الإعلام والتنوير وبناء البشر

الإعلام والتنوير وبناء البشر


15/11/2018

إبراهيم الصياد

كيف يصبح الإعلام وسيلة استنارة حقيقية؟ حاولتُ الإجابة على هذا السؤال باحثاً ودارساً لكم هائل من الوسائط الإعلامية مرئية ومسموعة ومطبوعة وإلكترونية تسمى في مجملها "الميديا"، وتوصلتُ إلى نتيجة مؤداها أن بعض صانعي الميديا مهما ادعى التحضر والرقي الثقافي، يرى في الإعلام صناعة واستثماراً للمال وليس تنويراً للبشر، بينما يرى البعض الآخر -وهو أكثر اتساقا مع نفسه- أن التنوير عملية لاحقة لما يمكن أن نسميه الرفاهة الاقتصادية، وإن كنت أرى أننا في الحالتين أمام استثمار في المال وآخر في البشر وأتحفظ على ربط عملية التنوير بالرفاهة الاقتصادية.

وعموماً يحتاج الاستثمار في المال توفير مصادر تمويل أو موارد اقتصادية، بالإضافة إلى بنى تحتية وحسابات وأرقام وميزانيات. أما الاستثمار في البشر فيحتاج العلم والمعرفة وقبلهما القيم الأخلاقية. إذن نحن أمام مفهومين كلاهما مهم: الاستثمار المادي والاستثمار المعنوي، أو بعبارة أخرى إننا أمام نهجين؛ أحدهما يسعى للبحث عن مصادر للتمويل المادي وآخر يسعى للبحث عن مراكز للتنوير الفكري. من هنا نكتشف أن المال قضية توظيف موارد، والتنوير قضية توظيف أخلاق وقيم. وهنا نتساءل: هل يمكن أن نزاوج بين المفهومين في صناعة الميديا؟

أعتقد أن تلك هي إشكالية وظيفة الإعلام في عالم اليوم، ونجد أنه من النادر العثور على نموذج نجح في الجمع بين البناء المادي والبناء التنويري في آن. وفي تصوري أن هذا ينقلنا إلى مستوى آخر من التحليل يجعلنا نحدد أين تكمن نقطة البداية. البداية من وجهة نظري هي في كيفية استعادة القيم الغائبة عن مجتمعاتنا العربية، وأعتقد أن وجود منظومة واضحة للقيم سيسهل التعاطي مع احتياجات المجتمع لتحقيق الاستنارة الحقيقية، وهو أمر أصعب من البناء المادي. على أي حال؛ إن السبب الرئيس في كل ما نحن فيه من مشاكل سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية، هو حالة الاختلالات التي أصابت الشخصية العربية خلال العقد الأخير. فقد اهتز نظام القيم في كثير من المجتمعات العربية وظهرت سلوكيات غريبة مثل "عدم الإلتزام بأي شئ".

عدم الالتزام بالقانون والأخلاق واحترام الكبير. بل افتقدت الأجيال الجديدة ما كان يعرف بالمثل الأعلى أو القدوة الحسنة؛ وبدلاً من الشهامة و"الجدعنة"، سمعنا عن سلوكيات فحواها الأنانية والتردي الأخلاقي مثل التحرش أو التنمر الجنسي. ورغم أن هذه المظاهر لم تتحول بعد إلى ظواهر؛ إلا أن هناك سؤالاً منطقياً يفرض نفسه: ما هي أسباب هذا الوضع الذي لا يتسق والأخلاقيات العربية؟

هناك أربعة أسباب:

أولاً: غياب القانون، وما أحدثته ثورات الربيع العربي من تغييرات في الشخصية العربية نتيجة انهيار المنظومة الأمنية والاجتماعية.

ثانياً: عدم وجود قوة لإنفاذ القانون، فتم افتقاد "عامل الردع " الذي يجبر الجميع على احترام القانون.

ثالثاً: تراجع دور مؤسسة الأسرة في بناء النشء، باعتبارها الخلية الأولى في المجتمع، إذ انشغل رب الأسرة بتدبير وضعه الاقتصادي وسط ظروف صعبة وأهمل تربية أولاده. ويلاحظ أن مهمة إعداد النشء تُركت في أيدي مؤسسات أخرى وعوالم افتراضية تتيحها مواقع "التواصل الاجتماعي".

رابعاً: تتفق كثير من الآراء على أن المدرسة فقدت دورها التربوي ودعت إلى إنقاذ العملية التعليمية التي لم تعد كما كانت وبعد أن أصبح التعليم سلعة لها ثمن بعدما كان بالمجان. والواقع أن أحداً لا يستطيع أن يقول إن سبباً واحداً فقط وراء هذا الوضع، بل إن هذه الأسباب مجتمعة هي التي أدت إلى تدني الجانب الأخلاقي في الشارع العربي؛ رغم أن المتخصصين في السياسة وعلم النفس والاجتماع والقانون وعلوم التربية والدين يفسرون مظاهر اهتزاز نظام القيم في المجتمع من منظور تخصص كل منهم.

مما تقدم دعونا نتفق على أن للإعلام دوراً مهماً في بلورة أفكار استعادة القيم في خطط عمل تستهدف خلق حالة مجتمعية من التمسك بقيم المجتمع يساهم فيها تضافر مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني ما يعطي زخماً لعملية إحياء قيم الحق والعدل والأخلاق والعفة والاحترام والحب والجمال. وفي الوقت نفسه لا بد من تبني مشروعات قومية للتربية والتعليم، لكي تسترد المدرسة مكانتها في عملية التنشئة.

خلاصة القول، إن البناء السليم للشخصية العربية مرتبط بوجود منظومة الأخلاق وهي محور الإستنارة الحقيقية التي يجب أن تكون أساساً لمدونات السلوك ومواثيق الشرف الإعلامية والسياسات التحريرية لوسائط الإعلام المختلفة.

عن صحيفة  "الحياة" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية