الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة 1/2

الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة 1/2


24/06/2018

لا يمكن لأيّ خطاب أيديولوجي أن يبرر نفسه لدى جمهوره دون الاعتماد على مجموعة من المرتكزات التي تمكنه من ذلك، فكما يقدم كلّ خطاب مجموعة من "الإجابات" التي تلبي احتياج المتلقي، وتساعده في تعريف واقعه وفهمه بطريقة تناسب نزوعه النفسي ومزاجه العام، يقدم الخطاب الأيديولوجي لجمهوره كذلك، إذا أراد لنفسه التوسع، "تاريخاً من البطولات" تساعد في رفع قيمة هذا الخطاب لدى متلقيه، إلى مكانة معنوية مرتفعة، وتساعد المتلقي في تبرير التضحيات التي يجد نفسه مطالباً بتقديمها لدعم رسالة هذا الخطاب، باعتبار أنّ التضحيات التي سيقدمها ليست إلا امتداداً "لتاريخ البطولات المقدس" الممتد الذي تم تقديمه سابقاً!

وكأيّ خطاب آخر، يرتكز الخطاب الديني السلفي على عدة مرتكزات تمنحه المشروعية لدى جمهوره، وعلى "تاريخ البطولات الأسطوري" الخاص به كذلك.

وفي صدر هذه المشاهد الأسطورية، تأتي الأزمة التي أثارتها قضية خلق القرآن، والتي عرفت بالمحنة، خلال فترة حكم الخليفة العباسي المأمون في القرن الثالث الهجري، واستمرت في عهد خليفتيه المعتصم والواثق، والمقاومة التي أبداها الإمام أحمد بن حنبل لفرض مقالة خلق القرآن بقوة الدولة، كأحد أهم هذه القصص التي يقدمها الخطاب السلفي باعتبارها مشهداً مركزياً في "سجل البطولات" الخاص به.

يرتكز الخطاب الديني السلفي على تاريخ البطولات الأسطوري وعدة مرتكزات تمنحه المشروعية لدى جمهوره

وتكمن أهمية هذه القصة تحديداً في كونها مثّلت مواجهة بين تيار "أهل الحديث"، الذي يعدّ الخطاب السلفي المعاصر امتداداً طبيعياً له، وبين تيار آخر من داخل البيت الإسلامي، على الأقل حينها كان يعتبره كذلك، وهو التيار الاعتزالي. أعني بذلك: أنّ هذه القصة بالتحديد ليست قصة مواجهة بين المسلمين والروم مثلاً، أو بين المسلمين ومشركي مكة، بحيث يُحمل الانتصار فيها على "قوة" الإسلام جملة في مقابل خصومه، لكنّها قصة تقدم باعتبارها انتصاراً لتيار "أهل الحديث" تحديدًا، في مقابل باقي فرق المسلمين، ما يجعل لهذه القصة أهميتها الخاصة داخل بنية هذا الخطاب، حيث يؤيد بها مقولاته الاعتقادية الخاصة بكل ما يميزها عن غيرها من المقولات الاعتقادية الأخرى المتاحة داخل فضاء التفكير الديني الإسلامي.

ومن أهم هذه المبادئ والمقولات الاعتقادية التي ساعدت هذه القصة في ترسيخها في الوعي السنّي بشكل عام، هو مفهوم "البدعة"، باعتباره "تجريم الفكرة الجديدة ما دامت لا تجد نصاً دينياً مباشراً يؤيدها"، وهو المبدأ الحنبلي الأثير الذي ينحاز إلى الاعتماد على النص المباشر والمرويات من حديث أو أثر، وينفر تماماً من الاعتماد على التفكير العقلي المجرد في القضايا، ويعدّ كلّ إعمال للعقل هو "بدعة" مرذولة؛ لأنّه استحداث فكرة جديدة لم ترد عن "السلف"، وهو المبدأ الذي سيطغى لاحقاً على العقل السنّي بشكل عام، كما ذكرت، (وكأن النصوص والمرويات الدينية يفترض أنّها تذكر كلّ شيء مطلقاً بشكل مفصل، أو كأنها تعالج كلّ القضايا حتى ما يستجد منها في المستقبل، حتى نهاية العالم، والأهم من ذلك؛ كأنّ فهم النصوص ذاتها لا يتضمن إعمالاً للعقل بدرجة أو بأخرى لاستنباط دلالتها!).

أحمد بن حنبل لم يرفض مقولة خلق القرآن لأنّ لديه نظرية بديلة لكن فقط لأنه لا يجد نصاً شرعياً يقول بها

ما أحاول أن أقوله هنا: هو أنّ أحمد بن حنبل لم يكن يرفض مقولة خلق القرآن بسبب أنّ لديه نظرية بديلة، لكن فقط لأنه لا يجد نصاً شرعياً يقول بها، هكذا فقط، فكان يقول عند مناظرة الخليفة "أعطوني شيئاً من كتاب الله، عزّ وجلّ، أو سنّة رسوله أقول به"[1]، ولا تجد في أيّة رواية للأحداث، حتى رواية ابن حنبل نفسه، أي كلام فلسفي عن نظريتين متقابلتين، ولا تجد أيّة رواية تشير إلى أنّ ابن حنبل ناظر الخليفة في أنّ كلام الله قديم (أي غير مخلوق)، كل ما كان يقوله إنّه ليس هناك نصّ مباشر يقول إنّ القرآن مخلوق، ليس أكثر!

لكن بطبيعة الحال، ساعدت الصياغة الأسطورية للقصة لاحقاً على بلورة النظرية المقابلة لنظرية خلق القرآن المعتزلية على يد الأشاعرة، لاحظ هنا أنّ موقف ابن حنبل في الاحتجاج بعدم وجود نصّ، ربما هو أدق من موقف من تابعوه لاحقاً من الأشاعرة، وصاغوا فكرة "القرآن القديم" في قالب فلسفي، حيث، على طريقة ابن حنبل نفسه، لا يوجد أيّ نصّ مباشر كذلك يقول بما قالوه، فالأمر سيان بين أصحاب النظريتين من حيث عدم توافر النصوص، وكلاهما يعتمد التأويل لإثبات نظرته، وابن حنبل نفسه، كما ذكرت، كان ينفر من إعمال العقل من حيث المبدأ، ويعدّ أنّ كلّ ما لا يمكن ردّه إلى نصّ أو أثر هو من قبيل البدعة.

غير أنّ هؤلاء سيجتهدون لاحقاً في قراءة النصوص وتأويلها بأثر رجعي، ليستخرجوا منها ما يفيد أنّ رأيهم الفلسفي حول أنّ القرآن قديم غير مخلوق، هو نفسه قول أهل السلف من الصحابة والتابعين، وبالتالي يصبح رسمياً هذا الرأي هو "عقيدة أهل السنة والجماعة" التي تلزم كلّ مسلم سنّي باتباعها، ويحرم كلّ ما عداها! والحقيقة أنّ "السلف" من الصحابة والتابعين لم يكن لهم رأي في الأمر من بابه، لا بقدم القرآن ولا بحدوثه، حيث لم تثر هذه الإشكالات الفلسفية إلا في وقت متأخر، بعد قرن على الأقل من وفاة الرسول، عليه السلام، ولم يكن للرسول ولا لصحابته أيّ انشغال بهذا النوع من النشاط الفكري الفلسفي على الإطلاق، ولم يكن هذا النشاط الفلسفي من طبيعة البيئة العربية أصلاً، ولا عُرف فيها، إلا بعد دخول الترجمات اليونانية والفارسية أراضي العرب مع توسّع الفتوحات.

لم تثر هذه الإشكالات الفلسفية إلا في وقت متأخر، بعد قرن على الأقل من وفاة الرسول، عليه السلام

هذه المفارقة بين رأي ابن حنبل نفسه وعزوفه عن إعمال العقل، وبين رأي الأشاعرة الذين صبوا كلامه في قالب عقلي فلسفي، يوضح لك لماذا تنفر الحنبلية من الأشعرية إلى اليوم، رغم أنّ الأشعرية يفترض أنها تنتهي بتأييد مقولات الحنبلية، لكنها لا تتبع منهجها الذي يقضي بحصرية الاستناد إلى النصوص، وإن اتفقت النتائج.

وجدير بالذكر في هذا المقام، أن نتذكر الأزمة التي ثارت مؤخراً بين الأزهر والمملكة العربية السعودية بسبب مؤتمر "أهل السنة والجماعة" الذي عقد في الشيشان، في آب (أغسطس) 2016؛ حيث عرّف المؤتمر "أهل السنة والجماعة" باعتبارهم "الأشاعرة والماتريدية"، وهو ما يخرج الوهابية السعودية من التعريف، حيث لا تتبني الوهابية السعودية، التي تعدّ نفسها الوريثة الشرعية للحنبلية، مقولات الأشاعرة ومناهجهم، رغم أنّه يفترض أنّ الأشعرية، كما سبق وأوضحت، تصبّ موقف بن حنبل في قالب عقلي برهاني، وهو ما يرفضه ابن حنبل نفسه!

كيف تتم صناعة الأسطورة؟

أول التقنيات التي تصنع بها الأسطورة هي الإضافة؛ أي إضافة عنصر الإبهار وإثارة الخيال والحديث عن المجزات والتفاصيل الخارقة للعادة والمبالغات غير المعقولة، فهذا النوع من التفاصيل العجيبة يجعل المتلقي في موقف سلبي، حيث يبدو الأمر أكبر منه، ما يجعله أقرب إلى الخضوع والتسليم، تقرأ مثلاً في صدر الروايات التي تحكي أحداث المحنة ما أورده ابن الجوزي، المؤرخ والفقيه الحنبلي المعروف من القرن السادس الهجري، والذي كان من فرط تبجيله لأحمد بن حنبل يقول: "بحثت عن نائلي مرتبة الكمال في الأمرين،  أعني العلم والعمل، من التابعين ومن بعدهم، فلم أجد من تم له الأمران على الغاية التي لا يخدش وجه كمالها نوع نقص، سوى ثلاثة أشخاص: الحسن البصري، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل"[2]

لم يكن للرسول ولا لصحابته أيّ انشغال بهذا النوع من النشاط الفكري الفلسفي على الإطلاق

والرواية عن رجل يقول إنّه شهد يوم ضرب ابن حنبل فيقول: "فأتى أمير المؤمنين، فجلس على كرسي، وأتى بأحمد بن حنبل، فقال له: وقرابتي من رسول الله لأضربنك بالسياط، أو تقول كما أقول (أي يقرّ برأي الخليفة في خلق القرآن)، ثم التفت إلى جلاد، فقال: خذه إليك، فأخذه...فضربه تسعة وعشرين سوطاً، وكانت تكة أحمد حاشية ثوب، فانقطعت، فنزل السراويل إلى عانته، فقلت: الساعة ينتهك (أي ستنكشف عورته لقرب سقوط السروال)، فرمى أحمد طرفه نحو السماء وحرك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بقي السروال لم ينزل...، فدخلت إليه بعد سبعة أيام، فقلت: يا أبا عبد الله، رأيتك يوم ضربوك قد انحلّ سراويلك، فرفعت طرفك نحو السماء، ورأيتك تحرك شفتيك، فأي شيء قلت؟ قال: قلت "اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش، إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي ستراً"[3].

ترى في هذه الرواية المثيرة، كيف حولت وبشكل روائي يخاطب المتلقي البسيط "عدم سقوط سروال ابن حنبل" إلى "معجزة" تثبت صحة أفكاره الاعتقادية، التي ستقدم للمسلمين بعد ذلك باعتبارها "عقيدة أهل السنة الجماعة"، وعلى أنها قول "أهل السلف" من الصحابة والتابعين...!

يتبع..

هوامش:

_________________________________________________________________________

[1]  ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الله عبد المحسن التركي، صفحة 438.

[2]  ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الله عبد المحسن التركي، صفحة 4.

[3]  ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الله عبد المحسن التركي، الصفحات 447-448.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية