بين حرية التعبير وازدراء الأديان

بين حرية التعبير وازدراء الأديان


12/09/2018

روجيه أصفر

أُثيرَ في لبنان أخيرا، نقاشٌ عامّ حول حرية التعبير وازدراء الأديان. ففي حادثة أُولى، كتَب شابٌّ من بيئة مسيحية منشورًا على موقع “فيسبوك”، اعتُبر مضمونُه غيرَ لائق بأحد القدِّيسين المسيحيِّين؛ فتَعرَّض الشاب للملاحقة القانونية والمحاكمة، ولِحرمانه استعمال “فيسبوك” لمدة شهر، بالإضافة إلى صرفه من العمل، وتعرُّضه لمضايقات كادت تصل إلى حدّ الاعتداء الجسدي.

أمَّا الحادثة الثانية، فحصلت في طرابلس، إثْر تَفوُّه رجُل في مَتْجر بعبارة، عدَّها أحد السامعين كفرا بالله. وتطوَّر الأمر إلى الاعتداء عليه في الشارع من السامع ورفاقه؛ ما أدَّى إلى قتله طعنا. وكالعادة، انقسم المشاركون في النقاش بشكلٍ عامّ، بين المدافعين عن الله والدِّين والقدّيسين، والمنادين في المقابل بحرية التعبير.

من جهة؛ يبدو أنّ كثيرا من المواطنين لا يُرحِّبون بحرِّيّة تعبير كاملة، خصوصا حين تمسّ هذه الحرية معتقداتهم الدينية. وأيضاً يقف القانون اللبناني في وجه هذه الحرية، من خلال الالتباس في تفسير مَوادَّ تَضمَّنَها، تُعاقِب بالسجن على التجديف على اسم الله علانِيَة، وتحقير الشعائر الدينية أو الحث على ذلك، والتشويش على الطقوس الدينية أو عرقلتها بالشدة، وهدم وتحطيم وتدنيس دُور العبادة وغيرها ممَّا يكرِّمه أهل الديانة أو قِلَّة من الناس (المواد: 473، 474، 475 من قانون العقوبات).

ومن جهة أخرى، يدافع ناشطون عن حرية التعبير، بغضِّ النظر عن مُوافقتهم على مضمون هذا التعبير، طارحين أسئلة مُحقَّة: هل الله في حاجة إلى من يدافع عنه؟ وهل يحترم المطالبون بعدم المسِّ بدينهم أديانَ الآخرين ومعتقداتهم، أم أن هناك كيلاً بمِكيالَين، إذ نزدري أديان الآخرين ومعتقداتهم ونسخر منها، ولكن لا نَقبل التعليق على شأن يخصُّ ديننا؟ وأيضا: مَن يحدِّد ما هو الازدراء والإهانة والمسّ بالذات الإلهية؟ هي مفاهيم نسبيَّة، لا يمكن أن تُستخدم للقياس، ومِن ثَمَّ لإدانة أحد ومعاقبتِه.

في الوقت الذي كان يدور فيه هذا النقاش ويتفاعل، كان بعض أصدقائي يُزْمِعون على عقد قِرانهم، قرانين بفارق أسبوع واحد بينهما. فكان بينهم مَن ينحدر من بيئة مسيحية، ومنهم مَن ينحدر من أخرى إسلامية؛ ولكن كلُّهم، غيرُ مؤمن بدين آبائه ولا بغيره، مُلحد أو لادينيّ.

لقد فرَضَت القوانينُ المعمول بها في بلادنا، أن يَحمل كلُّ مُواطن دِينا ما في سجلِّه الرَّسمي؛ ولكن، من المعلوم -رغم إنكار بعضهم- أنَّ كثيرين من هؤلاء المواطنين، لا يؤمنون بالله، ولا بأيِّ دين؛ أيْ إنَّ الصَّلَوات والطقوس الدينية، لا تَعنيهم بقليل أو كثير.

بسبب هذه القوانين تُلزم الأنظمةُ المعمول بها في أغلب بلداننا المواطنين، اعتمادَ الزواج الدِّيني. فإنْ كنتَ مسجّلاً في الأوراق والسِّجلَّات الرسمية مسيحيّا أو مُسلما، فعليك أن تتزوج زواجا دينيّا، وَفْق الدِّين الذي ذُكر في أوراقك، آمنتَ به أم لم تؤمن.

وعليه، اضطُرَّ صاحبا القِران الأول، إلى تأجيل زواجهما إلى حين انتقالهما إلى أوروبّا، حيث إمكانيّة الزواج المدني؛ في حين اضطُرَّ صاحبا القران الثاني، إلى التوجُّه نحو الكنيسة والخضوع لمراسم الزواج الدِّيني، حيث الطقوس والأدعية والتلاوات.

خلال عقد القران الكنسي، شعرتُ أنا الذي أعتَبر نفسي مسيحيّا مؤمنا، بأنّ هذه الإلزامية في أن نُجبِر مَن يُعرِّف بنفسه كمُلحد أو لادينيٍّ، على الخضوع للزواج الديني، تُحوِّل ما نعتبره في المسيحية سرّا على قدر عالٍ من الأهمية والقُدسيّة، إلى مسرحيّة نمثِّل فيها أمام بعضنا. فالعريسان غير مَعنيَّيْن بهذه الطقوس ومضامينها، والحضور في أغلبهم يعلمون بذلك. فيَكادُون كلُّهم يُشْبهون مَن يَحضر مسرحية تمثيلية، لا يُجسِّد الممثِّلون فيها شخصيَّاتهم الحقيقيّة.

فمَن الذي يُهين الدِّين، ويُخرجه من إطاره بالفعل وبالعُمق؟ أَإِنسانٌ حُرّ عبَّر عن رأيه -ولو لم يُعجبنا-، فلم يقدِّم ولم يؤخِّر شيئًا في هذا الدِّين أو ذاك، أم تحويلُ الطقوس المقدَّسة إلى مسرحية، نُلزم غيرَ المؤمنين الاشتراكَ فيها رغمًا عنهم؟ وهل من إيمان دون حُرِّيّة؟!

الدِّين وطقوسه والممارسات الدينية، جزء أساس من حياة كثير من المواطنين في بلادنا، وهو أمر يجب أن تُضمن ممارستُه، مثل حقوق اللَّادينيِّين وغير المؤمنين، وفي المقابل، مِن غير المقبول أن يُلزَم أحدٌ الخضوعَ لطقوس وممارسات دينية لا يؤمن بها. فهذه الأخيرة، إن لم تُمارَس بحرِّيّة كاملة، تَفقد جوهرها ومعناها، وتُصبح كلماتٍ وحركات لا معنى لها.

لذا، فإنّ إقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، يشكِّل مساراً مُوازياً وحُراً لمن لا يريد سلوك المسار الديني، وأمراً بالغ الحيويّة لصَون الحريات الفردية، بل ولحفظ قُدسيّة الأديان بالنسبة إلى المؤمنين بها، وأيضًا لِتعبيد الطريق إلى دولةِ مُواطَنةٍ حاضِنةٍ للتنوُّع فيها.

عن موقع "تعددية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية