التفكير الفقهي ومشكلاته

التفكير الفقهي ومشكلاته


24/06/2018

د. رضوان السيد

يشغل الأوساط العلمية العربية هذه الأيام كتاب وائل حلاّق الجديد، «الشريعة»، الصادر بالإنجليزية عام 2009، وبالعربية مؤخراً. وكان كتابه الآخر «الدولة المستحيلة» (2013) قد شغلنا بنفس القدر. وقد أعلنت دار نشر جامعة كولومبيا عن كتابه الثالث «عن الاستشراق» الذي يصدر بعد أسابيع قليلة.

وبالطبع لا يمكن اعتبار هذه الكلمة عن كتاب حلاّق مراجعةً له، بل مجرد تنبيه وفتح لباب النقاش. وبخاصة أنّ كتب حلاّق الأخيرة (وهو أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا) أثارت سخط الحداثيين والإسلاميين معاً. بدأ حلاّق منذ الثمانينيات عمله حول التفكير الفقهي في الإسلام. وبدت أعماله وقتها في صورة مقالات تنقد أُطروحتي غولدزيهر وشاخت، السائدتين في الاستشراق لأكثر من قرنٍ. لكنّ هذا النقد ما تناول فقط الأُطروحات عند المستشرقين، بل وطروحات الإصلاحيين المسلمين، مثل إقفال باب الاجتهاد، ودور الشافعي في تأسيس الأصول، وطرائق الفقهاء في العمل، وتكوّن المذاهب الفقهية. وإلى تلك المرحلة يعود عمله حول «الرد على المنطقيين» لابن تيمية والذي ترجمه إلى الإنجليزية وكتب له دراسةً تقديمية.

إنّ تلك المقدمات النقدية، ما لبثت أن تحولت بعد التسعينيات إلى أطروحةٍ شاملةٍ تتناول ظهور النظام التشريعي في الإسلام، كنظام مستقل لا شأن له بالفقه الروماني ولا اليهودي ولا السرياني، كما أنه في تعدديته وانفتاحه، وتطوراته المبكرة بين أهل الحديث والآثار وأهل الرأي، لا يخضع للإرادات السياسية للأمويين والعباسيين، ولا يخاصمها، بل يتلاءم ويختلف في تكوناته وتطوراته بين الفقهاء والقضاة الذين تعينهم الدولة، وتبادر السلطات بدورها إلى التبنّي والتنظيم ضمن فكرة تقسيم العمل وليس التصارع والتجاذُب. فالمشروع الإسلامي مشروع عام، تشارك فيه سائر الفئات ومنها أهل التشريع. بيد أنّ التقنيات التي تعددت وانتشرت وصارت اتجاهات ومذاهب، لا تصنعها الدولة، لكنها تؤثر فيها بالطبع من خلال النظام القضائي.
في السنوات العشر الأخيرة، عمل حلاّق في ثلاثة مسارات: مسار كتابة التاريخ الشامل للتفكير الفقهي ومبادئه وأصوله ومؤسساته، ومسار العمل الفقهي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد ظهرت نتائج عمله في المسارين في كتاب «الشريعة» الضخم. أما المسار الثالث فيدخل في نقد الخطاب الاستعماري حول الدولة والدين والشريعة والفقه وحتى الاعتقاد في الإسلام. وهو المسار الذي بدأه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» (1977).

لكن ميزة وائل حلاّق كونه يعرف النظم الكلاسيكية الإسلامية في الدين والدولة، وقد تتبع أعمال الإصلاحيين والمجددين المسلمين، حزبيين وغير حزبيين، خلال أكثر من مئة عام. ووجهة نظره أنّ أعمال هؤلاء ما كانت ثورية أو تطرح بدائل حقيقية للتفكير الذي يعتبرونه جامداً، وللمؤسسات التي يعتبرونها رجعية. كل محاولاتهم كانت وما تزال محاولات «تلاؤمية» مع العمل الغربي في العالم الإسلامي في زمن الاستعمار وما بعده. ويضرب حلاّق مثلاً على هذا التماهي مع التفكير الاستعماري، بفكرة تقنين الشريعة Codification، والشريعة هي الدين، ولا يمكن تحويلها إلى قانون تنظيمي وقامع وأوحدي المقدمات والمبادئ والنتائج، وذلك منذ زمن مجلة الأحكام العدلية العثمانية، وإلى الزمن الراهن ومشروعاته في تطبيق الشريعة من خلال برلمانات، أو من خلال دولة «داعش».

في «الدولة المستحيلة» قرأ وائل حلاّق المشروع الغربي للدولة القومية الحديثة، والتي صارت عماد النظام العالمي، واستماتت الدول الوطنية في العالمين العربي والإسلامي للتلاؤم معها، واستمات الإسلاميون الحزبيون في تقليدها وتقليد المشروع بعناوين إسلامية، سواء أكانوا واعين بذلك أو غير واعين. وفي كتاب «الشريعة» يدرس نتائج ذلك على فقهاء الإصلاح، وفقهاء الأسلمة المحدَثين.

ما هي الدولة المستحيلة عنده؟ إنها مشروع الدولة الإسلامية في أدبيات الإسلاميين. فهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، يريدون غربنة الإسلام أو أسلمة الغربنة، لكي يكون ذلك أداةً يستخدمونها في عمليات الصراع على السلطة في العالمين العربي والإسلامي. وبذلك يرجون أن يحظى الأمر بشعبية لدى العامة المتذمرة من قمعيات الدولة الحديثة، ويأملون أن يقبل الغرب منهم ذلك، لأنّ آليات التلاؤم الذي يعملون عليه لا يزعج الغربيين في الحاضر، الذين يروعهم العنف المنفلت في ديارهم وديارنا باسم الإسلام.

عن "الاتحاد"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية