"من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي".. أركون وكسر الأنساق المغلقة

"من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي".. أركون وكسر الأنساق المغلقة

"من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي".. أركون وكسر الأنساق المغلقة


05/03/2019

إلى متى سيظل وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية والعربية موضع "سجالات جدالية عنيفة وعرضة لصراعات هائجة ولدراسات خلافية متنازع عليها كلما يخطو المفكر خطوة واحدة باتجاه إعادة النظر في المكانة التي حددتها الشريعة للمرأة من خلال آيات قرآنية صريحة غالباً"؟ وإلى متى ستبقى الحكايات الشفوية المنسولة من عالم الغيب زاداً فكرياً للوعي الإيماني؟ وإلى متى سيبقى المفكر يغامر بنفسه ويحاذي عن كثب مخاطر التكفير الأكبر والخلع من أمة المسلمين كلما قارب موضوعاً يثير الحساسية الأخلاقية مثل هذه المواضيع دون التمكن من نقله من الحيز الأخلاقي إلى الوضع القانوني العملي؟

لا يخفى إدراك هالة القداسة التي أُحيط بها الفقهاء من الوعي الإسلامي الشعبي والسلطة السياسية على السواء

وهل يمكن الرهان على أنّ فتح باب الاجتهاد كفيل بتحريره من سلطة الفقهاء "المقدسة"، أم أنّه لا بد من تجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد والذهاب إلى نقد العقل الإسلامي الأصولي والإطلاقي، الذي لم يُتَح له أن يشهد حتى أصولية النقد الكانطي وإطلاقية الديالكتيك الهيغلي؟ وكيف يمكن أن نجعل قرّاء اليوم يتحسسون لمسألة الاختلافات النفسية واللغوية والاجتماعية الثقافية الكائنة بين نظام المعقولية الخاص بالمجتمعات التي لا كتابة لها "الشفوية" وبين الممارسة المنطقية الاستدلالية الخاصة بالعقل الكتابي؟

اقرأ أيضاً: كيف يصنعون الظلام؟.. تفكيك ثالوث الطائفية والتكفير والإرهاب
هذه الأسئلة الإشكالية التي يعالجها كتاب "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي" تشكل محور تفكير الباحث والمفكر الجزائري محمد أركون ليس في كتابه هذا فحسب، والذي جعل من قضية المرأة والإرث في الإسلام أحد محاوره وتساؤلاته، بل تظل ماثلة في مجمل دراساته ومقالاته وعلى مدار مشروعه البحثي الطويل. وهي الأسئلة التي جعلت منه مفكراً إشكالياً ووضعته محل نقد متعدد الجهات: نقد، بل هجوم من التيارات الأصولية، والتيارات الفكرية الحديثة المنفتحة على الحداثة الغربية ومناهجها وأيديولوجياتها السياسية، الليبرالية منها والاشتراكية، التي تحصره في موقع السلفية الليبرالية الجديدة، ونقد من تيار الاستشراق والعقل الغربي الوضعي وأفكاره الملتبسة وغير البريئة تجاه الفكر الشرقي والإسلامي بوجه خاص.

 الباحث والمفكر الجزائري محمد أركون
يعتبر أركون أنّ الاجتهاد من المواضيع الشاقة والصعبة المعالجة، ليس بسبب الحاجة للاستعانة بالعلوم القديمة والحديثة، الإسلامية و"الدخيلة"، لمعالجته فحسب، إنما "لأن مسألة الاجتهاد معتبرة داخل تراث الفكر الإسلامي امتيازاً يحتكره الفقهاء والأئمة المجتهدون"، فهؤلاء قد وضعوا القواعد والأسس القانونية وعلم أصول الفقه لعصرهم وللقرون اللاحقة أيضاً.

اقرأ أيضاً: "الإسلام السياسي بين الأصوليين والعلمانيين".. التطرف الديني إلى أين؟
ولا يخفى على المتبصر، كما يقول، إدراك تلك الهالة من القداسة التي أُحيط بها هؤلاء الفقهاء من قبل الوعي الإسلامي الشعبي من جهة ومن قبل السلطة السياسية من جهة أخرى، بحكم ارتباط اجتهاداتهم بمصالحها ورؤيتها الأيديولوجية في العصر الذي تكونت فيه. 
وبالرغم من قبول الفقهاء أنفسهم بإمكانية الخطأ في تطبيق الاجتهاد إلا أنّ بناءهم قد ولّد وفرض نظام شريعة مغلقاً وهو ما يسميه "التقنين القضائي لأوامر الله ونواهيه"،  وبالرغم من أنّ هذه المدونة الفقهية قد تكونت في عصر التدوين وضمن ظروف تاريخية واجتماعية محددة تماماً، إلا أنّها ترسّخت بفعل الزمن وما تراكم عليها من إرث "العقائد والممارسات الاستدلالية المقالية والتكرار السيكولاستيكي والتصورات الوهمية" حتى أصبحت هي التفسير الصحيح للنصوص المقدسة وكل ما عداها أصبح هرطقة وبدعاً وضلالاً. الأمر الذي يفرض على المفكر المسلم لفتح تلك الأنساق المغلقة وتجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد والممارسة العقلية المرتبطة به أن يفهم تلك الأنساق ويواجهها عندما "يريد أن ينخرط اليوم في تلك المهمة المرعبة المتمثلة بزحزحة شروط الاجتهاد وحدوده من المجال اللاهوتي-القانوني الذي حُصر فيه من قبل الفقهاء إلى مجال التساؤلات الجذرية وغير المعروفة حتى الآن من قبل التراث الإسلامي، أي إلى مجال التساؤلات الخاصة بنقد العقل الإسلامي". 

اقرأ أيضاً: دولة جماعات الإسلام السياسي المستحيلة
لكن المحزن، حسبما يرى أركون، ونظراً لكل تلك التحديات هو "التفاوت الفاضح بين المفكرين العرب والمسلمين وبين المستشرقين، والذي يجعل الاستشراق مستمراً حتى الآن بالافتخار أنّه وحده الذي يقدم الدراسات في مجال الثقافة الإسلامية والفكر العربي"،  فيما لا يبدي المثقفون المسلمون ممن أتيح لهم التدرب على قواعد البحث العلمي الحديث وقواعده ومناهجه ميلاً  لتطبيق النقد التاريخي والفلسفي على المجال الإسلامي.
ومن هنا يرى أركون أنّ نقد العقل الإسلامي مازالت مهمة راهنة ويجب أن يكون للمثقفين المسلمين الدور الأكبر  فيها نظراً لقدرتهم على استشعار الأثر النفسي والعاطفي الذي يتركه هذا النقد بخلخلته للبنيان المعتقدي في نفوس المؤمنين الذين عاشوا قروناً من الاعتقاد أنّهم على صراط مستقيم. 

اقرأ أيضاً: "الدولة والدين" لعبد الإله بلقزيز: وهم الدولة الدينية وحصاد الإسلام الحزبي
لذا يجعل أركون من نقد الاجتهاد بمفهومه الكلاسيكي والقطيعة الإبستمولوجية مع أدواته المعرفية وقواعده المتبعة، مقدمة ومدخلاً لنقد العقل الإسلامي، ويختار من قراءة السورة الثانية عشرة من سورة النساء وتحليل الجزء الثاني منها المتعلق بوضع المرأة وتقسيم الإرث في الإسلام مدخلاً للاشتباك مع اجتهاد الطبري ومداوراته اللغوية  والسردية حول معنى "الكلالة"وتفسيره لتلك الآية، لأنّه يجد فيها كما يقول "المشاكل الأكثر صحة وملاءمة لتوضيح ضرورة الانتقال من مرحلة الاجتهاد إلى مرحلة نقد العقل الإسلامي".
غلاف كتاب "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي"

تقديس الفقهاء والعقلانية المشروطة
يشكل نقد الاجتهاد و"المدونة الفقهية الأرثوذوكسية" التي أصبحت أقنوماً مقدساً في الوعي والمتخيل الإسلامي المحور الأساسي لكتاب محمد أركون، ويذهب الباحث في استقصاء تكوّن تلك المدونة وأسباب قداستها إلى استعراض الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية التي أكسبتها المشروعية التاريخية، وجعلت منها مرجعية متعالية على النقد وراسخة في الوعي الجمعي والقاع النفسي لأمة المسلمين رغم الاختلاف البيّن بين التيارات الإسلامية إلى هذه الدرجة، أو تجاه تلك المرجعية التشريعية في دول المسلمين، خاصة في مواضيع السياسة والخلافة والمرأة والإرث. 

اقرأ أيضاً: "المتعصبون – جنون الإيمان".. قراءة في نفسية مرتكبي العنف
فيشير أركون إلى أنّ المدونة الفقهية التي اكتملت في عصر التدوين جاءت كتوسط بين السردية الشفوية المأخوذة بسحرية كل ما هو غيبي وعجائبي في ذلك العصر، وبين ضرورات تأسيس منهاج دولة من ناحية، وإلى ما بقي عالقاً من إرث القبيلة والتقاليد ما قبل الإسلامية في ذهن المسلمين من ناحية ثانية، الأمر الذي يؤكد أنّ المشرعين من البشر؛ أي الفقهاء الأوائل "قد خضعوا للإكراهات والقيود الاجتماعية-الاقتصادية الخاصة بالمجتمعات التي اشتغلوا فيها"، بل "الفئات الاجتماعية التي اشتغلوا داخلها وبمصالح تلك الفئات وأعرافها وعاداتها وتقاليدها"؛ أي إنّ الفقهاء قد أخضعوا النص إلى المداورة اللفظية واللغوية وتوظيف مفهوم الناسخ والمنسوخ  والذي اقتصر على نسخ الحكم دون نسخ الآية من أجل المحافظة على نظام الإرث العربي الذي كان سائداً قبل الإسلام، والذي حاول الإسلام تعديله أو تغيره بشكل جذري،  وهو ما جعل التفسير يتحول إلى أن يصبح المصدر الأساسي للفقه والقضاء وليس النص القرآني المقدس ذاته. 
الإجماع والأرثوذوكسية
يشير أركون في هذا الباب إلى أنّ الإجماع يشكل أحد أصول القانون الديني كما يشكل علامة من علامات الأرثوذوكسية التي ترسخ وحدة الأمة، ويفرض الانصياع له حفظاً لهذه الوحدة، لكن السؤال الذي يطرحه أركون حول الإجماع هو: إجماع من؟ وما هو عددهم؟  فإجماع المسلمين على مسألة من مسائل العقيدة "ناتج عن صيرورة اجتماعية وثقافية، وعن جملة المناقشات والصراعات والتحضيرات التي أدت إلى انتقاء بعض العناصر وحذف بعضها تحت ضغط الإكراهات الأيديولوجية والضغوط السياسية والأنظمة المعرفية التي لم تدرس حتى الآن بشكل دقيق وشامل" من وجهة نظر النقد التاريخي.

اقرأ أيضاً: "السلطة في الإسلام": عبدالجواد ياسين يفك اشتباك النص والتاريخ
الأمر الذي يفرض التساؤل حول الشروط العارضة والتعسفية والخيالية التي أدت لتحقيق كل إجماع، وكيف تحول هذا الإجماع مع مرور الزمن إلى عرف راسخ غير قابل للمحاججة والتغيير رغم ما فيه من ضعف واختلال منطقي وما فيه من ثغرات وتناقضات ورغم تبدل الظروف والأحوال طالما أنّه قد "سُجل من قبل الفقهاء في نصوص مقدسة على هيئة صياغات لغوية، كأجمع أهل القبلة، أو أجمع المسلمون"، ما يفرض على الباحث التساؤل حول النظام المعرفي الذي يمكن استخلاصه من الممارسات التفسيرية الإسلامية والعلوم الملحقة بها كعلم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والنحو والخطابة وعلم المعاني.. والمكانة الإبستمولوجية لهذا النظام المعرفي الذي تشكل في القرون الوسطى وبالاعتماد على السرديات الشفوية المنفتحة على سحرية التخيلي والعجائبي بواسطة الوعاظ والمحدثين، فيما لم يؤدِ الانتقال من المرحلة الشفوية إلى المرحلة الكتابية إلى تعديل العلاقة بين العقل والمتخيل الإسلامي الذي بقي منفتحاً على العجيب والمدهش والساحر والخلاب. 

اقرأ أيضاً: المثقف اللامنتمي: مواجهة الفكر والسلطة في التاريخ الإسلامي
ولم يتح للفكر العربي الإسلامي في عصر النهضة أو ما يسميه أركون "بالفاصل الليبرالي" كسر أغلال تلك الأرثوذوكسية السائدة وفتح تلك الملفات التي أُغلقت من دون حق أو بتسرع يشبه الخلسة منذ القرن الرابع الهجري، فعادت الأرثوذوكسية بصفتها ظاهرة اجتماعية-ثقافية تفرض نفسها بعنف وقوة متزايدة تحت ضغط التحديات التي فرضها الصراع ضد الاستعمار الغربي والإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، والاستراتيجيات التي يتبعها الغرب للهيمنة على المجتمعات العربية والإسلامية، وظهور الأنظمة القسرية والقوماوية المغامرة بعد الاستقلال، والسياسة الديماغوجية للتعريب، والقطيعة التاريخية الجذرية مع التراث.

اقرأ أيضاً: "أشواك" سيد قطب.. هل تصنع المرأة متطرفاً؟
فكل تلك التحديات "تجعل اليوم كل محاولة لتحديث الفكر الإسلامي وتوحيده شيئاً بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً". ومع ذلك يحاول أركون القيام  بهذه المهمة العبثية حسب وصفه عن "طريق تقديم بعض المقترحات من أجل تشكيل ( تيولوجيا-إناسية –منطقية) للوحي". 
وسواء اتفق القارئ أو اختلف مع مقترحات أركون ومشروعه النقدي للعقل الإسلامي، وفكره الإشكالي الذي يحتاج إلى المزيد من القراءة والبحث والنقد حتى تتضح جميع مراميه الفكرية والسياسية.  يُحسَب للرجل أنّه وقف حياته ومسيرته البحثية الطويلة في سبيل هذا العمل مهموماً بواقع مجتمعه ومستقبله، ساعياً نحو تغيره وتحديثه بالاستفادة من مكتسبات العلوم الحديثة التي حصلها وتوظيفها في تلك المهمة الشاقة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية