الخط الفاصل بين التجارة مع الله والتجارة باسمه

الخط الفاصل بين التجارة مع الله والتجارة باسمه


04/11/2020

يرفع بعض المؤمنين شعار: "التجارة مع الله أربح التجارات"، لكن أين يقع الخط الفاصل، بين التجارة مع الله والتجارة بمسمّاه؟

في زمن الفضاءات المفتوحة المعولمة، يتحتم على المؤمن العصري إثبات ولائه لمحيطه الكوني، واستيعاب التعددية الثقافية الرحيبة، باختلافاتها المتشعبة، والمساهمة بدينه في إطار حداثي إنساني جذاب، وخالٍ من شبهة الإقصاء، يكون صالحاً للتصدير والاستهلاك.

يجري إعادة تنميط المؤمن، بشكل يلزمه أن يكون منتجاً وطموحاً وثرياً؛ يجمع ما بين قوة المال وقوة الإيمان، وهو ما وصفه "باتريك هايني" في كتابه: "إسلام السوق" بــ "برجزة الدين"، وعليه كان لابد من إعادة مأسسته بإطار علماني، متنوع خاضع لأحدث نظم الإدارة والتسويق، بالتوازي مع العمل على تفتيت السلطة الدينية، المركزية القديمة، وإجبارها على كسر قاعدة الاحتكار وتقاسم التركة الدينية معها، والانتماء إليها بشكل انتقائي.

في كتاباته المبكرة قال ماركس:"الدين أفيون الشعوب"، تلك العبارة بات الخطاب الديني البرجوازي يتمثلها بقوة؛ بتفوقه على خصمه السلفي المتشدد، من خلال تبنّي خطاب عاطفي، ناعم وسلس، في لغته وصياغته، يدغدغ المشاعر ويخدرها استعداداً لزرع أي فكرة، وتوجيه النفس بالتماس مواطن الضعف فيها، والحنو عليها، والعمل على تحرير رغباتها المكبوتة بشكل شرعي.

ما بين السلفنة والتغريب؛ أصبحت الثقافة الشعبية بما تتضمنه من ممارسات وأفكار، عبارة عن هجين مشوه ومتناقض

استهدف هذا الخطاب الطبقة الثرية التي يعاني أفرادها من الصراع النفسي الداخلي، الذي يؤرجحها ما بين الخوف من الآخرة، والرغبة في التمتع بمباهج الحياة الدنيوية، واستهدف المرأة التي دائماً ما يعنونها الخطاب السلفي بـ"نقص العقل والدين"، ويُحّملها كل خطايا البشرية، ثم الفئات العمرية من المراهقين والشباب، الذين لا تزال عقولهم في طور التكوين؛ وهو ما يسهل عملية تطويعها بتغذية تصوراتهم الدنيوية عن ذواتهم، وتزيين تحقيق المجد الشخصي، والاستمتاع بمحصلاته.

كما عمّد هذا الخطاب إلى النأي بنفسه عن معارضة السلطة السياسية، وجدل قضايا العدالة الاجتماعية، ولم يشأ التعمق في الفقه والعلوم الشرعية، ولا أدلجة فكره؛ لأنه على هذا النحو، يمكنه الحفاظ على الوجه الخارجي البراق للدين، دون التوغل في تناقضاته الداخلية، القلقة، التي لم ينجح في حسمها رجال الدين الكلاسيكيين.

وعلى إثره تغير إطار الدين دون محتواه، بواسطة "الدُعَاة الجدد؛ رجالاً ونساء"، الذين استثاروا حفيظة التيار السلفي، وكانوا مَدعاة لاشتداد موجة جديدة من الصحوة الإسلامية، كـ"ميكانزم" دفاعي، للحفاظ على الهوية الإسلاميه من الاستلاب الغربي الممنهج، بحسب وجهة نظرهم.

وما بين السلفنة والتغريب؛ أصبحت الثقافة الشعبية بما تتضمنه من ممارسات وأفكار، عبارة عن هجين مشوه ومتناقض. فلا عجب أن نجد فتاة مسلمة جامعية على الطراز التديني الجديد، وتتمتع بكافة مظاهر الثراء الاجتماعي، ولكنها مثلاً تدافع عن قدرة بول البعير على الشفاء.

وبفعل الخطاب الديني البرجوازي تغيرت العديد من أنماط التفكير والسلوك الفردي وتمظهراته؛ لعلّ أبرزها، ظهور موجة جديدة من الفنانات المعتزلات، والمذيعات المحجبات وغيرهن من النساء الأكاديميات اللاتي يعملن بالحقل الفقهي على شاشات التلفاز الفضائية، وهنّ في كامل زينتهن، ليشهد مظهرهن على عصرنة الإسلام، وعد ذلك نصرة للدين، وبشكل ضمني سوقنّ لأشهر العلامات التجارية، في عالم الموضة الخاصة بالأزياء وأدوات التجميل.

في عملية تسويق الدين وعصرنته، أصبح كل شيء مباحاً، ما دام مستنداً على محتوى ديني ويسهل التحكم فيه

ومن شاشات التلفاز، انتشر الحجاب بهيئته الجديدة بين فتيات الطبقة الوسطى والدنيا، في الجامعات والمدارس، وأصبح على المسلمة أن ترتدي حجاباً عصرياً، وفق أحدث معايير الموضة، وهو ما استطاع السوق أن يستوعبه بذكاء، ويعطيه مزيداً من الوجود والألفة، وظهرت برامج وأبواب صحفية تحت اسم (حجاب فاشون)، لإمداد المرأة المسلمة، بأحدث صيحات ربطات الحجاب.

وفي عملية تسويق الدين وعصرنته، أصبح كل شيء مباحاً، ما دام مستنداً على محتوى ديني ويسهل التحكم فيه؛ فمثلاً: نجد شركات مستحضرات التجميل تبتكر مستحضرات مخصصة للمحجبات، لمواجهة القائلين بأضرار الحجاب على صحة الشعر، كما أنتجت "الوشم" و"التاتو" وطلاء الأظافر الإسلامي، الذي يسهل وضعه وإزالته عند الصلاة.

كما نجد أنّ الخطاب الديني البرجوازي أباح الاحتفال بالمواسم والأعياد الدخيلة، ليس من باب الانفتاح على الآخر، وإنما لأن عوائدها المادية تعود إلى مموليه، من خلال تدوير رأس المال في مواد درامية وإعلامية ومدن ترفيهية ومولات تجارية، ويكفي مثلاً أن يصبح عيد الحب ” Valentine day “، ضمن العادات الشعبية، التي يتحتم فيها على المرتبطين عاطفياً، تبادل الهدايا والتنزه.

فيما يمكن توصيفه بـ"توثين الديني"، لو استعرنا تعبير أولفيه روا في كتابه: "الجهل المقدس"؛ أي استهلاك منتج ديني دون الحاجة إلى معرفة الثقافة التي أنتجته، أو خلط معلم ديني، بمظهر ثقافي دخيل دونما اكتراث بالمدلول الديني؛ وهو ما تجسده أيضاً السهرات الرمضانية، وممارسة الرياضات الروحانية المستوردة مثل "اليوغا" في إطارها المؤسلم.

وبفضل الربيع العربي، في نسخته المصرية، أُعيد رسم خريطة السلطة البطريركية، بكافة تمثلاتها السياسية والدينية والاجتماعية .

فلم يعد الديني رهين مؤسساته وأشكال توزيعه التقليدية، وامتدت الموجة الثورية، لكل ما هو مقدس، وأخضعته للتفكيك والفحص دون مواربة أو تكييف، في فضاء معرفي مشتت، وغالباً عشوائي .

وساهمت الثورة التكنولوجية بواسطة تقنيات التصوير والتسجيل بالهواتف المحمولة، في اتساع مساحات الحرية الفردية؛ إذ أصبح لدى كل شخص فرصة جمع آلاف المتابعين على صفحته الشخصية بمنصات التواصل الاجتماعي.

وبأقل التكاليف يمكنه بث فيديوهات حية مباشرة، يتحدث فيها عن رؤيته الإيمانية أو الإلحادية، بصرف النظر عن حصيلته اللغوية والبحثية، ليتحول إلى نجم (Social Media)، وكلما زاد عدد متابعيه، زادت الإعلانات الممولة.

   وفي السياق ذاته اجتذب الفضاء الافتراضي الجديد بعض المسلمات، اللاتي اعتقدن بصلاحية الخطاب الدعوي البرجوازي، وأردن إحياءه حتى ولو بتقديم محتوى ثقافي، وبداخله الدين، بشكل مبطن وضمني، معتمدات على سمت ديني تتسم به وجوههن عبر إيماءاتهن، ومهاراتهن في الحوار.

وعلى موقع " Instagram "، ظهرت المحجبات "الموديلز"، أو اللاتي يُلقبنّ بـــ "فاشونيستا"، في إطار استعراضي، لترويج أشهر العلامات التجارية، الخاصة بعالم الرفاهية، واستديوهات التصوير.

لم يعد الديني رهين مؤسساته وأشكال توزيعه التقليدية، وامتدت الموجة الثورية، لكل ما هو مقدس، وأخضعته للتفكيك والفحص دون مواربة

وفي هذا المضمار سقط السند الاقتصادي الذي أُقيم وتمنطق عليه الشعار السلفي "يستمر الغلاء ما لم تتحجب النساء"؛ إذ نجد بعض المنتقبات يُروجنّ لفكرة ارتداء النقاب، بشكل عصري وجذاب يعكس الثراء المادي، بوقوفهن أمام عدسات التصوير في مشاهد تُبرز جمال أجسادهن وعيونهن "المُمّكيجة"، من خلف النقاب في مشهد يناقض المفهوم الديني الكلي الذي ينتمين إليه .

وعبر تطبيقات المحادثات المجانية بتنوعها، تلاحقك الدروس الدينية المسجلة، بصوت أنثوي منغم ورقيق يغويك بحب العبادة، أو صوت ذكوري جهوري يغريك بحِسبة الحسنات، مختتماً مقطعه الصوتي بجملة تسويقية بحتة ومباشرة :"لا تتردد وكن تاجراً فطناً، وأبدأ مباشرة بعد نهاية المقطع"، وعلى متاجر التطبيقات الهاتفية، سنجد عديد التطبيقات الممولة، والمعنية بتعليم الفقه والعلوم الشرعية، التي ساهمت في تفتيت سلطة الدين المركزية .

في هذا السوق الديني، بمعناه المجازي، تحول الدين إلى موضوع وعلاقة مُشيئة، على الهاتف أو الحاسوب، يستقر المصحف الإلكتروني، بجانب تطبيقات عديدة، ربما تحوي لعبة للتسلية أو أفلام أخرى، داخل حيز يزاحم الدنيوي المقدس، خارج سلطة المتعالي والمطلق، بتقاسمهم نفس الوسيط؛ حيث تجرد المفارق من قدسيته المطلقة، وتدنى بكثافة إلى مستوى التقييم البشري، ونسبية الذوق وجمالياته وأحقية انتقاده.

وبعيداً عن هذا العالم البرّاق، وخلف باحة أحد المساجد الكبرى، في مشهد يختلط فيه الرمز الديني بالهوياتي، والتقني الحداثي؛ تبيع إحداهن التمائم والخرز الأزرق، والكف المعروفة شعبياً بـ"خمسة وخميسة"، ومكتوباً عليها بعض الأذكار، وقصار السور، مثل: المعوذتين والإخلاص، بالإضافة إلى المصاحف والسبح وسجاد الصلاة، وخاتم التسبيح الرقمي.

وحين سئلت البائعة الستينية، عن إيمانها بالتمائم والخرزة الزرقاء، أجابت بأنها "مجرد سلع تجارية تبيعها بغية الرزق ويشتريها الناس بهدف الزينة". إذاً، هنا نحن أمام رمز ديني، فقد مدلوله وأصبح مجرد سلعة، ولكن ما يزال يجري التعبير، عنها بشكل مهجن يفتقد الإدراك.

ولئن تجردت الخرزة الزرقاء والتميمة من مدلولها الديني، عبر الزمن، فقد حان الوقت أن يعترف الفاعلون الاجتماعيون بنسبية فهم الدين، كمكون ثقافي بشري متغير بدلاً من التحايل عليه، وتعزية النفس بالعبارة الشهيرة "أحب الصالحين ولست منهم".

الصفحة الرئيسية