ستيف بانون يؤسس للشعبوية الدولية

ستيف بانون يؤسس للشعبوية الدولية


15/10/2018

جميل مطر

«التاريخ يكتبه المنتصر. وعلى هامشه يشخبط آخرون». وردت هذه العبارة في المقابلة المطولة التي أجراها رئيس تحرير مجلة النيويوركر مع ستيف بانون الذي تولى منصب كبير مستشاري الرئيس دونالد ترامب خلال الشهور الأولى من ولايته. كانت المقابلة إضافة مهمة لكثير عرفناه عن ماضي وحاضر رجل أثار، وما زال يثير، الاهتمام حول حقيقة دوره السياسي ومدى قوته ونفوذه في نظام حكم الرئيس ترامب، والآن في أوروبا.

كثيرون ظنوا في بداية مرحلة خروجه من البيت الأبيض أنه راحل ليس فقط عن مركز القيادة والتوجيه في واشنطون بل راحل عن الحياة السياسية التي وهب نفسه لها قبل عقود عديدة. قيل إن أمله بالرئيس ترامب خاب، وأن أحلامه عن مستقبل أميركا والعالم تكسرت على صخور صراعات النفوذ داخل البيت الأبيض وخضوع ترامب أحياناً لمشيئة من لم يكن بانون يحبهم ولكن أحبهم ترامب. قيل أيضاً إن المؤسسة العسكرية، وقد تعدد ممثلوها حول الرئيس في تلك المرحلة، لم تكن راضية عما يمثله هذا المثقف القادم من زوايا التآمر السياسي التي لا تفتقر إليها العاصمة الأميركية. خافوا أن تتغلب المغامرة ويشتد عود المغامرين بوجود بانون فيصدر عن الرئيس قرارات غير محسوبة نتائجها بحساب دقيق. لعله الحذر المفرط الناتج من الخوف من رئيس لم يتول منصباً سياسياً في حياته، لا نائباً أو شيخاً أو محافظاً أو حتى موظف في مكاتب الادعاء والإدارة العامة.

قيل كذلك إن قادة الحزب الجمهوري لم يتوقفوا يوماً خلال مدة إقامته قريباً من الرئيس عن مراقبته ومحاصرته، فهو الخصم اللدود الذي ربما، مستعيراً تعبير بانون نفسه، شخبط أكثر من غيره في الحملة الانتخابية حتى نجح في فرض دونالد ترامب مرشحاً عن الجمهوريين لرئاسة الجمهورية، نجح على غير إرادة الجمهوريين في بداية الحملة.

قيل أيضاً إن ثقته بشخص الرئيس بلا حدود وكذلك ثقته بما يؤمن به هو نفسه. بانون متفائل إلى درجة قصوى بأن المستقبل سيكون للحكم الشعبوي في كثير من البلدان. يعتقد، وربما عن حق، في أن الجماهير فقدت الثقة في النخب الحاكمة اشتراكية كانت أم رأسمالية. نعرف الآن أن هذه النخب تبادل نظام الرئيس ترامب وربما عن حق هذا الشعور. نذكر مثلاً كيف اختارت نخبة الحكم في الولايات المتحدة الاحتفال برثاء السناتور الجمهوري جون ماكين لتعلن رأيها للرأي العام الأميركي صريحاً ومن دون مواربة، «نحن لا نثق في هذا الرجل. لا نثق في أفكاره ولا في أساليبه». خرج أنصار ترامب يصفون حفل الرثاء باجتماع للمقاومة. هكذا موقفهم من المعارضة لهم، مقاومة للنظام وللشعب.

يعتقد بانون أن العودة للهوية القومية هي السبيل الوحيد للنهوض وبناء وطن جديد. المصرفيون والمسيطرون على أسواق المال يتحملون مسؤولية الفساد في كل مكان وفشل المشروع السياسي في الولايات المتحدة وأغلب دول غرب أوروبا. هؤلاء هم في رأيه الأعداء الحقيقيون لدونالد ترامب ومشروعه الإصلاحي. العدو الآخر للغرب هو الاتحاد الأوروبي. هنا تجدر الإشارة إلى أنه لا دونالد ترامب ولا ستيف بانون أخفيا دورهما في تشجيع البريطانيين من أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ستيف بانون يمقت الإسلام، وإن تعمد دائماً مثل رفيقه ترامب إضافة صفة الراديكالي إلى الإسلام الذي يمقتانه ولا يكفان عن إعلان هذا المقت. الغريب واللافت للانتباه أنهما معاً أو منفردان لا يخفيان تعاطفهما مع روسيا البوتينية. شيء آخر يمقتانه معاً، إنها الصحافة بكل معانيها إلا ما تمكنا من صنعه منها والسيطرة عليه. بانون مثلاً استمر فترة طويلة يصدر دوريته من موقعه الشهير، وهي التي حملت فكره إلى فئة المثقفين والسياسيين المتمردين. ترامب لم يفارق تغريدته التي ساهمت جوهرياً في تغيير شكل وعمل الصحافة التقليدية وبخاصة تلك الصحف والقنوات المتصدرة قطاع الميديا السياسية.

لا أحد، وترامب أولهم، يمكن أن ينسى فضل بانون عليه، أقصد على الرئيس. ففي رأى كثيرين لا يمكن إنكار دور بانون في نقل ترامب من عالم تلفزيون الواقع إلى عالم واقع السياسة في واشنطون. عالمان، أو واقعان، مختلفان والمزج بينهما كما هو حادث حالياً في البيت الأبيض وأسلوب اتخاذ القرار ربما كان السبب وراء العديد من المشكلات التي صار يعاني منها كثير من الناس في أميركا وخارجها.

سألت وتقصيت، عرفت أن ستيف بانون كان أخيراً في البوسنة. لمن لا يعرف وأنا شخصياً لم أكن متابعاً لهذا الجزء من البلقان أخيراً. نعرف أن في البلقان الهويات مسألة حساسة بشكل مستمر وأحياناً بشكل دموي. الشعور القومي دائماً ملتهب. عرفت أن الوضع في البوسنة لم يستقر تماماً والصراع الخارجي عليها مستأنف بشكل متقطع وقد نشط أخيراً. بانون هناك لدعم البوسنيين من أصل صربي، وهؤلاء يسعون إلى الانفصال عن البوسنة والانضمام إلى دولة صربيا، وميولهم في اتجاه روسيا وليس في اتجاه الاتحاد الأوروبي. غريب هذا الأمر. الولايات المتحدة فرضت عقوبات على قادة انفصاليين لمخالفتهم مواد اتفاقية دايتون التي جاءت بالسلام إلى أهل البوسنة. هناك في واشنطن تعمل بنشاط متواصل مجموعة ضغط تؤيد الانفصاليين وبانون في البوسنة يشجع القوميين البوسنيين. هل تعمل أميركا ضد أميركا، أم أن بانون لا يعمل لحساب أميركا، أم أنه ينفذ سياسة خارجية متفقاً عليها بين اثنين، ترامب وبانون؟

واقع الحال يشير بوضوح إلى أن بانون في أوروبا لترتيب وتنظيم تحالف أممي يتشكل من القوى الشعبوية الحاكمة والصاعدة نحو الحكم. أطلق عليه بانون ورفيق بلجيكي اسم «الحركة». يؤكد أنصار بانون أن «الحركة» تكسب كل يوم أنصاراً جدداً وقد حددت وظيفتها في المرحلة الراهنة في «تقديم خدمات وإجراء استقصاءات رأي وعمل تحليلات سياسية تفيد أحزاب أوروبا الشعبوية». أهدافها المعلنة، تأكيد السيادة الوطنية الكاملة على أراضي الدولة، تحصين حدود الدولة، وضع قيود على الهجرة، التصدي للإسلام الراديكالي. أما الهدف العاجل فهو الاستعداد للمشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي المقرر عقدها في أيار (مايو) المقبل والحصول على عدد من المقاعد يكفي لمنع الاتحاد الأوروبي من وضع وإقرار برامج اندماج جديدة بين الدول الأعضاء. ومن أجل هذا الهدف تقرر أن يعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل مؤتمر لكل أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية وحتى اليسارية منها لوضع الترتيبات النهائية لانتخابات أيار 2019.

حصل بانون ورفاقه على تأييد بعض الأحزاب والحكومات الأوروبيىة مثل حكومة إيطاليا التي يتقاسم الحكم فيها تياران شعبويان أحدهما يميني والآخر يساري. حصلوا كذلك على رفض أو تردد أحزاب أخرى مثل حزب الحرية الحاكم في النمسا بالائتلاف مع أحزاب أخرى، إذ خرج السكرتير العام لهذا الحزب ليعلن ملمحاً لدور ونشاط ستيف بانون قائلاً «لا زعامة في أوروبا لشخص من قارة أخرى ولكن لن نعترض على التعاون معه إعلامياً».

يشاهد المهتمون في أوروبا هذه الأيام فيلماً تسجيلياً عن حياة الزعيم ستيف بانون. قرأت تقريراً عن الفيلم جاء فيه أن بانون يظهر في الفيلم مرتدياً نصف بدلة عسكرية. جرى تصوير الفيلم في معسكر مهجور يمشي في شوارعه بانون في زيه العسكري كما مشى غريغوري بك في فيلم سينمائي عن تفاصيل كارثة حلت بسلاح الطيران البريطاني في الحرب العالمية. يتحدث بانون عن ضرورة تقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية ويستعيد إلى الأذهان هزيمة الديموقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويقول بكل فخر «لقد هزمنا في هذه الانتخابات الديموقراطيين ونخبة الحزب الجمهوري». أما هيلاري كلينتون فقد وقعت في المصيدة التي نصبتها لها بنفسي». ينتهي الفيلم بتحذير من أن «لا بديل لحركته سوى الحريق والثورة».

عن "الحياة" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية