الإسلاموية والديمقراطية في تركيا بعد انتخابات إسطنبول

الإسلاموية والديمقراطية في تركيا بعد انتخابات إسطنبول


كاتب ومترجم جزائري
30/07/2019

ترجمة: مدني قصري


خسر الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا، حزب العدالة والتنمية، الانتخابات الجديدة التي فرضها على مجلس مدينة إسطنبول، في 23 حزيران (يونيو) الماضي، وتساءل البعض عمّا إذا كانت هذه ليست بداية النهاية للرئيس رجب طيب أردوغان، الذي قاد حزب العدالة والتنمية منذ عام 2001، والبلاد منذ عام 2003.

اقرأ أيضاً: أردوغان يتخلى عن اللاجئين السوريين والشرطة التركية تطاردهم في الشوارع
والسؤال الأكثر أهمية؛ هو ما إذا كان من الممكن أن يحدث انقلاب على التغييرات الاجتماعية التي مرّت بها تركيا منذ عقدين تقريباً من الإسلام السياسي، بعد رحيل أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
قيام جمهورية علمانية
بعد مجيء الإسلام والفتوحات العربية في عهد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، كان المجتمع الإسلامي والإمبراطورية يحكمهما الأمويّون ثم العباسيون، أُسرتان عربيّتان، بعد الغزو المغولي للشرق الأوسط في القرن الثالث عشر ونهب بغداد، أعيد تشكيل الخلافة العباسية رسمياً لفترة من الزمن في مصر، حتى غزا الأتراك العثمانيون القاهرة، عام 1517، ونقلوا مقرّ الخلافة في إسطنبول، المعروفة آنذاك باسم القسطنطينية؛ حيث بقيت لمدة الأربعمئة عام.

دخل العثمانيون الحرب العالمية الأولى، عام 1914، إلى جانب ألمانيا والنمسا، وبحلول نهاية الحرب لم يُهزَموا فحسب؛ بل احتلتهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبصورة أكثر استفزازية، اليونان.
وُلدت حركة مقاومة وطنية، بقيادة مصطفى كمال، الضابط العسكري الذي اكتسب شهرة خلال الحرب الكبرى بصدّ الغزو البريطاني في معركة جاليبولي، وعام 1923 فرض كمال نفسه.

اقرأ أيضاً: أردوغان والإقامة الصعبة بين المعسكرَين
أجبَر تغيّرُ الظروف على الأرض الحلفاءَ على إلغاء معاهدة سيفر التي اقترحت تقسيم الأراضي العثمانية القديمة، والتوقيع على معاهدة لوزان، في تموز (يوليو) 1923، وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه؛ تمّ الإعلان عن قيام جمهورية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وتمّ إلغاء مكتب السلطان الإداري، الذي ترأّس إدارة مُنافِسةً لجمعية كمال الوطنية الكبرى ومقرها أنقرة، رسمياً، من قِبل الجيش الوطني، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، وفي آذار (مارس) 1924؛ تمّ إلغاء مكتب الخلافة الروحي من قبل الحكومة الكمالية.

علمانية على الطريقة الفرنسية

لم يؤسّس كمال أقل من ثورة بالمعنى "الحقيقي" للمصطلح الذي يُطلَق على الثورتين؛ الفرنسية أو الروسية، وتشنجات غيّرت نظام البلاد الاجتماعي والسياسي بأكمله.

اقرأ أيضاً: لا الأتاتوركية انتهت ولا الأردوغانية نجحت
كان الإصلاح الحاسم هو إلغاء الإسلام كدينٍ للحكومة، تمّ إنشاء علمانية على الطريقة الفرنسية؛ حيث أقيمت عِلمانية صارمة، ففيما كان القانون العثماني في السابق هو الشريعة، القانون المقدس، استورد كمال القانون السويسري وكيّفه مع الاحتياجات التركية، وقال كمال إنّ الحكومة التركية "وطنية ومادية، وتُبجِّل الواقع"، إنّها ليست حكومة ترتكب القتل عن طيب خاطر، أو تدفع الأمة إلى الخراب، سعياً وراء أيديولوجيات عقيمة، وكان كمال معادياً لجميع الأيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية، سواء كانت عموم القومية التركية أو الإسلامية، والتي يعتبرها ضارة بمشروعه الساعي إلى إعادة تأسيس تركيا كدولة حديثة مقبولة في نظام الدولة العالمي.

قطيعة كاملة مع الماضي
خلال حرب الاستقلال؛ تلقّى كمال مساعدة كبيرة من الاتحاد السوفييتي لمحاربة القوى الغربية التي تحتل تركيا، ولكن في أعقاب الحرب، حوّل كمال نظرته بعيداً عن الشرق، عن روسيا الشيوعية كأراض عثمانية قديمة، في اتجاه الغرب، وتحوّلت اللغة التركية من الكتابة العربية إلى الكتابة الرومانية، وهي قطيعة حاسمة مع الماضي مثل القطيعة مع الخلافة: معظم الأتراك ببساطة لا يمكنهم قراءة تاريخهم المكتوب قبل عام 1929، تمّ تبنّي أسماء عائلة جديدة على النمط الغربي؛ أصبح مصطفى كمال، كمال أتاتورك (أبو الأتراك)، وتمّ حظر الملابس الإسلامية المعتادة، طربوش الرجال وحجاب النساء..، وتمتّعت المرأة بحقوق متساوية في الزواج. وبالمثل، حصل المواطنون الأتراك، رغم المعارضة الشديدة من قبل رجال الدين الساخطين، على الحقّ القانوني في تغيير دينهم.

تراجع العلمانية
عندما توفي أتاتورك في تشرين الثاني (نوفمبر) 1938، بعد 18 شهراً من المرض، ترك وراءه هيكلاً ذا حزب واحد، يشرف عليه حزب الشعب الجمهوري (CHP)، في غضون ثمانية أعوام؛ أفسح هذا الوضعُ الطريق لنظام متعدد الأحزاب، وفي أيار (مايو) 1950، وقع "حدثٌ كبير، لم يسبق له مثيل في تاريخ البلد، أو المنطقة: حزبٌ في السلطة في بلد من بلدان الشرق الأوسط، بعد أن نظم انتخابات حرة ونزيهة حقاً، خسرها في وقت لاحق، فانسحب سلمياً من السلطة، وأفسح المجال للمعارضة.

اقرأ أيضاً: لماذا يخاف أردوغان من باباجان أكثر من داود أوغلو؟

مفارقة تركيا "الممزّقة" تجلّت على الفور تقريباً، فإذا كانت النخبة المتغرّبة والمُغوربة في مستوى مُثلها العليا، ومنحت مزيداً من الحرية للناس، فقد اختارت هذه النخبة قيادة البلاد في اتجاه ديني وغير ليبرالي، وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت الجيش التركي يتدخل فيما أصبح أوّل أربعة انقلابات، عام 1960، مُقصِياً في نهاية المطاف ومنفذاً الإعدام في حقّ رئيس الوزراء عدنان مندريس.
أربكان يؤسّس أوّل حزب إسلامي
أسّس نجم الدين أربكان أوّل حزب إسلامي يدخل البرلمان التركي، عام 1970، وأصبح هذا الحزب في النهاية حزب العدالة والتنمية لأردوغان، تمكّن أربكان من الانضمام إلى الحكومة في السبعينيات في ائتلاف مع اليسار، وفي الفترة القصيرة من تولّيه السلطة بدأ في عملية تسييس الشرطة التركية بعد سيطرته على وزارة الداخلية.

اقرأ أيضاً: هذا ما قاله أردوغان عن الفصل بين الجنسين في الجامعات
انضم أردوغان إلى فرع الشباب في حزب أربكان، عام 1976، الجيش التركي ببساطة لم تكن لديه الموارد اللازمة للتوجه نحو الحركة الإسلامية الناشئة، حتى لو كان يريد ذلك، وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الجيش التركي أعاد تقييم موقفه، وبدأ ينظر إلى الإسلام كعامل تماسكٍ وكحصنٍ ضدّ الفوضى السياسية التي تفاقمت في تركيا.
إقصاء أربكان من السياسة
في أيلول (سبتمبر) 1980؛ عندما استولى المقاتلون الماركسيون على أحياء المدن الكبرى وحاول القوميون المتشددون الردّ وفق ذلك، وجدت تركيا نفسها في حالة حرب شبه أهلية، وهذه المرة، تدخل الجيش بطريقة حاسمة، رغم تضرّر الإسلاميين هذه المرّة من القمع أكثر ممّا تضرّروا، عام 1971، إلا أنّ أربكان، من بين أشياء أخرى، قد أُقصِي من السياسة، كان اليسار هو الأكثر تضرّراً، وقد تمّ إضفاء الطابع المؤسسي على ميلِ الجيش إلى اعتبار الدين كضمانة ضدّ التطرف السياسي.

اقرأ أيضاً: انتقد ديكتاتورية أردوغان .. نعوم تشومسكي يتضامن مع "أكاديميّي السلام"
إنّ وحشية الطغمة العسكرية التي قادها رئيس الأركان العامة، الجنرال كنعان إيفرين، ملأت السجون بمئات الآلاف من السجناء؛ حيث تعرّضوا للتعذيب بانتظام، ودفع الكثيرين منهم إلى المنفى.
كنعان إيفرين منفذ انقلاب 1980

الجيش يُحصِّن الإسلام ضدّ الشيوعية
تمكّن الجيش من استعادة النظام، وكان المتطرفون الذين دفعوا بتركيا إلى حافة الهاوية من بين أولئك الذين تمّ سجنهم وطردهم، غير أنّ الحملة التي قام بها إيفرين ضدّ اليسار، والتي نجحت؛ حيث انكسر اليسار في تركيا، ولم يتعافَ أبداً، وضعتْ الأساسَ للانتصار الإسلامي بعد ذلك، وفاز الإسلاميون بالناخبين من الطبقة العاملة الذين كانوا في السابق موالين لليسار، وقد أدّى حقنُ إفرن للساحة العامة بصيغة قومية من الإسلام لتحصينِه ضدّ الشيوعية، إلى منح القوى السياسية والدينية الأكثر تشدّداً، والمتأثرة بالإخوان المسلمين، المساحة التي كانوا في حاجة إليها حول أربكان.
أردوغان نجم صاعد بعد عودة أربكان
في منتصف الثمانينيات؛ انهار الحظر على أربكان وأشخاص آخرين من السياسيين؛ حيث أصبح هذا الحظر ببساطة غير قابل للتطبيق، كان أردوغان نجماً صاعداً في حركة أربكان في أواخر الثمانينيات، وعام 1994؛ تمّ انتخابه عمدة إسطنبول؛ حيث كان على منتقديه أن يعترفوا بأنّه قام بعمل جيّد، لقد تحسّنت الخدمات، كما تحسّنت ظروف الفقراء تحت قيادة أردوغان، لم يتمّ إلغاء النماذج القديمة من المحسوبية إلا بصعوبة كبيرة، لكنّها بقيت سارية ضمن بعض الحدود، ومع تجزئة اليمين القومي والفساد التامّ في جميع الأحزاب في البرلمان، تمكّن أربكان من شقّ طريقه إلى الوزارة الأولى، في حزيران (يونيو) 1996، ليتمّ طرده من منصبه من قبل الجيش في "انقلاب" بعد مرور عام.
أردوغان ينفصل عن معلّمه أربكان
لقد تعلّم أردوغان درسَه من سقوط أربكان: لقد انفصل عن معلّمه السابق، وقدّم وجهاً أكثر اعتدالاً، هذه المصداقية الديمقراطية الجديدة، مقترنة بالفساد وسوء الإدارة الاقتصادية للأحزاب الرئيسة، سمحت لأردوغان بأن يكون في وضع جيّد في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، وكان المُكوّن الأخير في هذه "العاصفة المثالية" هو الـ 10٪ لدخول البرلمان: إنّ اشمئزاز السكان تجاه الأحزاب الكبيرة جعل معظمَها تسقط إلى ما دون العتبة، ودخل حزب العدالة والتنمية البرلمان بأغلبية فائقة مع ثلث الأصوات فقط.
تركيا تحت قيادة حزب العدالة والتنمية
في أعوامه الأولى في السلطة، انتهج حزب العدالة والتنمية سياسات كانت تحظى بشعبية كبيرة لدى الناخبين الأتراك، وعلى أيّ تدبير موضوعي وإيجابي، لقد تمّ تدمير جزء كبير من الهندسة المعمارية التي وضعها المجلس العسكري، عام 1980؛ تم تخفيف القوانين العلمانية الفائقة التقييدية، وفي أقل من عشرة أعوام، تضاعف حجم الاقتصاد التركي ثلاث مرات، وانتقل من الدولة الطرفية إلى قوة إقليمية.

اقرأ أيضاً: استطلاع: القاعدة الشعبية لحزب أردوغان تراجعت من 38% إلى 27%
في الوقت نفسه؛ لوحظت اتجاهات سلبية، فبينما هَزم أردوغان نسخة الاستبداد التي وضعها الجيش، فقد فعل الشيء نفسه جزئياً مع حلفائه في حركة غولن، الذين كانوا يديرون العدالة والشرطة الوطنية، وهي مهمة مقاضاة النخبة الكمالية وتفكيكها في اثنين من المحاكمات الجماعية: محاكمة إرغينكون "Ergenekon"(1)، ومحاكمة بليوز "Balyoz"(2)، (Sledgehammer)، استناداً إلى أدلة ملفّقة بشكل واضح والتي كانت غير متناسقة داخلياً.

تآكل الحرية في ظلّ أردوغان 
بعد أن تشاجر أردوغان مع حركة فتح الله غولن، عام 2013، وقرّر تطهيرهم من البيروقراطية، وأكثر من ذلك بعد محاولة الانقلاب التي قام بها الغولنيّون، عام 2016، ازدادت الحرية تآكلاً في تركيا، بما في ذلك سلطة قضائية لا يمكن لأيّ مراقب محايد أن يصفها بأنها مستقلة، ووسائط إعلامية تكاد تكون كاملة في أيدي الحكومة والموالين لها.

اقرأ أيضاً: أردوغان والإخوان: مَنْ يستخدم مَنْ؟
مع كثرة ما ألحقه أردوغان من أضرار مؤسسية بالحكومة التركية، فمن الصعب أن نتخيل كيف يمكن لرئيس جديد أن يعالجها، الأمر الأكثر صعوبة هو التراجع عن التغييرات المجتمعية التي نفذتها حكومته الإسلامية، والتي اعتنقت الأفكار المتطرفة التي شكّلت أردوغان.
فتح الله غولن

أربكان يُلهِم بن لادن وأردوغان
ظلّ أربكان يمثل تأثيراً رئيساً على أردوغان؛ لقد رأى زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، المتطرف الإسلامي الذي انضم أوّلاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، في أربكان، مصدرَ إلهام، وقام بأوّل رحلة إلى تركيا لأجلِ أربكان ومن السهل أن نفهم الأسباب: رؤية أربكان للعالم، ورفض الإسلام التركي التقليدي، والتي تأثرت بقوة بتيارات العالم العربي، بما في ذلك المذاهب التي طرحها سيد قطب، أيديولوجي الإخوان المسلمين، الذين أصبحوا يشكلون في وقت لاحق أعمدة الحركة الجهادية.

اقرأ أيضاً: الأحزاب السياسية الجديدة في تركيا تزيد التحدي أمام أردوغان
هذه الرؤية في جوهرها معادية للغرب، وتعدّ أوروبا وأمريكا دولاً غنية مادياً، وعقيمة روحياً، وهذه الرؤية أيضاً نظرة عالمية تتضمن نظريات المؤامرة ومعاداة السامية قبل كلّ شيء، لقد ربط أربكان بين الرغبة الواضحة لليهود للسيطرة على العالم بنظريات المؤامرة التقليدية، في الواقع، بكلّ نظريات المؤامرة التقليدية، حول مجموعة بيلدربيرج، واللجنة الثلاثية، والبقية.

قيصاكورك يصنع فكر أردوغان
يعدّ نسيب فاضل قيصاكورك (3)، الشاعر والكاتب الذي تعدّ أيديولوجيته تركية أكثر منها أربكانية، أكثر أهمية في فكر أردوغان، لقد رفض قيصاكورك معاداة الصوفية المستوحاة من سيد قطب وأبو العلا المودودي، لقد ظنّ أنّ هذا العداء قد أعماهم عن المعاني الداخلية العميقة للإسلام، كما تنبّأ به أشخاص، أمثال الغزالي في العصور الوسطى، رغم أنّ هذا قد جعل قيصاكورك أكثر "اعتدالاً"، إلّا أنّ رؤية قيصاكورك، التي تأثرت بشكل مباشر بالفاشية الأوروبية والبلشفية، كانت رؤية شمولية تماماً: لقد احتقر الديمقراطية، وأراد قمع جميع أشكال التنوع، ولم يؤمن بحياة خاصة للمسلمين.

قيصاكورك الشاعر والكاتب التركي الذي تأثر بفكره أردوغان
كان قيصاكورك عنصرياً، بالمعنى المناقض لأربكان الذي لم يكن عنصرياً، وكانت معاداة السامية عند قيصاكورك أكثر قوة وتأثيراً: لم يؤمن قيصاكورك بنظريات المؤامرة، التي لم تكن تخيفه كما تخيف أربكان، بدلاً من ذلك؛ قام قيصاكورك بدمج اليهود في تاريخه القومي والعرقي للخيانة الأبدية، بدءاً بالمسؤولية اليهودية في انهيار الإمبراطورية العثمانية، دعا قيصاكورك إلى التطهير العرقي المباشر لليهود في تركيا، ومع ذلك؛ كان قيصاكورك، رغم تعصّبه، براغماتياً: فقد سعى لأن يأخذ من الغرب ما هو مفيد وعملي، مثل التكنولوجيا، وحتى الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب، بينما كانت الدول الإسلامية ضعيفة، ولم تصبح عدائية علانية إلا عندما انتصرت الثورة الإسلامية.

اقرأ أيضاً: أردوغان في المنعطفات الصعبة

واصل أردوغان حضور فعاليات وأحداث على شرف قيصاكورك، وقد شهد مراراً وتكراراً على التأثير الذي كان لـ "السيد" على فهمِه للعالم، إن إعادة هيكلة الحكومة التركية، وإنشاء رئاسة تنفيذية، وإلغاء استقلالية المحاكم، مستوحاة من رؤية قيصاكورك للمجتمع المثالي، وبالمثل؛ يرى أردوغان أنّ تربية "جيل تقي"، والوعظ في القضايا الاجتماعية والأخلاقية، جزء من دوره: أراد قيصاكورك زعيماً بارزاً يكون أيضاً دليلاً أخلاقياً، وما دام لا توجد خصوصية، فكلّ شيء يخضع للدولة.

تركيا تؤوي إخوان مصر 
ذهب دمجُ أفكار أربكان ونجيب فاضل قيصاكورك أبعد من الإسلاميين في تركيا، وقد أصبحت معاداة السامية ونظريات المؤامرة الآن دعامةً للمعارضة العلمانية، التي تستبدل أدوار مختلف الفاعلين في أدبيات الإسلاميين لتلبية احتياجاتها الخاصة، وغالباً ما تجد نفسها في الموقف نفسه، متهمة اليهود، هذه ليست مشكلة بالنسبة إلى تركيا؛ فمنذ ظهور السلاجقة، كان الأتراك قوة مهيمنة في العالم الإسلامي، وفي الوقت الحالي؛ هناك قضية بارزة، وهي مصر: بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين في السلطة، عام 2013، فرّ الكثير من الإسلاميين إلى تركيا؛ حيث سُمِح لهم بنشر أفكارهم المتطرفة، والتحريض ضدّ الحكومة الجديدة.

سيطرة أردوغان على الدولة مارست ضغوطاً لفرض قرار المجلس الانتخابي الأعلى (YSK)

حملة أردوغان في آسيا الوسطى السوفييتية
ومن الحالات التي تمّ التقليل من شأنها حالة آسيا الوسطى السوفييتية السابقة والقوقاز؛ حيث شرعت حكومة حزب العدالة والتنمية في حملة ضخمة لرفع الوعي ونشر الإسلاموية، من خلال توفير الأدب والتربية الدينِيَّيْن، رغم أنّ هذه المجتمعات المسلمة تركيةٌ عرقيّاً، فلأسباب دينية؛ أقامت أنقرة علاقاتها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.

اقرأ أيضاً: أردوغان و"العثمانية الجديدة".. كيف أخفق المشروع التركي في الإقليم؟
واجهت أنقرة بعض الصعوبات؛ لأنّ الشيوعيين دمّروا البنية التحتية الدينية تماماً، إن لم يكونوا قد حوّلوا هذه المجتمعات إلى دول علمانية، لكنّ جهود أنقرة لم تفشل تماماً، والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أنّ معظم هذا التوسع قام به الغولنيون (نسبة إلى فتح الله غولن) قبل الانفصال عن حزب العدالة والتنمية، لقد ضغطت تركيا على هذه الدول لإغلاق المدارس، وغيرها من المؤسسات ذات الصلة بالغولنيّين، التي تم فتحها تحت رعاية هذا التوسّع، ولكن في تركمانستان، على سبيل المثال، كان القمع المناهض للغولنيين على خلفية اتهامات باستخدام هذه المدارس لتدريب النخبة والتسلل إلى الحكومة.
وإلى الشرق؛ وجد الأويغور في شينغيانغ، الذين واجهوا قمعاً هائلاً من جانب الحكومة الصينية، محامياً في أردوغان، ومع ذلك؛ فإنّ الحكومة التركية لم تميّز بين الأبرياء المضطهدين والمتطرفين؛ فقد تمكّن الجهاديون الأويغوريون من الانتقال بانتظام من الصين إلى سوريا عبر تركيا.

نهاية أردوغان؟
خسر مرشّح حزب العدالة والتنمية، بينالي يلدريم، الانتخابات المحلية لمنصب عمدة إسطنبول، في آذار (مارس) 2019، ضدّ مرشّح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، لكنّ المجلس الانتخابي الأعلى في تركيا (YSK) ألغى التصويت بسبعة أصوات ضدّ أربعة، وأمر بإجراء الانتخابات مرة أخرى، ليس هناك شكّ في أنّ سيطرة أردوغان على الدولة مارست ضغوطاً لفرض قرار المجلس الانتخابي الأعلى (YSK).
ندّد زعيمٌ في حزب الشعب الجمهوري بالحُكم باعتباره "مجرد ديكتاتورية"، كان، في الواقع، هجوماً جريئاً غير عادي على النظام الديمقراطي التركي.

اقرأ أيضاً: لأهداف إيديولوجية واقتصادية، أردوغان يزيد من تدخله في ليبيا
لم تعد سلطة أردوغان تخضع لكثير من المراقبة، لكن شكلاً من المسؤولية استمر في نظام تركيا "الاستبدادي التنافسي" ألا وهي الانتخابات.
إنّ رواية أردوغان حول صعوده إلى السلطة، كصوت للأغلبية الصامتة والمحرومة من الأتراك الأتقياء ضدّ الهيمنة الأتاتوركية، تستند إلى الشرعية الانتخابية، رغم أنّ الأصوات أصبحت أكثر فأكثر ظلماً، وأنّ قواعد اللعبة تميل أكثر فأكثر قسوةً ضدّ المعارضة، فقد أجبِر أردوغان على تزوير الانتخابات أو إلغائها.

أكرم إمام أوغلو الفائز في انتخابات بلدية إسطنبول

"إذا خسرنا إسطنبول، فقدنا تركيا"
كانت الأحداث في إسطنبول، إذاً، جديدة وغير مسبوقة، إنّ السبب الذي جعل أردوغان معرّضاً لفقدان أهم دعامة لشرعيته، بسبب هذا التزوير الصارخ المعادي للديمقراطية في إسطنبول، قد شرحه هذا الرجل نفسه؛ إذ قال أردوغان: "إذا خسرنا إسطنبول، فقدنا تركيا"، إنها ليست فقط، مسألة هيبة وسلطة سياسية، توفّر إسطنبول كمًّاً هائلاً من السيولة المالية لتشغيل حزب العدالة والتنمية، وتدار المدينة من قبل شبكة من رجال الأعمال المؤيدين لحزب العدالة والتنمية، يعملون جنباً إلى جنب مع مسؤولي الدولة لتوفير فرص عمل وخدمات من خلال مشاريع البناء والبنية التحتية، مما يزيد من شعبية حزب العدالة والتنمية، ويجعل رجال الأعمال وحزب العدالة والتنمية أغنياء.
ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية
لذلك؛ فهي ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية الذي خسر مرة أخرى انتخابات إسطنبول، وخسرها بهامش حاسم (حوالي عشر نقاط مئوية)، رغم أهمية إسطنبول بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، كان من الممكن أن يحاول أردوغان الحفاظ على مسافة أكبر، لكنّه أعطى كلّ شيء ولم يُقدّم له هذا أيّ خير، حتى فاتح، حيّ المحافظين المتطرفين في إسطنبول، صوّت لصالح حزب الشعب الجمهوري، للمرة الأولى.

اقرأ أيضاً: أردوغان يقرر الانتقام من الديمقراطية بعد إسطنبول!
كما كانت هناك علامات أخرى منذ الانتخابات تشير إلى أنّ حزب العدالة والتنمية يتراجع، ومن الواضح أنّ المعارضة قد تلقت التشجيع.
يبقى السؤال مفتوحاً حول إلى أيّ مدى يمكن إرجاء أردوغان؛ فهو والموالون له ظلوا يسيطرون على زمام الأمور داخل الدولة وخارجها، والتي يمكن استخدامها لتقويض إمام أوغلو، بغضّ النظر عن البعد السياسي للمعارضة، سوف يستغرق الأمر المزيد من الوقت لإصلاح الضرر الأيديولوجي الذي حدث في تركيا، وفي أماكن أخرى.


المصدر: eeradicalization.com/fr/

الهوامش:

(1) إرغينكون  :Ergenekon منظمة سرية تاريخها طويل تعود جذوره إلى القرن الماضي، أمّا عن تاريخ التأسيس الحقيقي للحركة؛ فهو في عام 1999 كمنظمة سرية، وأهم أهدافها هو "المحافظة" على تركيا كدولة علمانية وعسكرية وقوية كما كانت في عهد كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة بعد حملة من المداهمات في حي عمرانية في إسطنبول.
(2) المطرقة ، بالتركية: Balyoz  خطة انقلاب عسكري مزعومة لجماعات علمانية في الجيش التركي قيل إنّ التخطيط له بدأ في 2003 .

(3) نجيب فاضل قيصاكورك (1904 - 1983): شاعر وكاتب ومفكِّر تركيّ وإسلاميّ، وُلد في إسطنبول لأسرة غنية، عمل والده في عدة مناصب قانونية في الدولة، وكان قاضياً في منطقة كاديكوي في إسطنبول، أما أمّه فكانت مهاجرة من جزيرة كريت، واعتنى به جدّه حلمي أفندي، والذي كان رئيس محكمة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، تأثر نجيب بجدّه وتعلّم منه، فعلّمه القراءة والكتابة والقرآن الكريم وهو في سنّ الخامسة، وعام 1912 سجّله جده في مدرسة فرنسية، وبعد فترة قصيرة انتقل إلى المعهد الأمريكي، معهد روبرت، وهو من أرقى المؤسسات التعليمية في إسطنبول في ذلك الحين.
وانتهى المطاف بالولد المدلل إلى مدرسة تركية تدعى مدرسة أمين أفندي، وعام 1916، التحق نجيب بمدرسة الفنون البحرية الشاهانية، وكانت هذه الفترة مميزة في حياته؛ حيث بدأت توجهاته تتضح ومواهبه تتفتق، واكتسب لقب "الشاعر" أثناء دراسته في هذه المدرسة، كما أصدر فيها عدداً من المجلات التي كان يخطّها بيده مثل مجلة الفسيلة ومقالات الطالب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية