ماذا تخبرنا الفلسفة عن خلع حلا شيحة للحجاب؟

ماذا تخبرنا الفلسفة عن خلع حلا شيحة للحجاب؟


13/08/2018

في شهر رمضان، منذ أكثر من 15 عاماً، ظهر الفنان الشاب أحمد الفيشاوي مع الإعلامي محمود سعد في برنامج "حلو وكداب"؛ تحدث الشاب بلكنة متدينة محافظة، تبرز بشدة حالة المد الإسلامي التي أثرت على جيل بأكمله، وبلغة أقرب إلى لغة داعية إسلامي منها إلى لغة فنان شاب، وعرّف عن نفسه بأنه ممثل وناصح ديني، كما تمنى في هذه الحلقة أن تتحجب كل النساء المسلمات.

الحلقة حينها أثارت الكثير من الجدل، بالأخص بين أوساط الشباب المتأثر بالمد الإسلامي، وقد وجدوا أحمد الفيشاوي معبراً عن أفكارهم الجديدة وحيرتهم في الوقت نفسه، وفي الحلقة ذاتها كان الفنان الشاب قد تحدث عن صديقته الفنانة الشابة حلا شيحة، وعن أحاديثه معها حول الحجاب، إذ كانت الفنانة الشابة قد اتخذت قراراً حينها بارتدائه ثم خلعته سريعاً.

في الـ 15 عاماً اللاحقة حدثت الكثير من المتغيرات؛ فالفنان الشاب أحمد الفيشاوي سرعان ما تورط بعد ذلك في قضية نسب أثارت الكثير من الجدل في العالم العربي، وعرفت حينها بـ "قضية هند الحناوي"، وبعدها ارتبط اسمه دوماً بتعاطي المخدرات والكحوليات والآراء الجريئة والصادمة والمظهر الغربي الذي لا يخلو من حلقين في الأذن، والعديد من الوشوم التي تغطي جسده؛ وعلى الجانب الآخر ارتدت الفنانة الشابة حلا شيحة الحجاب مرة أخرى ومثلت وهي ترتديه، ثم اعتزلت التمثيل، ثم ارتدت النقاب، ثم صرحت بأنها تعيش أجمل أيام حياتها مع النقاب، ودرست الفقه، وتزوجت من رجل أبيض تحول إلى الإسلام في نسخة سلفية، ثم عادت مرة أخرى لخلع النقاب ثم خلع الحجاب. 

في نظر قطاع كبير من الجمهور العربي فإنّ رحلتي الفنانين الصديقين (حلا وأحمد) نحو التدين تدعوان للازدراء

في نظر قطاع كبير من الجمهور العربي - بالأخص الأكبر سناً منهم - فإنّ رحلتي الصديقين (حلا وأحمد) تدعوان للازدراء، إذ إنّ هذا التقلب الحاد في الأمزجة، والتعبير مع كل تغير بنبرة يقينية مطلقة عن الفكرة الجديدة، لا تلبث أن تتغير مع التغير الفكري الجديد الطارئ على الشخصية، هو شيء غير مستساغ للجمهور العربي، وعادة ما ينظر إليه على أنه نتاج طبيعي لشباب طائش ينتمي إلى طبقات عليا سريعة الملل، ومتقلبة المزاج، تمتلك الكثير من الأموال والشهرة غير المبررة، والقليل من السكينة، والاتزان العقلي. لكن الفلسفة ههنا قادرة على أن تزودنا بفهم أشد عمقاً لما حدث للشابين (أحمد وحلا) اللذين يمثلان قطاعاً كبيراً من جيلهما.

يلتفت الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجموت بومان، إلى حقيقة مؤسسة، حدثت في المجتمع الغربي بحلول منتصف القرن العشرين؛ الحقيقة متعلقة بتبدل عميق حدث في اليقين الفردي عند الإنسان المعاصر، فاليقين صار مرتبطاً بالاستهلاك.

اقرأ أيضاً: الفيلسوف المسيحي وشيخه المسلم!

بالنسبة إلى المجتمعات العربية لم يكن هذا الأمر واضحاً، ولم يبدأ ظهوره إلا ربما مع حلول العقد الأول من الألفية الجديدة، بين الشباب من أبناء الطبقات المرفهة، وسرعان ما تدرج الأمر بعد ذلك ليظهر بشكل أكبر بين أبناء الطبقات الوسطى العليا، وربما كان أحمد وحلا النموذج الأمثل للقياس في هذا الأمر.

بشكل أبسط، فوالدك، عزيزي القارئ، الذي ربما يكون من مواليد الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن العشرين، حين جهز بيته وهو شاب، اشترى أثاثه وأجهزته الكهربائية وهاتف المنزل التقليدي، ولم يتغير شيء بشكل هيكلي في هذا المنزل، ربما حتى بلوغك أنت العاشرة من عمرك إن كنت من مواليد الثمانينيات أو التسعينيات من القرن العشرين.

اقرأ أيضاً: حجاب المرأة بين سلطة التدين ووصاية العلمانية

كذلك كان والدك يستمد يقينه في الحياة، من أسرته الصغيرة التي أسسها بنية البقاء معها إلى الأبد، ومن عمله الذي يضمن له في الغالب حقوقاً كثيرة تؤمنه إلى آخر حياته، إذ لم تكن الخصخصة قد اجتاحت بعد في زمانه عالمنا العربي، كما أنه كان يعلم طبقته بالتحديد على الأرجح، فلم تكن هناك فرص ولا مخاطرات كبيرة متاحة للثراء؛ كل ذلك ساعد والدك على أن يكون وجهات نظر ثابتة على الأرجح بشأن العالم لم يغير فيها شيء هيكلي بمرور الزمن.

ببساطة أكثر لم يكن والدك في شبابه يسمع شيئاً عن كتب ما يسمى بـ"التنمية البشرية" التي تخبر الناس في كل لحظة أنّ عليهم استثمار كل ثانية في الحياة لتصبح أكثر ثراءً ونجاحاً، وبشكل أدق على الأرجح لم يتغير محل عمل والدك منذ تخرجه وحتى الآن، ولم تتغير مهنته أيضاً، بينما ربما أنت في مقتبل الحياة وقد غيرت ربما محل عملك أكثر من 3 أو 4 مرات. وتخبرنا الإحصاءات بأنّ المواطن الأمريكي في المتوسط يتنقل بين 10 محال عمل في حياته.

الانتقال من تجربة في يمين طبقتك إلى تجربة في يسار طبقتك، لا تعني أنك مررت بتجارب عميقة

في حين كان والدك يتدرج بشكل تقليدي في محل عمله الدائم، ويذهب إلى منزله الذي لم يتغير شكله منذ 20 عاماً، كانت ثورة مذهلة تحدث في العالم ستغيره، وتغير وعي الناس به، الثورة التي حدثت كانت على مستوى السلع، فقد حطمت الشركات العظمى الإستراتيجية القديمة القائمة على إنتاج سلع معمرة ذات ديمومة، يمكن أن تستعملها بل وتورثها بعد ذلك إلى أبنائك وأحفادك، وبدأت خطة جديدة تسود العالم الذي نعيشه، فالسلعة التي تشتريها اليوم أنت تعلم تمام العلم وأنت تشتريها أنها ستفقد بريقها وأهميتها بعد سنوات وربما شهور معدودة، فالسلعة التي تشتريها تجهزك بالضرورة لكي تشتري نسخة مطورة عنها بعد فترة قصيرة لا تذكر.

يتحول الأمر إلى شيء أشبه بالإدمان، كل شيء يحتاج أن يتغير بعد وقت قصير جدًا لتواكب الحياة التي تسير بسرعة مجنونة، ولهذا الأمر كما يبيّن الفلاسفة وعلماء الاجتماع مثل بومان، كبير الأثر على شعورك باليقين والاطمئنان.

في اللحظة التي تشتري فيها نسخة أحدث من أجهزة الهاتف، أو نسخة أحدث من محرك ألعاب الفيديو الخاصة بك، وتغير فيها أثاث منزلك، وتشتري منزلاً جديداً، وتغير محل عملك، وربما مهنتك نفسها، ترسل كل تلك الأشياء رسائل لاواعية إلى عقلك لتخبره، بأنّ عليك أيضاً، أن تغير أفكارك ومبادئك، فهي مثل هاتفك القديم تحتاج إلى تغيير، وإذا كنت قد غيرت منزلك ووسائل ترفيهك وأثاث منزلك ومحل عملك، فلماذا لا تغير أيضاً شريكتك التي بدأت تشعر معها بالملل، لماذا تحاول إصلاح هذه العلاقة وفهمها؛ إذا كان بإمكانك أن تستهلك علاقة جديدة، تعطيك نشوة إدمان التجديد التي تبحث عنها مع كل سلعة جديدة؟ ولماذا لا تغير أفكارك أيضاً وتقذف بالأفكار القديمة بالكلية وتعتنق مبادئ جديدة، توفر لك نشوة التجديد؟

اقرأ أيضاً: شيخة تونس سعاد عبد الرحيم لـ"حفريات": الحجاب حرية شخصية

ما لا يلتفت إليه الكثيرون في قصتيْ أحمد وحلا، أنهما تنقلا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكن داخل طبقتهما الاجتماعية نفسها، فمن الحفلات المترفة التي تجمع الشباب الأثرياء الراغبين في تجربة كل جديد، إلى الالتفاف حول الدعاة الإسلاميين الذين يوجهون حديثهم إلى أبناء الطبقات الثرية، لم يمر الاثنان بتجربة عميقة راديكالية تنصهر في مجتمعهما، فرغم ما يظهر على تجربتهما من حدة، إلا أنها لم تكن راديكالية بالمفهوم الاجتماعي؛ فالانتقال من تجربة في يمين طبقتك إلى تجربة في يسار طبقتك، لا تعني أنك مررت بتجارب عميقة، قادرة على تشكيل وعي منتبه إلى ما تفعله تبدلات الحداثة من أثر في شعورنا بفقدان الهوية، ولا تعطينا مقاربات جادة للتعامل مع فقدان اليقين الذي يصيب المنخرطين من البشر في العالم يومياً، وهو السؤال الأهم من الصراخ بين المتفاعلين على صفحات التواصل الاجتماعي، حول حجاب حلا شيحة ووشوم أحمد الفيشاوي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية