الأسماء "القرآنية" ومنسوب التدين اللاواعي للمجتمعات الإسلامية

الأسماء "القرآنية" ومنسوب التدين اللاواعي للمجتمعات الإسلامية

الأسماء "القرآنية" ومنسوب التدين اللاواعي للمجتمعات الإسلامية


11/10/2023

"نبأ" "متاب" "ترتيل" "تنزيل".. بكل تأكيد، أنّ الاسم هو ما دل على مسمى. وبإزاء ما يدل عليه ظاهر اختيار هذه الأسماء "القرآنية" من دلالة، تبدو هناك صلة واضحة لمن يُسمُّون أبناءهم وبناتهم بهذه الأسماء وغيرها من الأسماء بما يعكس إرادة المعنى الديني فيها. وإذا ما بدا واضحاً: أنّ سياق هذه التسميات تزامن في المجتمعات العربية، خلال السنوات الماضية، مع بروز ما سمي بـ"الصحوة الإسلامية" فإنّ الدلالة الأكبر لمثل هذه الأسماء لا يتصور البحث عنها فيما تدل عليه من معانٍ، بحسب تقديرنا؛ بل فيما تدل عليه من سياق تحوّل اجتماعي أحدثته تلك "الصحوة الإسلامية" التي طرأت على مجتمعات المنطقة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي.        

 

فكرة الأسماء "القرآنية"، لوهلة أولى، قد تحيل إلى ظاهرة التأسي بنموذج سابق لأسماء المسلمين الأوائل، دون أن تكون (كما هي في حقيقتها) تعبير عن ميل لا واعٍ من مجتمعات المسلمين لِلّواذ بأسماء من القرآن على سبيل "التدين"! فتلك الأسماء، وهي في أغلبها أعلام ونعوت لغوية، قد لا تدل في ذاتها على معنى دال في سياق فلسفة الأسماء سوى ورودها في النص القرآني، وبحيث يبدو هذا الورود بذاته كافياً، في ذهن من يسمون أبناءهم وبناتهم بتلك الأسماء، لصلة تعكس علامة "الالتزام" الإسلاموي!

دائماً، ما تعكس أسماء الأعلام هويّة المجتمعات التي تعيش فيها؛ فإذا ما افترضنا ذلك، وفقاً لهذه الحقيقة الاجتماعية، فهذا سيعني، بالضرورة، أنّ المجتمع المثالي للمسلمين وهو المجتمع الإسلامي الأول، مجتمع النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الذين يفترض أن يكونوا هم، أولاً، من تسموا بتلك الأسماء. لكن الواقع  أنّ مجتمع المسلمين الأوائل (وكذلك أجيال المسلمين التي تلته على مر التاريخ) كان خلواً من تلك الأسماء التي نراها شائعة في المزاج "الصحوي" للمسلمين المعاصرين. بل ربما كان من الأهمية بمكان أن نذكر أنه لم يكن هناك فرق في الأسماء بين المسلمين والكافرين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن دلالات الأسماء كانت واضحة. ولم يكن من مقتضى الدخول في الإسلام  تغيير الأسماء؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان أحياناً يطلب إلى بعض أصحابه تغيير أسمائهم لما في مضمونها من المعاني القاسية كالصحابي الذي كان اسمه "حزن" فسمّاه الرسول "سهل"، فرفض الأخير تغيير اسمه فأقرّه الرسول على اسمه كما هو، ما دل على أنّ الأمر كان مجرد اقتراح من النبي، صلى الله عليه وسلم. 

التجربة التاريخية لمجتمعات المسلمين، في ظروف خاصة، دلّت على وجود أسماء إسلامية كان مبررها الوحيد: إعلان الاختلاف     

التجربة التاريخية لمجتمعات المسلمين، في ظروف خاصة، دلّت على وجود أسماء إسلامية كان مبررها الوحيد: إعلان الاختلاف. لكن تلك المجتمعات التي استخدمت أسماءها الإسلامية للتعبير عن اختلافها تبرز فيها حقيقتان؛ الأولى أنها مجتمعات غير عربية، والثانية أنّها تنتمي لعرق واحد مع اختلاف الدين فتكون وظيفة الأسماء الإسلامية هنا؛ لإعلان الاختلاف والتعبير عن الهوية المنشقة. وهذا ما نلاحظه مثلاً في أسماء الهنود المسلمين الباكستانيين الذين تحمل أغلب أسمائهم طابعاً دينياً كـ "قلب الدين" "ظفر الإسلام" تمييزاً لهم عن أسماء الهندوس. وهو كذلك ما يمكن ملاحظته لدى طائفة "الجبرتة" في إرتريا الذين يجمعهم مع مسيحيي إرتريا قومية واحدة "التقرينيا"، ولهذا غالباً ما يتسمّون بأسماء إسلامية تمييزاً لهم عن "التقرينية" لاسيما في أسماء البنات اللواتي يتسمين بأسماء من قبيل "مكة" "مدينة" "زمزم" ويبدو أن هذه ظاهرة مطردة في مجتمعات المسلمين غير العربية التي تتشارك عرقاً وتختلف ديناً.

هكذا، بالعودة إلى الأسماء "القرآنية" في المجتمعات العربية المعاصرة لا نكاد نجد معنى مبرراً لتلك الأسماء؛ أي لا نجد وعياً اجتماعياً بمعناها الدالّ عليها كاسم يدل على مسمّى. ما يعني أن هناك إحساساً مبهماً وغير واعٍ  في تلك التسميات التي تعبر عن أسماء "قرآنية". ولا شك أنّ الحقل الدلالي للرموز هنا يشتغل على كشف معانٍ أخرى خفية وراء ظاهرة الأسماء "القرآنية". ومن ضمن هذه المعاني؛ وهم التميّز عن الآخرين، والتعبير أكثر عن إحساس متدين. لكن أعمق ما يعبر عنه ذلك الميل للأسماء "القرآنية" هو الانكشاف والفراغ الذي يؤكد خلو مجتمعات المسلمين من المعنى؛ فحتى في أكثر المجتمعات بدائية هناك وعي بدلالة الأسماء على مسمياتها، سواء أكانت من البيئة أو من الأحداث أو من طبيعة الحياة.

سيسيولوجيا الأسماء القرآنية يعكس قلقاً واضحاً في ارتفاع منسوب التدين اللاواعي لتلك المجتمعات

وإذا كانت الحقب التي تبدلت فيها الأسماء في المجتمعات العربية، سابقاً، دالة بوضوح عن المعاني المراد منها؛ كتبديل الأسماء التقليدية بالأسماء الحديثة، أو الأسماء البدوية بالأسماء المدنية؛ أو أسماء أبناء الطبقات الدنيا بأسماء أبناء الطبقات الراقية؛ فإن مناخ سيسيولوجيا الأسماء "القرآنية" يعكس قلقاً واضحاً في ارتفاع منسوب التدين اللاواعي لتلك المجتمعات، حيال استخدام أسماء دون إدراك حتى لمسمياتها؛ فالشرط الشارط هنا لإطلاق اسم "نبأ"، مثلاً، ليس بسبب تمثل لمعناه؛ أي الخبر، بل هو، فقط، لوروده في القرآن الكريم. وهذا في تقديرنا فعل موازٍ لمهمة "الدعوة" داخل مجتمعات المسلمين؛ أي إعادة تعريف المسلمين بـ"إسلام" الإسلامويين، الذي هو محض انشقاق تأويلي خطير ومدمر لنسيج المجتمعات الإسلامية، على نحو ما دلت تجارب الإسلام السياسي.

ولأن منعكسات فعل التدين الأيديولوجي تتشابه، لاسيما حين يستوي في تمثيل جماعي ويتمثل في ظاهرة؛ يمكننا أن نقارن ظاهرة سيسيولوجيا الأسماء "القرآنية" بظاهرة أخرى، لفتت انتباهي حين كنت في القاهرة، وهي: وضع موجات الراديو على محطات تلاوة القرآن الكريم، في المحلات التجارية، وأكشاك البيع، والمقاهي الشعبية وحافلات النقل، بطريقة لا تعكس إلا ذلك التدين الموسوس واللاوعي.

ذلك أن مجرد ملاحظة بديهية، أكد عليها القرآن ذاته، وهي الإنصات والاستماع له حين تتم تلاوته، لا تكاد تهم أحداً -ممن تحاول عبثاً تذكيرهم ــ من الذين يشغلون تلاوات القرآن بأصوات عالية على موجات الراديو، فيما هم يدركون جيداً، أنّ تلك المحلات والمقاهي والحافلات والأسواق، هي بطبيعتها أمكنة للضجيج والأصوات التي تشوش حتى على من أراد الاستماع!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية