متى أصبح الانتحار شهقة اليائسين ونظاماً راقياً للحزن؟

مصر

متى أصبح الانتحار شهقة اليائسين ونظاماً راقياً للحزن؟


18/10/2018

"كل انتحار هو نظام راق للحزن". هكذا وصف الأديب الفرنسي أونوريه دو بلزاك الانتحار، ولعلّ هذا ما تخبرنا به صورة الفتاة المصرية، المنتحرة تحت عجلات مترو الأنفاق في القاهرة؛ فالانتحار -رغم اختلافنا أو اتفاقنا معه- هو أقسى وسائل التعبيرعن الغضب؛ حيث لن يجد الغاضب (المنتحر) ردّاً على فعلته؛ لأنّه لم يعد موجوداً بعد.

من هذا؛ انطلق الكاتب الصحفي والباحث، الدكتور ياسر ثابت، في كتابه "شهقة اليائسين" الصادر عام 2012 عن دار التنوير، باحثاً عن أسباب الانتحار، وما هي الوصفة النفسية التي تدفع بأبناء مجتمعاتنا العربية إلى تقديم استقالة نهائية من الحياة.

الخيانات وخيبات الأمل المتلاحقة

لعلّ التفسيرات التي سادت في مجتمعاتنا لقرون حول الانتحار، اتشحت رداءً دينياً، جعلت المنتحر وحده مذنباً أمام الله، عز وجل، والمجتمع، دون تقديم أطروحات علمية تقدم تحليلاً موضوعياً للأمر، ربما تشفع لهذا المنتحر الذي قرر التنازل عن حياته بمحض إرادته، وفضّل الموت على الحياة، بعد أن بدا كلّ شيء في عينيه بلا مبرر، إلّا أنّ النظريات العلمية لم تقدم دلالات على ما يحدث في دماغ هذا الشخص، فمعظمها دانت الحداثة والتطور التكنولوجي اللذين جعلا الإنسان مغترباً عن الطبيعة، فيما جاء النقد ملاحقاً من حالات الانتحار الموثقة من العصور الوسطى، خاصة في أوروبا في إطار هيمنة الكنيسة على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

غلاف كتاب "شهقة الياسمين" للباحت ياسر ثابت

وما اتسّم به الكتاب، كان تحليل الباحث لأفعال بشرية خرجت من كونها حالة فردية، وتحولت إلى ظاهرة، خاصةً بعد ربط الانتحار، كأحد سلوكيات المرض النفسي، الذي بدوره إصابة اجتماعية يتسبب فيه الوضع السياسي والاجتماعي والإنساني القائم في مجتمع ما، ونزع هذا الوشاح الديني وخروجه عن النصّ، ومناقشته كظاهرة يتسبّب بها البشر لبعضهم، باختلاف المجتمعات.

اقرأ أيضاً: هؤلاء ينتحرون أيضاً... حقائق جديدة عن الانتحار

فالدافع الأول للانتحار هو الاغتراب، الذي يتخذ أشكالاً متعددة، ولعلّ ما قدمّه الباحث من الدراسات الأنثربولوجية عن الانتحار في المجتمعات البدائية، يجعل القول "إنّ المُدن الحداثية هي سبب في انتحار أبنائها"، قولاً هشّاً، فقد شهدت المجتمعات البدائية حالات انتحار، وإن اختلفت أسبابها؛ ففي بعض قبائل الأسكيمو يقدِم الكبار والمسنّون على التخلص من حياتهم، حتى لا يمثلوا عبئاً على ذويهم، وقد تسامح الرومان والإغريق وأصحاب الديانات الوثنية مع قتل النفس، ولم يجرموه، حتى جاءت المسيحية؛ التي عدّته كفراً بالمسيح، وخروجاً عن الملّة، ثم أقرّ الإسلام بما جاءت به المسيحية، فصار الانتحار جرماً يتحمّل مسؤوليته صاحبه، لا سلوكاً اجتماعياً يجب التوقف عنده لتفنيد مآلاته بشكل موضوعي.

خريطة الموت المجاني

يأتي الموت في صورة منقذ لأصحاب معاناة صامتة، فقدوا القدرة على التواصل مع المقربين والبوح بما ثقلت به صدورهم، ولعلّ ما أقرّت به الإحصاءات الرسمية عن نسبة المنتحرين في مصر، يستدعي دقّ ناقوس الخطر، وإعلان حالة الطوارئ، لفهم حقيقة الأمر، فقد أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بياناً بأعداد المنتحرين في مصر، منذ عام 2011؛ حيث وصلت إلى مركز السموم المصري 18 ألف حالة انتحار بالسموم فقط، في العام نفسه، فيما بلغت نسبة المحاولات من 50 إلى 60 ألف حالة، ولعلّ الملاحظ؛ أنّ أعمار هؤلاء تتراوح بين 15 – 30 عاماً؛ أي الشباب والمراهقين، وهو ما أرجأه الباحث إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي عانت منها مصر في العقود الأخيرة، وظواهر مثل: العنف الأسري، وحالات الطلاق، والصراع الطبقي المحتدم في مصر، سيما الذي زادت حدّته بعد تردي الحالة الاقتصادية للعديد من الفئات المهمشة في المجتمع المصري.

الباحث وضع يده على الأسباب التي توجه أصابع الاتهام إلى المجتمع كمسؤول عن الدفع بأبنائه إلى هوّة قتل النفس

وضع الباحث ببساطة يده على مكامن الجراح في نفوس المنتحرين، فلا يمكن الجزم بأنّ المرض النفسي هو المحرك وراء هذه الحوادث، حتى يقع الفاعلون تحت طائلة الآية القرآنية: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾، إنما المدقِّق في الحالة المصرية، يجد نفسه أمام وضع اقتصادي متردٍّ، ووضع اجتماعيّ هشّ متداعٍ، أمام وحش العولمة الذي التهم الضعفاء، فبلغت الأرقام، وهي الأصدق، حين ترتفع نسبة الفقر في مصر لقرابة 40%، والبطالة التي تجاوزت 25% للشباب من سنّ 18- 35 عاماً، يجعل الأمر أكثر سهولة على الباحث من الركض وراء شبح مرض نفسي، أو إلقاء الأمر على المدن الحديثة؛ ففي الهند مثلاً: تصدّرت النساء أعلى نسب انتحار في العالم، والمتتبع للحالة الهندية يجد أنّ العنف الواقع على المرأة وحالات الاغتصاب العنيف المتكرّر للنساء، يجعل الانتحار المهرَب الآمن من سلطة المجتمع، وقوة الألم الذي يلاحقهن.

تصدرت النساء في الهند أعلى نسب انتحار في العالم

الانتحار الثوري

مثلت واقعة البوعزيزي في تونس؛ الحدث الفاصل في إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، فمن مواطن تونسي بسيط، يريد كسب عيشه، إلى اهتزاز عروش أباطرة العرب الذين حكموا بلدانهم لعقود زمنية بالحديد والنار. المثل الذي ضربه البوعزيزي بإضرام النيران في نفسه، اعتراضاً على إيذائه البدني والنفسي، ومصادرة مصدر رزقه، عبّر عن حالة القمع التي وصلت إليها المجتمعات العربية، التي لم تجد بديلاً للتعبير عن رأيها سوى إحراق أجسادها، لكنّ الإيجابي في الأمر؛ أنّ نيران البوعزيزي، لم تحرقه وحده، إنما أحرقت عرش بن علي، الذي لم يتمكن من إرضاء الشعب التونسي الثائر، لحقّ أخيهم المواطن المكلوم، الذي أشعلت نيرانه شرارة الغضب في قلوب شباب تونس الذين لم يرتضوا الذلّ والامتهان بعد.

اقرأ أيضاً: الانتحار في العالم العربي يُغيّب الضحايا والوثاثق

لم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى مصر، ونجد من اعتراف الباحث الدكتور ياسر ثابت في تحليله، أنّه بالرغم من تعوّد المصريّين لعقود على حياة الكدّ، والركض وراء لقمة العيش، إلّا أنّ الانتحار، الذي انتشر بعد العام 2011، لم يكن بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وحدها، بل لعبت الحالة الضبابية التي عاشها المصريون في أيام الثورة الأولى، وما تلاها من أعوام، دوراً في إشعال حالة فقدان الأمل في نفوس الشباب، الذين وضعوا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ العقول المهاجرة التي تركت وطنها وذويها راحلة إلى بلدان تقدر عبقريتهم، وتمنحهم فرص حياة أفضل، والشباب العادي، الذي يترك نفسه للإحباط والقلق والخوف من ضبابية المستقبل، أو يبتلعه البحر الذي يمثّل مهرباً من جحيم مصر، إلى جنة أوروبا؛ فإما أن يعود لأهله جثة في تابوت، أو يتمكن من الهرب حاقداً على هذا الوطن الذي لم يترك له أيّة خيارات، إلّا مجابهة الموت لأجل الفرار من الأرض التي ضاقت عليه بما رحبت.

أرجأ الباحث ارتفاع نسب الانتحار في مصر للظروف الاجتماعية والاقتصادية

مهانة وعجز وفتاوى دينية

تعدّ الدولة هي المسؤول، الأول والأخير، عن حالات الانتحار، خاصة المعلنة أسبابها؛ مثلما حدث مع مواطن مصري شنق نفسه؛ لأنّه عجز عن توفير مبلغ قيمته 15 جنيهاً، نفقة زيارة الطبيب لرضيعته المريضة ذات الثلاثة أشهر، وبالفعل لم يكن عجزه عن توفير المبلغ هو السبب، بقدر ما كان القشّة التي قصمت ظهر البعير، وجعلته يترك الدنيا، غير مبالٍ حتى بالرضيعة، متحللاً من الشعور بالخزي والعجز والمهانة الذي يلاحقه، وكعادة أيّ نظام سياسي قمعي، يستخدم الدين لتبرير أفعاله، فقد استخدمت الدولة أئمة المساجد، والمنصات الإعلامية لمحاولة السيطرة على تلك الظاهرة، خوفاً من اشتعال أزمات سياسية أو حركات سياسية مقاومة، مثلما حدث في تونس؛ فنجد مثلاً خطاب صلاح نصار، إمام الجامع الأزهر، الذي استنكر الانتحار، ووصف أسبابه بالواهية، والسبب فيها بعد الإنسان عن ربّه، وما أكّده الشيخ إبراهيم إسماعيل، وكيل وزارة الأوقاف بمحافظة المنوفية، من تعليمات الدولة الصادرة بتوحيد خطبة الجمعة حول "تحريم الانتحار وتكفير المنتحر، منعاً لانتشاره".

يأتي الموت في صورة منقذ لأصحاب معاناة صامتة فقدوا القدرة على التواصل مع المقربين والبوح بما ثقلت به صدورهم

وكلّما تصاعدت العمليات الانتحارية، تصاعدت الخطب الدينية، التي لا تقدم حلولاً سوى أن تحمّل الضحية وعائلته إثم قتل نفسه، بدلاً من تقديم حلول فعلية تخرج الناس من أزماتها الحقيقية، لا الواهية، كما يراها رجال الدين من أبراجهم العاجية، إنما يموت المنتحر مخلفاً الحسرة في قلب عائلته، التي تكتوي بنيران إثم فلذة كبدها، وعذابه في الآخرة، ومرارة فقدانه في الدنيا، وبهذه النقاط أنار الباحث مصابيح على طريق الانتحار، المطعّم بالأشواك، دون تقديم حلول فعلية، لكنّه وضع يده بحرفية على الأسباب التي توجه أصابع الاتهام إلى المجتمع، كمسؤول أول وأخير عن الدفع بأبنائه إلى هوّة قتل النفس التي لا تضاهيها مأساة.

الصفحة الرئيسية