في تاريخ نوبل للسلام: الجائزة بين الجدل والحسابات السياسية

نوبل

في تاريخ نوبل للسلام: الجائزة بين الجدل والحسابات السياسية


08/10/2018

في الوقت الذي اعتادت الذاكرة الجمعية الإنسانية الانحياز إلى رموز الحروب وتكريم "إنجازات الموت"، تحت مسمّيات البطولة، بعد إراقة دماء بعض البشر على أيدي بشرٍ آخرين، قلّما احتفى التاريخ بأبطال اختاروا الضفة الأخرى من المشهد؛ وفي هذا السياق تأتي جائزة نوبل للسلام، منذ انطلاقها العام 1901، من أجل تكريم وتخليد أسماء أولئك الذي يحافظون على أرواح البشر حول العالم، ويتجنبون الحرب، أو يعالجون آثار العنف.

وتشهد جائزة نوبل للسلام هذا العام، جدلاً جديداً، بعد منحها إلى كلٍ من العراقية الإيزيدية، ناديا مراد، والطبيب الكونغولي، دينيس ماكويغي، لقاء مواجهتهما للعنف الجنسي المستخدم في الحرب. فقد تعالت أصوات عربية وغير عربية مستذكرةً تاريخ الجائزة "المريب"، إضافةً إلى الحديث عن أنّ دولاً ومؤسساتٍ دولية، لها نصيب من التورط في الحروب والعنف؛ إذ تدعو هذه الأصوات إلى إنهاء أسباب العنف والدمار الأصلية، وليس تكريم الأشخاص على هامش الحروب والنزاعات. فما هي أهم المحطات المثيرة للجدل في تاريخ نوبل للسلام، وما الذي يجعلها عرضةً للشك؟

السلام المفقود

تعريف السلام؛ فكرياً وفلسفياً، أبعد عموماً من أن تضمه جائزة تقدم كل عامٍ إلى شخصٍ أو مجموعة أشخاص، فالسلام يعني أحياناً؛ "الانسجام الاجتماعي الخالي من العدائية بين البشر" وفقاً للفيلسوف، ليو شتراوس، ويعني أحياناً أخرى "التحرر من الخوف والقلق بشأن التعرض لأعمال عنف" و"التقليل من المخاطر بشأن وقوع حروب أو منع احتمالية وقوعها" بحسب ما ورد في كتاب "السلام.. تاريخ العالم" للباحث الأمريكي، أنتوني أدولف.

لكن أي هذه التعريفات، يمكن لجائزة نوبل للسلام أن تحققه أو تقترب منه على الأقل؟

تاريخ الجائزة، حافلٌ بأسماء غريبة ترشحت إليها، وأخرى حازتها، وكانت ضد أن يكون السلام "شاملاً وكاملاً وعادلاً"، كما تشير العبارة الشهيرة التي سمعها العرب تحديداً لعقود، هي عمر الاحتلال الصهيوني لفلسطين. وبتتبع الفائزين بالجائزة، فإن الحاصلين عليها خلال الفترة الواقعة بين عامي 1901 و1910، كانو ممن أسسوا لمبادراتٍ ومجالس عالمية من أجل السلام، من أمثال؛ أوغست بيرنارت وفريدريك باسي، ومنحت الجائزة عموماً، لأشخاص كانوا من أوائل من طرحوا فكرة أن العالم يجب أن ينعم بالسلام.

اقرأ أيضاً: نوبل للسلام لعراقية ساعدت في فضح داعش ودحره

لكن، سرعان ما قامت الحرب العالمية الأولى، ولم تُجدِ جهود الجائزة بنشر فكرة السلام في شيء، وحجبت الجائزة طوال أعوام الحرب منذ 1914 وحتى 1918. ثم تم منحها إلى الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، مقابل مساهمته الأساسية في إنشاء "عصبة الأمم" التي سقطت لأعوام في اختباراتٍ سياسيةٍ عديدة وعسكرية من أجل إرساء السلام، من أبسطها عدم القدرة على "منع إيطاليا من احتلال أثيوبيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، واستمرار السياسات الاستعمارية لدول أوروبية كبريطانيا وفرنسا حتى ستينيات القرن العشرين".

قادة عالميون ترشحوا لنوبل للسلام رغم صنعهم للحروب

وقبل بدء الحرب العالمية الثانية، وصعود قوة أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، ظهرت أوروبا تحديداً، كقارةٍ تضم مجموعةً من الوحوش التي لن يتسع العالم كله لها إن هي تواجهت وتحاربت، وبالتالي، يذكر موقع "أرشيف الحرب العالمية الثانية" أيضاً، كيف أن مسؤولي ورؤساء هذه الدول "تداعوا أكثر من مرةٍ إلى عقد المؤتمرات والحديث عن السلام" غير أنهم في النهاية، لم يجدوا طريقاً إليه، سوى من خلال الحرب والدمار.

قائمة نوبل المثيرة

شهدت الحرب العالمية الثانية مقولاتٍ لزعماء كالأمريكي روزفلت، والبريطاني تشرشل، وحتى هتلر وستالين، تتحدث عن إحلال العدل المطلق والسلام المطلق على الأرض، وانتهت هذه المقولات بمقتل أكثر من خمسين مليون إنسان وتشريد كثيرين، ودمار الكثير من بنى الحياة. لكن هذا كله، لم يمنع من ترشيح هتلر مثلاً لجائزة نوبل للسلام في العام 1939 حين تلقَّت لجنة الجوائز ترشيحاً من البرلماني السويدي "إي جي سي براندت"؛ حيث أراد بذلك الترشيح التهكُّم، وإثارة مناقشة في البرلمان السويدي لفضح المناخ السياسي المؤيد للنازية آنذاك. وكان سبقه ترشيحٌ آخر لموسوليني، وكذلك للرئيس الأمريكي في بدايات القرن العشرين، ثيودور روزفلت، الذي نالها عن إنهائه الحرب الروسية اليابانية، والذي قامت بلاده لاحقاً بضرب اليابان بقنبلتين نوييتين، أحدثتا أكبر دمارٍ يمكن تخيله عبر التاريخ.

يرى أنتوني أدولف أن لحظات السلام نادرة وأن تاريخ البشرية هو تاريخ للحروب وليس تاريخاً للسلام

وغير بعيدٍ عن روزفلت، حصل السياسي الأمريكي المعروف، هنري كيسنجر، على الجائزة منتصف سبعينيات القرن الماضي، بسبب ما عدته لجنة الجائزة "إسهاماً في إنجاح معاهدات السلام مع فيتنام لإنهاء الحرب الفيتنامية الأمريكية" وقد فجرت الجائزة يومها جدلاً عالمياً كبيراً بسبب فظائع أمريكا في فيتنام، وحربها غير المبررة هناك، بالإضافة إلى إشارة سياسية تقول إن كيسنجر "كان مسؤولاً عن العملية السرية لقصف كمبوديا بين الأعوام 1969 و1975، وكان منسقاً للمساعدات السرية الأمريكية التي قدمت إلى الديكتاتوريات العسكرية في الأرجنتين وتشيلي والبرازيل والباراغواي، وتسببت بمقتل الآلاف من المعارضين لحكومات تلك الدول".

إسرائيليون كذلك حازوا هذه الجائزة، مثل؛ شيمعون بيريز وإسحق رابين، وهما ممن شاركا في احتلال فلسطين، ثم تحدثا عن السلام والمعاهدات التي نتجت عن احتلال أرض الفلسطينيين. ولعل أرشيف نوبل، الذي يمكن استخلاص هذه المعلومات منه، يفضح بطريقةٍ أو بأخرى كل محاولات تغطية الحروب والنزاعات العالمية، من خلال عقد معاهدات سلام وجوائز للسلام، لم تغير فعلياً في مصير العالم القائم اليوم.

أفراد عانوا وعملوا يستحقون الجائزة أكثر من السياسيين

ماذا تبقى من نوبل للسلام إذن؟ ربما تحتاج الإجابة على هذا السؤال، النظر إلى طبيعة الجائزة خلال الأعوام العشرة الأخيرة، والتي صارت أقرب لمنح  الجائزة لأشخاص مستقلين أو مؤسساتٍ غير حكومية، وبالعودة إلى هذا العام، يظهر أن ناديا مراد، هي فتاةٌ عانت من الاستغلال الجنسي والعنف الذي مارسه عليها "تنظيم داعش الإرهابي"، قبل أن تهرب من براثنه، وتصبح ناشطةً ضد ممارساته المرعبة.

وفي هذا السياق، قال الباحث والكاتب البحريني "حسن مدن" في مقالةٍ له على موقع "الخليج" بتاريخ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2018 أنه "كثيراً ما منحت نوبل للسلام إلى الأشخاص الخطأ، الذين تلتبس سيرهم بصفحات مثيرة للجدل، وكثيراً ما "تدخلت" السياسة وأهواؤها في توجيه الجائزة نحو شخص بعينه أو جهة بعينها".

اقرأ أيضاً: 10 محطات في مسيرة حائز نوبل الموصوف بـ"كاره الإسلام"

ويقول مدن أيضاً؛ "من النادر أن نجد سياسيين يرتقون إلى مقام الأيقونة، التي تجعلهم محط احترام وتقدير الجميع، بمن فيهم خصومهم، لكن هذا العام لم تذهب الجائزة لسياسيين أو رؤساء دول وإنما إلى شخصيتين عرفا بنشاطهما في الحقل الإنساني". كما يؤكد الباحث أن نيل مراد إضافةً إلى الطبيب ماكويغي الجائزة، هي خطوةٌ في المسار الصحيح. رغم الاعتراضات التي جاءت من أفرادٍ يرون أنّ الحل يكمن في تغيير سياسات الدول الكبرى تجاه تنظيماتٍ إرهابية كداعش مثلاً. وحل بعض المشاكل الإنسانية والحروب من خلال تقديم حلولٍ جذرية، إن صح التعبير.

أكثر من مئة عامٍ على نوبل للسلام ولازال الإنسان يعيش الدمار

وبصورةٍ عامة، أشار، أنتوني أدولف، في كتابه كذلك، إلى أنّ "تاريخ العالم هو تاريخ حروب أكثر منه تاريخ سلام"، وأنه يجب استعادة فترات السلام النادرة من أجل "محاولة تطبيقها في الحاضر". لكن مقولة أدولف هذه، تصطدم بتاريخٍ حديثٍ لجائزة نوبل للسلام، التي لا يستحقها فعلاً سوى أشخاص قلائل ظهروا بمجهوداتٍ إنسانيةٍ وخاصة عظيمة، وخاضوا تجارب واقعية من أجل إيقاف الحروب والعنف والاستغلال الجنسي وقضايا أخرى عديدة في بلدانهم وفي العالم، أما السياسيون، المفترض أنهم أكثر تأثيراً وقدرة، فلم يحققوا السلام، لا قبل تلقيهم هذه الجوائز ولا بعدها.

اقرأ أيضاً: جورج سميث الحائز على "نوبل" للكيمياء معادٍ صلب للصهيونية

ومن باب الاستزادة، فإنّ "غورباتشوف، قائد روسيا الذي حاز نوبل في 1990 عن إنهائه الحرب الباردة بالتعاون مع أمريكا، أرسل دباباته إلى البلطيق لمنع استقلال الدول هناك في العام 1991، وتم قصف بلدة قانا اللبنانية في 1996 بعد نيل شيمعون بيريز الجائزة". بحسب ما يرد في تقريرٍ موسع لصحيفة "الغارديان" ونشر في تشرين أول (أكتوبر) الماضي.

هكذا، يظهر أن مؤسسات العالم الكبرى وسياسييها ودولها، تقوم بإدارة مشكلات هذا العالم وحروبه، ولا تحاول حلها، بل تبني مؤسساتٍ تقوم بمحاولة التخفيف من آثار هذه المشكلات لا أكثر، وهو ما يبقيها عرضة للشك والتساؤل في كل حين، سواء بخصوص جائزة نوبل للسلام ، أو غيرها.

الصفحة الرئيسية