القلاقل السلوكية التي نُعاينها في الحالة المغربية، فتحتاج إلى وقفات نقدية وورشات علمية، ولكن مجرد استحضار هذه القلاقل وتبعاتها، يُساعد المتتبع على استحضار بعض أسباب الدعوة إلى "ما بعد التصوف الطرقي"، عبر الانتصار إلى التصوف الفردي، البعيد عن المشيخة.

اقرأ أيضاً: لماذا لم ينجح التصوف كبديل لجماعات الإسلام السياسي؟
سبق أن تطرقنا إلى بعض هذه القلاقل في خاتمة كتاب "نحن والتصوف"، والصادر في غضون 2009 عن دار الشروق المغربية، حيث توقفنا عند بعض السيناريوهات المحتملة للعمل الصوفي هنا في المغرب والمنطقة، وأشرنا حينها إلى أربعة سيناريوهات بالتحديد: المأسسة، أو الخيار التوظيفي؛ التمييع، أو الخيار الفولكلوري؛ التهميش، أو الخيار التقزيمي؛ وأخيراً، الهيمنة، أو الخيار التوسعي.
هذا قول صدر في غضون 2009، وقد تأكد لنا اليوم، بعد مرور عشر سنوات على نشره، أنّ بعض هذه السيناريوهات يتحقق شيئاً فشيئاً.
ولو توقفنا، على سبيل المثال لا الحصر، مع السيناريو الأول؛ أي سيناريو المأسسة، أو الخيار التوظيفي، فهذه ظاهرة تأكدت اليوم بشكل جليّ في عدة نماذج وطنية، ونُعاينها بشكل واضح في الساحة المصرية، مع تأسيس "المجلس الأعلى للطرق الصوفية".

اقرأ أيضاً: هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟
أما السيناريو الثاني، وعنوانه "التمييع، أو الخيار الفولكلوري"، فيصعب حصر استفحال هذا المأزق في الساحة المغربية والأوروبية، إلى درجة أنّ المتتبع أو الناقد يسأل نفسه عن الأفق الإصلاحي لأصحاب هذه المبادرات، خاصة إن كانوا يعتقدون عن حسن ظن أن تمييع العمل الصوفي، يمكن أن يُفيد الفاعل الصوفي؛ لأن من يعتقد ذلك جاهل بالعمل الصوفي، ومن الأفضل له أن يأخذ مسافة منه.
نأتي للسيناريو الثالث، وهو خيار "التهميش، أو الخيار التقزيمي"، ومع أنّه يصعب توقع ذلك في الحالة المغربية؛ لأننا نتحدث عن بلد الأولياء والصلحاء، بل بلد "تصدر الأولياء" إلى إفريقيا والمشرق، إلى درجة يصعب معها حصر عدد هؤلاء، إضافة إلى أنّ المغرب يتميز بوجود مؤسسة إمارة المؤمنين، الساهرة على حماية الدين، وهو النموذج الذي يحظى بطلب أجنبي كبير خلال العقد الأخير، من العرب والأفارقة والأوروبيين.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره السلفيون التصوف؟
إلا أنّ واقع الحال يُفيد بأنّ العمل الصوفي يعاني بداية من الأعطاب الذاتية الخاصة به، ويُعاني أيضاً من التضييق الأيديولوجي المتوقع والصادر عن المرجعيات الدينية الأيديولوجية، ومنها الأيديولوجيات الإخوانية والسلفية الوهابية، كما سلف الذكر، خاصة أنّ هذه الأيديولوجيات توجد اليوم في مؤسسات الدولة الدينية والتعليمية وغيرها، وبالتالي لا نتوقع منها أن تساعد صناع القرار على الترويج للخطاب الديني الصوفي؛ وبالنتيجة،  من الصعب الحديث عن عمل صوفي مغربي في أحسن المقامات.

التحولات المجتمعية في المنطقة عصية على الحصر ومنها ما يخص تحديات الخطاب الديني

ومما يبعث على الاستغراب في الخطاب الصوفي العربي المعاصر، أنه لا زال مصراً على تجاهل الخوض في هذه الآفات، كأنّه غير معني بها، أو يعتقد أنّ الأقلام التي تحذر من هذه الآفات، منخرطة من حيث لا تدري في حملة تهويل، إلا إن كان "صناع القرار" في الطرق الصوفية، "خارج التغطية" إذا استعرنا إحدى مفردات اللغة الرقمية المعاصرة، ومما لا نشك فيه قط، أنّ العديد من هؤلاء، وانطلاقاً من حسن نوايا تفاعلهم ومتابعتهم، لم يستوعبوا خطورة هذه الآفات والتحولات، والتي تندرج هذه المرة في سياق تحولات تطال الخطاب الديني بشكل عام.
التحولات المجتمعية التي تمر منها مجتمعات المنطقة، عصية على الحصر، ومنها التحديات الخاصة بالخطاب الديني والعمل الديني، مع تشوه كبير يطال هذا التديّن، كما تؤكد ذلك العديد من الوقائع، لن تكون آخرها، في الحالة المغربية مثلاً، تفاعل الرأي العام مع زيارة بابا الفاتيكان للمغرب في آخر آذار (مارس) الماضي؛ حيث اتضحت للجميع آثار التشدد الديني الذي طغى على تفاعل جزء كبير من الرأي العام.

اقرأ أيضاً: التصوف وعلاج ظاهرة العنف الديني
من واجب الطرق الصوفية الانتباه إلى هذه التحولات والانخراط النظري والعملي في التفاعل معها، بما يتطلب بداية الانتباه إلى مجموعة من الآفات التي أصابت العمل الصوفي ذاته، ومواجهتها، موازاة مع الانخراط الجماعي في التفاعل مع التحديات النظرية والعملية التي تواجهنا جميعاً، محلياً وإقليمياً على الأقل، حتى لا نتحدث عن التحولات الدولية، فهذا أمر غير مفكّر فيه عند أغلب الأقلام البحثية في الساحة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية