الإرهاب المقدس: مقاربات خارج الصندوق الأسود

الإرهاب المقدس: مقاربات خارج الصندوق الأسود


26/11/2017

حظيتْ ظواهر الإرهاب والتطرف الديني بمساحة كبيرةٍ من حقل الدراسات الأمنية والاستخبارية والعنف السياسي بشكل عام، إلا أنّ كتاب الإرهاب المقدس لتيري ايجلتون يقدم عرضاً مختلفاً عن أساليب الدراسة السائدة في المركزيات الأوروبية والأمريكية التي تتعامل ببراغماتية أو واقعية مع هذه الظواهر.

هذه الواقعية، التي تشبه البحث عن الصندوق الأسود بعد حادثة تحطم أو تفجير طائرة، تجعل الوقوف على كتاب الفيلسوف البريطاني اليساري تيري إيجلتون أمراً مهماً، بهدف إلقاء الضوء على مقارباتٍ مختلفةٍ لظاهرة الإرهاب المعاصر الذي تمثله داعش وغيرها من منظمات إرهابية، وذلك من خلال مقارباتٍ نقدية وثقافية تضمّنها  الكتاب مقارنةً بالمقاربات الموجودة في حقول العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاقتصاد السياسي والعولمة.

الكتاب، يتميز بغوصه عميقاً في النفس الإنسانية، وفي أساطير البشر وموروثاتهم الغائرة في جبهة التاريخ. وربما أن هذا ما دفع إيجلتون ليقول في مقدمته إنه يسعى إلى وضع فكرة الرعب والإرهاب ضمن سياقٍ أكثر أصالة ليمكن تسميتها - على نحو فضفاض- ميتافيزيقيا أو لاهوت، محاولاً ربما، إغناء لغة اليسار المنشغلة بصراعاتها مع القوى الإمبريالية، وتحدي لغة اليمين التي تتصدر باب التأويل الأمني والبراغماتي في هذا الحقل.
وبعد صدور الكتاب بنسخته الإنجليزية عام 2005، أي بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية، تم تناوله بالكثير من النقد والتحليل،فرأى فيه بعضهم نوعاً من التمرينِ الأكاديمي على مجانسة المفاهيم والمصطلحات، وعدم الوضوح في جوانبَ أخرى منها مسألة التفريق بين مصطلحي الرعب والإرهاب، وكذلك العلاقة بين الإرهاب والديمقراطية في الغرب خاصة بعد الثورة الفرنسية، أيضاً، التشويش الذي رأوه في مسألة الربط بين آراء الأدباء والشعراء ورجال الدين والفلاسفة، بحسبِ  أستاذ الفكر الأوروبي في جامعة لندن للاقتصاد  "جون غيري" الذي تناول الكتاب في صحيفة الإندبندنت البريطانية بتاريخ 15 سبتمبر (أيلول) 2005.

الأول من نوعه ككتابٍ يربط فكرة الرعب المقدس بالارهاب من خلال مناقشة وتحليل مضمونها الثقافي، الفلسفي، واللاهوتي

وكما تجعل هذه الرؤية النقدية الكتاب عرضةً للانتقاد، فإنها تجعله الأول من نوعه ككتابٍ يربط فكرة الرعب المقدس بالارهاب من خلال مناقشة وتحليل مضمونها الثقافي، الفلسفي، واللاهوتي، حيث تركز هذه الرؤية النقدية على أصول "ميتافيزيقية" للإرهاب، ويتمظهر هذا من خلال نقده المبطن أحياناً، والصريح أحياناً أخرى للمنظومة المعرفية الأورو-أمريكية المسيطرة في حقل الدراسات الأمنية، خاصةً بما تمثله من اعتمادٍ على "النظرية الواقعية" في السياسة.
ومن خلال الفصول الستة التي تُقَسِمُ الكتاب، يتعقب إيجلتون بطريقة ممتعة كما في رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون سلسلةً من الأنسابِ المعقدة ضمن محاولةٍ جينالوجية "دراسة للنشأة" لظاهرة الإرهاب، بدءاً من الشعائر والطقوس القديمة، مروراً بعلم اللاهوت في العهد القروسطي "القرون الوسطى" ومن ثم  السامي في القرن الثامن عشر، وانتهاءً بمدرسة اللاوعي عند فرويد.

صفحات النسخة العربية الصادرةِ عن دار بدايات عام 2007، والتي بلغت 181 صفحة متضمنة المراجع، يبدأها إيجلتون بالتأكيد أن الإرهاب تسمية حديثة لظاهرة قديمة، وأنه ظهر كمصطلحٍ سياسي إبان الثورة الفرنسية، وهو ما قد يعني بالمحصلة أن الإرهاب والدولة الديموقراطية الحديثة توأمانِ منذ الولادة، كما يعني أنه بدأ أول ما بدأ كإرهاب دولة خلال فترة  الرعب التي ترأسها ماكسيمليان روبسبير آنذاك، حيث كان الإرهاب حينها عبارةً عن عنفٌ جامحٍ تمارسهُ الدولة ضد أعدائها، ولم يكن هجوماُ على السلطة العليا من قِبل أعدائها.
وهذا يعني برأي إيجلتون، أن الصلة بين الإرهاب والمقدس غير مرئية من خلال الإرهاب المعاصر المقروء واقعياً، لأنه ليس هنالك معنىً مقدسٌ بوجهٍ خاص في قطع رأس شخص ما باسم الله الرحمن الرحيم مثلاً، أو في حرق الأطفال العرب بقنابل الطائرات باسم الديمقراطية، غير أنه من الصعب فهم الإرهاب دون فهم هذه الثنائية، فالإرهاب يبدأ كفكرة دينية، كما هو الحال في معظم إرهاب اليوم؛ لأن "الدين يتعلق بالقوى المتناقضة التي تنعش الحياة وتدمرها في آن".

الصلة بين الإرهاب والمقدس غير مرئية من خلال الإرهاب المعاصر المقروء واقعياً

ومن هذه النقطة، يعود إيجلتون إلى الوراء في التاريخ، ليجذب ديونيسيوس "إله الخمر والنشوة عن اليونان" من شعره ومن ثم يوقفه على مسرح الإرهاب العالمي اليوم، ليقول بأن ديونيسيوس نصف وحش ونصف إله وأنه أقدم القادة الإرهابيين. أنه إله الخمر والحليب والعسل والنشوة والمسرح والموسيقى والإسراف والإلهام، إلا أنه في المقابل مرعبٌ دموي ومتوحش مع من يخالفه.
وبذلك، فإن ديونيسيوس يعبر عن البشرية، عن الكائن المتناقض الذي هو دوما أكثر أو أقل من ذاته؛ فإما يفتقر إلى شيء ما، وإما يمتلكه بإفراط . والحقيقة عند ايجلتون: "أن كلاً من الآلهة والوحوش خارجون على القانون" ضمن اللاهوت المسيحي الذي يفككه إيجلتون ليظهر الترابط  بين المقدس والمدنس فيه، وكيف يؤدي هذا الترابط إلى صيرورة تقود للتطرف ومن ثم إلى الإرهاب.
ولأجل هذا، يناقش المؤلف فكرة السمو في اللاهوت المسيحي واليهودي أيضاً، وأنّ السمو ليس موضوعاً أو مبدئاً أو كياناً أو كائنا موجوداً؛ لكنه ما يوجد في جميع هذه المعاني، وهو يهزم جميع تلك التجسدات، ويخرس اللغة، فهو سام ٍ بالمعنى الجمالي، ولذا فإن الصورة الوحيدة القابلة للإدراك هي الحب الإنساني، الذي يصطدم بما يقوله توما الأكويني من أن "الله نوع من العدم لا يمكن أن يقال عنه أي كلام يدركه العقل". أي أن التصور عنه خاضع للمقدس والمدنس فقط.

يقدم عرضاً مختلفاً عن أساليب الدراسة السائدة في المركزيات الأوروبية والأمريكية التي تتعامل ببراغماتية أو واقعية مع هذه الظواهر

وانطلاقاً من هذا التحليل، يقول إيجلتون إن مصدر الإرهاب الحقيقي هو النفس الإنسانية، فالأصولي الذي يخشى ذلك الصدع الكامن في الوجود، يحاول رأبه بقيمٍ مطلقةٍ ومتشددةٍ تفرضها ثنائية المقدس والمدنس، فيجازف بذلك مجسداً الإرهابَ بشكلٍ آخر "واقعي أو براغماتي كما يتم تفسيره اليوم".
ورغم صعوبة المسالك التي يمكن الانتقال خلالها من اللاهوت إلى الفلسفة، يتجه المؤلف إلى فلسفة الأنوار تحديداً، لتفتح له باب تفكيك الإرهاب والتطرف الديني وعلاقاتهما بصراع الحرية والأمن في حقبة العولمة المعاصرة، وهو صراع ينحصر في المنظومة المعرفية الغربية على اعتبار أن الحرية التي تتمتع بها، من أكثر الظواهر سمواً في العصر الحديث، فهي مثل الإله ديونيسوس؛ ملاك وشيطان، وجمال وإرهاب في آن.

يتميز بغوصه عميقاً في النفس الإنسانية، وفي أساطير البشر وموروثاتهم الغائرة في جبهة التاريخ

ولقد انشغل إيجلتون بمسألةِ التغيرات والانزياحات التي تعتري المجتمعات الغربية اليوم، ومنها التأثير الواقع على بريطانيا ودولٍ أخرى بسبب مسألة الرعب والتطرف والإرهاب، من حيث بنية وسلوك هذه الدول، وتحولها التدريجي إلى دول شبه بوليسية تحت ضغط الخوف والرعب من الإرهاب.
ولا يغيب عن ذهن المؤلف أن يحلل الإرهاب بأنواعه، كالانتحاري والرمزي والتعبيري والأداتي -على الرغم من أنه لا يشير الى موجة إرهاب الذئاب المنفردة - حيث يبدو موت الفردِ كانتحاري بالنسبة لإيجلتون، منفصلاً عن وجوده المعاش ومتجانساً معه في آن واحد .
فالانتحاري، يأمل بالتخلص من حياته "طوعاً" ليشد الانتباه إلى التباين بين هذا الشكل المتطرف للإرادة الذاتية، وبين غياب إرادة مستقلة في حياته اليومية، وهكذا، يصبح منتصراً وضحية في آن، فيمثل الانتقام والإذلال في آنٍ واحد، ويبدو هذا التحليل قريباً نوعاً ما من تفسيرات "نظرية الإحباط" النفسية التي تفسر التطرف والإرهاب، غير أن المؤلف يتوسع بعض الشيء في هذه المقاربة بتفكيكه لدور المقدس في دفع الانتحاري للإقدام على أفعاله الإرهابية حيث أن المقدس قوة من شقين؛ تحيي وتميت في آنٍ واحد.

هذا التحليل الجينالوجي المعقد لظاهرة الرعب والإرهاب، يقود إيجلتون في النهاية إلى مهاجمة المنظومة المعرفية الغربية وكيفية إدارة مكافحة الإرهاب في أمريكا تحديداً ؛ خاصة في مقاربتها لظاهرة الإرهاب، إذ انتقد مفهوم "الحرب على الإرهاب" الذي صدرته أمريكا إلى العالم بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بحجة أنه يلغي التحليل العقلاني والتفسير التاريخي  لظاهرة الإرهاب المعاصر .
وفي المقابل، ظل يركز على فكرة العدالة الإنسانية ومنح الناس الحرية وحقوق العيش الكريم، معتبراً إياها خط دفاعٍ منيعٍ أمام توحش الإرهاب في عالمنا اليوم.  وبناءً عليه، نراه يختم كتابه بعبارة مكثفةٍ سياسياً واجتماعياً، تحمل نقداً عنيفاً للمركزية الأورو- أمريكية في كيفية إدارة ملف مكافحة التطرف الديني والإرهاب حيث يقول: "ليس الإرهابي كبش فداء؛ لكنه يُخلق من قِبل هذا الكبش، وهو لا يمكن أن يُهزم إلا إذا مُنح العدالة".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية