المذهبية أقوى من الفساد

المذهبية أقوى من الفساد


23/07/2018

حازم الأمين

أيهما أقوى في هذا الإقليم، انحياز الجماعات إلى مذاهبها أم انحيازها إلى مصالحها؟ قادة المذاهب، وهم معظم الطبقات السياسية في المشرق، فاسدون. يُدرك أبناء المذهب ذلك، كما يدرك حملة الهويات القومية الضاغطة على أصحابها أن قادتهم القوميون فاسدون. قادة الشيعة في العراق وفي لبنان فاسدون، وقادة الأكراد أيضاً، وفي سورية الفساد معمم على كل القوى المتنازعة. وعلى رغم ذلك يمثل القادة الفاسدون المصالح المذهبية لجماعاتهم.

ولكن، هل يمكن القياس على ما شهده العراق أخيراً للقول إن الجماعات الأهلية بدأت تدرك أن من يمثل مصالحها المذهبية لا يصلح لتمثيل مصالحها السياسية، وأن إدارته الدولة مثلت كارثة على نحو ما شهد العراق في مرحلة ما بعد سقوط صدام حسين؟ الأرجح أن من المبكر توقع ذلك. هذا الاستنتاج سيستفز الكثيرين من الأصدقاء العراقيين الذين رأوا في تظاهرات المواطنين الشيعة ضد الحكومة الشيعية بصيص أمل ببدء مرحلة الابتعاد عن الأحزاب الدينية التي حكمت العراق منذ 2003 ونهبت خيراته وحرمت المواطنين من أدنى الحقوق، أي الماء والكهرباء والتعليم والنقل، هذا قبل الحديث عن أشكال الرفاه الأخرى في بلد ينعم بثروة نفطية كبرى!

الفساد لا يكفي لكي تطيح جماعة أهلية زعيماً أو حزباً فاسداً. هو يكفي لأن تغضب عليه، لكن، ما أن يلوح العدو المذهبي، حتى يستيقظ في الجماعة خوف أعمق من الخوف من الجوع. تظاهرات الجنوب العراقي انعقدت في لحظة غياب لهذا العدو بعد دحر «داعش»، لكن إيقاظ «داعش» أمر في غاية البساطة إذا شعرت الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق أن إيقاظ هذا التنظيم حاجة في ظل تصدع موقعها داخل جماعاتها.

الفساد وسوء ممارسة السلطة وطبقات الأثرياء الجدد والمظاهر التي رافقت صعود الطبقة السياسية الجديدة، ما زالت كلها من دون المذهبية لجهة القوة والقدرة على تحريك الجماعات. هذه حقيقة مستفزة، إلا أنها حقيقة، ويجب عدم استبعادها في توقعاتنا لما تشهد مدن الجنوب العراقي. في لبنان شهدنا ظاهرة مشابهة قبل الانتخابات النيابية الأخيرة. فأهل منطقة البقاع أبدوا تذمراً كبيراً حيال ما يتعرضون له من تمييز في التمثيل الشيعي في الدولة قياساً بتمثيل شيعة الجنوب. مناطقهم محرومة فعلاً في وقت ينعم الجنوب بحصة كبرى من المشاريع. عَبّر البقاعيون عن هذا الضيق، وأجابهم «حزب الله»، وتحديداً نائب الأمين العام نعيم قاسم، بفظاظة، فرفع سبابته وقال: عليكم أن تتوجهوا إلى صناديق الاقتراع، ذاك أن «داعش» على الأبواب. وهم فعلاً استجابوا، واقترعوا لـ «الحزب» كما لم يقترعوا من قبل.

ما زلنا في هذا الإقليم قبل مرحلة إدراك الجماعات مصالحها من خارج منظومة الوعي المذهبي. ثم أن المذاهب هنا حقيقة إلى حدٍ يصعب الفصل بين مصلحتها ومصلحة «مواطنيها». فظواهر إعالة القوى المذهبية جماعاتها حقيقة تفوق حقيقة رعاية الدولة مصالح مواطنيها. في العراق رواتب عناصر الحشد الشعبي كانت تصل إلى أصحابها في إحدى المراحل قبل وصول رواتب جنود الجيش، وفي لبنان يبلغ عدد «موظفي» «حزب الله» من مقاتلين وعاملين في مؤسسات الحزب الأخرى، رقماً يوازي أو يفوق رقم موظفي الدولة اللبنانية من أبناء الطائفة الشيعية. علماً أن موظف الدولة لكي يصير موظفاً عليه أن يأتي إلى الوظيفة من حصة طائفته.

في مدن الجنوب العراقي ما يشبه «الغضبة» لا الثورة. الفساد صار صورة عن وقاحة الطبقة السياسية. ووجوه هذه الطبقة لم تعد تخجل من صوره. هادي العامري، قدم «اعتذاراً» ينطوي على اعترافٍ بالفساد، ومشعان الجبوري قال إنه هو نفسه قبض رشى بملايين الدولارات. هذه الاعترافات لم تُملِ استقالة ولا محاسبة، بل أملت خطباً شعر أصحابها أنه من غير المضر أن تُستعرض فيها عضلات الفساد، وأن يجاهر الفاسدون بأفعالهم. وهم فعلوا ذلك لأنهم يدركون أن في أيديهم ما هو أقوى من فضائحهم. في أيديهم مذهبية قادرة على استدراج تظاهرات أكبر من تظاهرات المحتجين على الفساد.

عن "الحياة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية