قراءة في كتاب "التطرف" لإبراهيم غرايبة

قراءة في كتاب "التطرف" لإبراهيم غرايبة


01/10/2018

"نحن لا نجرؤ ليس لأنّ الأشياء صعبة، بل الأشياء صعبة لأنّنا لا نجرؤ" (سنيكا الأصغر).

والكتابة عن "التطرف الديني الإسلاموي" هذه الأيام، يحتاج إلى أكثر من الجرأة، يحتاج إلى بصيرة استشرافية وإحساس ومعرفة عميقة؛ بمعنى الدين كحاجة إنسانية، وأننا بشر ولسنا ملائكة.

التطرف هو الفعل المتعمّد في تجاوز حدود ما هو متعارف عليه وقارّ في مجتمعٍ ما، غير أنّ  ما هو متعارف عليه يختلف من مجتمعٍ لآخر، ومن الاختلافات الدقيقة الحادة، يطلّ برأسه شيطان التفاصيل الدقيقة.

اقرأ أيضاً: الطب النفسي والتطرف

جينولوجيا التطرف معقدة، وإشكالية جداً، ما التطرف؟ ما علاقة الدين وأشكال التدين بالتطرف؟ هل هناك أزمة خطاب حول مفهوم التطرف؟ ومن أين يأتي المتطرفون؟ كيف نميز بين التطرف والاعتدال؟ ما الدور الذي تلعبه الدولة والسلطة في عملية التطرف؟ ما العلاقة بين التطرف العنيف والإرهاب العالمي؟ هل أثرت سيرورة العولمة على نشر التطرف؟ ما هي أساليب مكافحة التطرف العنيف والأدوار التي يمكن أن تلعبها مؤسسات المجتمع في مكافحة التطرف العنيف؟ هذه بعض الأسئلة الحارقة التي حاول الباحث الأردني إبراهيم غرايبة الإجابة عنها، في كتابة الصادر حديثاً بعنوان "التطرف".

غلاف كتاب التطرف لإبراهيم غرايبة

وفي قراءة هذا الكتاب سيتم استبعاد الخوض في مسألة التعريفات للمفاهيم، لكثرتها، أو الخوض في المسائل الثيولوجية والمسائل الفقهية الدقيقة؛ التي يعدّ الغرايبة من أكثر الباحثين العرب المعاصرين اطلاعاً وفهماً لها. 

هكذا؛ التطرف؟!

عنوان من كلمة واحدة فقط، قصد بها الغرايبة دفعنا لمزيد من اليقظة والتحفّز والدهشة؛ التي تعني الشعور بخروج الظواهر عن مألوف خبرتنا ومعتقداتنا، كما يقول أرسطو، ليضعنا أمام لجاجة السؤال؛ لأنّه يعرف أن ميزة الكائن المفكّر هي في طرح الأسئلة، وليس في الإجابات المتلعثمة، أو المزهوّة بادّعاء المعرفة.

هناك مقاربة قاتلة وسائدة في العالم العربي والإسلامي في مجال مكافحة التطرف الديني العنيف والإرهاب

ويعتبر الكتاب من أهم المقاربات الحديثة التي حاولت تفسير ظاهرة التطرف العنيف من خلال سياقاتها الاجتماعية، ويشكل إضافة نوعية فريدة لأدبيات ظاهرة التطرف بشكل عام، والتطرف الديني بشكل خاص.

حيث نقّب غرايبة عميقاً في "أركولوجيا" الظاهرة، في مختلف المصادر القديمة والحديثة، العربية منها والتي باللغات الأخرى، بمراجع حديثة ومعتبرة في مختلف حقول المعرفة الإنسانية التي حاولت تفسير الظاهرة.

جينولوجيا التطرف

يرى الغرايبة؛ أنّ التدين منتج حضاري اجتماعي يعكس الحالة الاجتماعية والسياسية في المجتمع، ويأخذ بالعادة أشكالاً مختلفة ومتعددة للمتدينين، والتطرف ذو طبيعة واحدة مهما تعددت أشكاله وأسبابه، وأنّ التطرف الديني العنيف ظاهرة اجتماعية معقدة، صعدت منذ سبعينيات القرن العشرين، في الوقت نفسه الذي بدأت مكافحته بمقارباتٍ دولية خشنة (kinetic)، تعتمد التدخل العسكري والعمليات الأمنية الاستخبارية.

اقرأ أيضاً: لماذا لا ننجح في مواجهة الكراهية والتطرف؟

وتحتكر "الدولة"، كطرفٍ فاعلٍ وحيد، عملية مكافحة التطرف العنيف، والإرهاب الناتج عنه، من خلال إصرارها على "احتكار القلة" (oligopoly)؛ الذي تمارسه على الفضاء الديني، "وهنا تصبح الحرب في جوهرها ليست ضدّ التطرف العنيف والإرهاب بذاته، لكنّها ضدّ ممارسة الدين، أو تطبيقه، وحتى فهمه، خارج مؤسسات الدولة".

الخطير في الأمر؛ أنّ "الدولة" كصاحبة القوة القهرية في المجتمع الدولي حتى الآن، ما تزال تغري وتجذب "مؤسسات المجتمع المدني"، بمشاركتها في مقارباتها الخشنة أو السكوت عليها، وهذه ظاهرة عالمية، ولا تخصّ بلداً بعينه؛ حيث تتحالف المؤسسة العسكرية، والمؤسسات السياسية، ورجال المال والأعمال معاً في المثلث الحديدي للسلطة، الذي وصفه عالم الاجتماع الأمريكي اليساري "تشارلز رايت ميلز"، في كتابة "سلطة النخبة" (The Power Of Elite,1956)، وبما يشبه ربقة القانون الحديدي للأويغاركشية (Political Parties: A Sociological Study of the Oligarchical Tendencies of Modern   Democracy,1911)، لعالم الاجتماع الألماني "روبرت ميشيل".

إنّ مصادر المتطرفين الفكرية والدينية نفسها المصادر المتقبلة لدى المسلمين

من جهة أخرى؛ هناك مقاربة قاتلة وسائدة في العالم العربي والإسلامي، في مجال مكافحة التطرف الديني العنيف والإرهاب، وهي الشغف باستخدام المفاهيم الغربية الملتبسة مثل: الوسطية، التسامح، الاعتدال، والتطرف، والإرهاب، بشكلٍ مفارق لسياقها التاريخي الفلسفي والأفكار المنشئة لها، وفوضى المفاهيم هذه تؤشر على فوضى المجتمع في كافة مناحي الحياة، ويرتبط بذلك التركيز على المعالجة الدينية فقط، وإهمال العوامل الأخرى في المعالجة.

وهنا يشير الغرايبة إلى ما يمكن تسميته "معضلة مكافحة التطرف العنيف والإرهاب الإسلاموي"، وهي تتلخص في أنّ "المصادر الفكرية والدينية للمتطرفين هي المصادر، القائمة والمتقبلة، لدى العرب والمسلمين نفسها، على مدار تاريخهم الطويل، لأنّهم لا يستخدمون نصوصاً غير التي نؤمن بها"، أما ما يسمى بالردود العلمية والفقهية والفكرية على المتطرفين، ووصمهم؛ كالقول إنّهم خوارج أو كلاب النار، فإنّها يمكن أن تفيد "المعتدلين" أصلاً.

اقرأ أيضاً: هكذا استخدمت حكومة كيمنتس الألمانية الموسيقى لمواجهة التطرف

لكنّها، للأسف الشديد، لن تؤثر أو تفيد المتطرفين والإرهابيّين.

باختصار؛ لا يُضير الإرهابيّين أو المتطرفين وصمهم بالإرهاب والتطرف العنيف؛ لأنهم يفتخرون بذلك أصلاً؛ باعتبارهم حماة الشريعة وشهداء الدفاع عنها أمام أعدائها البعيدين أو القريبين.

باستثناء؛ أنّ الدولة صاحبة السلطة القهرية ترى أنهم يريدون تطبيق مبادئهم بأنفسهم، وهذا حقها وواجبها، لذلك لن تسمح بأن تزاحم عليه أو ينتزع منها، وإلا فقدت مبرّر وجودها.

التطرف هو الفعل المتعمّد في تجاوز حدود ما هو متعارف عليه وقارّ في مجتمعٍ ما

أما في نظر جماعات "الإسلام السياسي" الأخرى، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، على سبيل المثال، فإنّ الجماعات المتطرفة والإرهابية مُتعجلة، ولا تأخذ بسنن التدرج.

والمرعب في الأمر هنا؛ أنّه لا يوجد خلاف جوهري بين توحّش تنظيم داعش وتنظيم الإخوان المسلمين، إلا في توقيت إطلاق موجات التوحّش؛ لينحشر الفرد مجبراً بين تطرف وإرهاب الجماعات المتطرفة، وتطرف الدولة المحتكرة للسلطة القهرية.

ويمكن تتبع "جينولوجي" التطرف العنيف والإرهاب في الأفكار والثقافة والمناهج، وتقديس التراث والتاريخ والآراء الفقهية، دون تمييز بين الدين والخطاب الديني والنصوص وفهمها، التي يتجلى فيها الامتلاء بالشعور بالصواب والحقّ، وأنّ الآخر مخطئ وباطل، وعدم إدراك معقولية الآخر وتعلم فلسفة إمكانية تعدد الصواب، وتعدد "الصراطات" واحتمال الخطأ، وأنّ الاستقلال بين الاعتقاد الديني وتنظيم الحياة ضرورة دينية وحياتية.

اقرأ أيضاً: بيرغر: هل استطعنا فهم أسباب التطرف فعلاً؟

في المقابل؛ ينظر كثير من الباحثين في الغرب إلى الأفكار الإسلامية حول الخلافة والجهاد ودوافع المتطرفين والإرهابيّين، على أنها أفكار "متخلفة"، وغير واقعية، وتمثل "العصور الوسطى"، وكأنّها أفكار مفارقة لأصول الدين الإسلامي ومعزولة عن التاريخ الإسلامي، على اعتبار أنّ التاريخ يسير بخطٍ مستقيم وضمن حقب وعصور هي: التاريخ، وما قبل التاريخ، والعصور الوسطى، وعصر الأنوار والنهضة، والرأسمالية، وهكذا. بينما هو لدى المتطرّفين زمن دائري يمكن أن يدور الفلك فيه، لتعود الخلافة مرة أخرى.

وهذا، في رأيي، هو جذر السؤال الذي ظهر في أمريكا والغرب، عقب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، ضدّ أمريكا: لماذا يكرهوننا؟!

بحسب "مؤشر الإرهاب العالمي" فإنّ 99% من قتلى العمليات الإرهابية جرت في الدول التي تعاني من الصراعات والإرهاب السياسي

يؤكد الغرايبة؛ أنّ مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف ما تزال تسير في الاتجاه الخاطئ؛ لأنّ الدول وأجهزتها في مختلف دول العالم مشغولة بأعراض الظاهرة وتجلياتها، أكثر من انشغالها بجوهرها وأسبابها؛ ولذلك تواصل الجماعات المتطرفة والإرهابية اجتذاب وتجنيد المؤيدين، والاستمرار بدفعهم إلى ساحات القتال، والقيام بالعمليات الإرهابية الانتحارية، وتحريض "الذئاب المنفردة" لشنّ الهجمات في مختلف دول العالم.

ولذلك؛ طال الإرهاب (308) مدينة في (77) دولة في العالم، العام 2016، نتج عنها وفاة (25673) شخصاً، معظمهم من المدنيين، وخسائر كبيرة في الممتلكات والأهداف الرخوة، و99% من قتلى العمليات الإرهابية، جرت في الدول التي تعاني أصلاً من الأزمات والصراعات والإرهاب السياسي، بحسب "مؤشر الإرهاب العالمي" (GTI)، الذي يصدره "معهد الاقتصاد والسلام" في سيدني، وهذا يدلّ على مدى عولمة الظاهرة وتخطيها للحدود القومية.

التطرف العنيف والإرهاب الثمرة العفنة للعولمة

أثرت سيرورة العولمة، بآلياتها المختلفة، خاصة التكنولوجية، في زيادة انتشار ظاهرة التطرف العنيف والإرهاب؛ من خلال تفتيتها العنيف للبنى الاجتماعية، وضغطها للزمكان، ما أدّى إلى تحطيم الحواجز الجيوسياسية والنفسية، وعمق الشعور بالمواجهة بين البشر، الأمر الذي تجلّى في صراع الهويات وزيادة حدة التعبير عن الهوية (نحن/ الآخر) والعنف الرمزي، وعودة ظهور الأحزاب القومية، المتطرفة والشعبوية والإسلاموفوبيا، والإجراءات السياسية والاقتصادية الحمائية، والنكوص عن العولمة، وهو ما نلاحظه بسهولة، اليوم، في أمريكا وعدد من الدول الأوروبية.

التدين منتج حضاري اجتماعي يعكس الحالة الاجتماعية والسياسية في المجتمع

وهي ملاحظة مهمة جداً تنبه إليها الغرايبة، حتى إن لم تكن جديدة؛ حيث سبق لعدد من الباحثين في العلاقات المتبادلة بين سيرورة العولمة وظاهرة التطرف الديني والإرهاب "الإسلاموي"، مثل المنظر السياسي الأمريكي بنجامين باربر، الذي وصف الإرهاب بأنّه "الثمرة العفنة للعولمة"، في كتابه المشهور "الجهاد ضدّ عالم الماكدونالدز" (Jihad vs. McWorld, 1995).

والفرنسي أوليفيه روا؛ الذي أشار إلى هذه الفرضية في كتابه "عولمة الإسلام"، حينما أكّد عولمة وانتشار الإسلام كدين روحاني، في مقابل فشل الأصولية كمشروع لإقامة الخلافة أو الدولة الدينية.

إنّ العالم هو الذي يقاوم العولمة، والإسلاميون، من خلال ممارسة التطرف العنيف والإرهاب

لكنّ الجديد في فرضية الغرايبة؛ تأكيده على دور وتسارع تأثير "الشبكة العالمية" في حياتنا المعاصرة، وفي ظاهرة التطرف العنيف والإرهاب في الفضاء الديني الإسلامي؛ من ممارسة العبادات وأشكال التدين، إلى التعليم في المدارس والجامعات، إلى الدستور والقوانين والأنظمة والتشريعات الناظمة للحياة السياسية، في الأحزاب والتنظيمات، وتشكيل الحكومات والمؤسسات الحكومية، وفي كلّ ذلك؛ يلاحظ الغرايبة أنّ الدولة ما تزال هي المسيطر واللاعب الوحيد، وأنّ الجماعات المتطرفة والإرهابية هي الوحيدة التي تنازعها هذا الاحتكار. 

اقرأ أيضاً: جامعة "المصطفى".. أخطر أكاديميات التطرف الإيرانية

إنّ النظام الذي ساهمت بصناعته وتشكله سيرورة العولمة، خاصة الآليات السياسية و(التكنولوجية)، هو الذي سهّل وأنشأ الشروط الموضوعية لفوران مرجل التطرف، والغلوّ، والكراهية، والإرهاب العالمي المعاصر، بهذا الشكل الواسع والعميق؛ حيث يمكن أن نرصد ترافق فورة  صعود الحالة الدينية مع انطلاق سيرورة العولمة المعاصرة، خاصة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، وانسحاب الروس من أفغانستان.

ومن وجهة نظر "شبكة حركات مناهضة العولمة"؛ إنّ العالم هو الذي يقاوم العولمة، والإسلاميون، من خلال ممارسة التطرف العنيف والإرهاب، يعبّرون عن كلّ واحد في عالم يناهض العولمة التي تحتكر القوة في عالم اليوم.

لا يُضير الإرهابيّين أو المتطرفين وصمهم بالإرهاب والتطرف العنيف لأنهم يفتخرون بذلك باعتبارهم حماة الشريعة

وقد باتت هذه المقاربة المخيفة تلقى رواجاً ملحوظاً، عند معارضي العولمة وأدبيات مكافحة التطرف الديني والإرهاب.

لقد كانت فكرة مقاومة العولمة بسيطة، فهذا "النظام الدولي" الذي يكره الموت ويتجنبه، يكون السلاح المميت ضدّه هو أشكال متنوعة من الموت الانتحاري، والتفجير من خلال الإرهاب؛ الثمرة المتعفنة للعولمة، بحسب وصف بنجامين باربر، أو العولمة من الأسفل، بحسب مقاربات اليسار الجديد، والكثير من منظري العولمة.

كيف نواجه التطرف والإرهاب؟

ميزة الغرايبة، في كلّ إنتاجه الفكري، منذ ثلاثة عقود، وليس في هذا الكتاب فقط؛ الذي أخذ منه أربعة أعوام من التحضير؛ أنّه لا يتحدث عن المشكلات والمعضلات، دون أن يطرح وجهة نظره الخاصة، والحلول التي يرى أنّها تساهم في حلّ معضلاته.

وهنا، بعد أن جال في كلّ مجاهل ودروب ظاهرة التطرف العنيف، ولم يترك في الطريق حجراً إلا قلّبه في بحثه عن التطرف؛ قدّم مشروعة البسيط والمكثف حول كيفية "معالجة" أسباب ظاهرة التطرف العنيف والإرهاب، وليست أعراض الظاهرة، التي تقوم على "بناء مشروع كلاني" (Holistic) كبير، يتميز بمشاركة واسعة من كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع؛ ابتداء بالدولة، إلى مؤسسات المجتمع المدني، إلى الأفراد الفاعلين في المجتمع، بهدف "الإصلاح والحوار والانتماء، والمشاركة، والتسامح، والحرية، والتأهيل المجتمعي، وتطوير التعليم والمناهج ووسائل الإعلام، والعدل في أن تتاح الفرص بالتساوي أمام جميع المواطنين؛ للحصول على التعليم والعمل والرعاية الصحية والاجتماعية، والتنافس بعدالة على الوظائف والمناصب، والمكتسبات والموارد، وتأدية الواجبات بالتساوي".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية