المعتزلة.. ضرورة البناء والنقد

المعتزلة.. ضرورة البناء والنقد


17/04/2019

تبقَى مدرسة المعتزلة في تاريخ الفكر الإسلامي، كمدرسة كلامية وسياسية، ذات أثر فعّال، وقدوة منهجية متجددة، رغم ظهورها وبزوغ نجمها كأيديولوجية رسمية للدولة العباسية، على امتداد نحو 27 عاماً من حكم المأمون إلى الواثق؛ إذ كان الاعتزال مذهباً رسمياً لدولة الخلافة العباسية منذ تبنّي الخليفة المأمون مبادئه وأصوله الخمسة، سواء في أصول الدين أو في السلطة أو في القضاء، حتى كان مذهب الاعتزال هو السائد من خلال قوة الدفع القاهرة بسطوة القوة والمُلك، جنباً إلى جنب مع قوة الدفع الهادئة من خلال الحِجاج والجدال والمناظرة.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً

وبفضل المنهج الديالكتيكي للمذهب الاعتزالي قُدّر له البقاء والشُّهرة، رغم انحصاره في أوساط المثقفين والنُّخَب البرجوازية، حتى إنّ الملطي، أحد أهم خصومهم، لا يجد غضاضة من الاعتراف بأنّ المعتزلة هم "أرباب الكلام، وأصحاب الجدل، والتمييز والنزر، والاستنباط، والحجج على من خالفهم، وأنواع الكلام، وهم المفرّقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصِفون في مناظرة الخصوم".

سلطة العقل على النصّ عند المعتزلة
 
كان الاعتزال، إذاً، منهجاً كلامياً وسياسياً، ذا معارف خاصة، تعتمد على تحرير الفكر الإسلامي من التقليد وقراءة وفهم النص الديني فهماً ظاهرياً، فأذن الاعتزال بظهور "منهج معرفي" لم يُسبق إليه، يقوم على قاعدة أسبقية العقل على الوحي، بمعنى أنّ للعقل سلطة على النص، ليتفجّر الصراع الفكري، بل السياسي، في المحيط الإسلامي، وتتوالى المنهجيات والأفكار المضادة، والصراعات المتباينة، بين ثنائية العقل والنقل، أو التجديد والجمود، في الفكر الإسلامي منذ ظهور الفكر الاعتزالي وحتى الآن.

كان الاعتزال إضافة مهمة للفكر الإسلامي إذ تمحور حول طائفة من المعاني التي لا تستغني عنها أيّة نهضة

بالطبع، لا ندعو في هذه السطور القليلة إلى ضرورة إحياء الفكر الاعتزالي في محيط الفكر الإسلامي الآن، فهذا مما يتنافى مع حركة التاريخ وديالكتيكية الفكر، لكننا ندعو للنظر إلى القيمة، فقد كان الاعتزال، بلا شكّ، إضافة مهمة للفكر الإسلامي؛ ذلك أنّه تمحور حول طائفة من المعاني الخالدة التي لا تستغني عنها أيّة نهضة، مثل: التجديد والحوار البنّاء والنظر العقلي والنقد والتأويل والشكّ، وغير ذلك من معانٍ تُعانق أيّة نهضة عقلية وحداثية، وهو ما يجعل من الاعتزال مقدمةً وأساساً للبناء الحداثي؛ لتحرير الفكر الإسلامي من الركود والظاهرية والقراءات المتعسِّفة التي تجعل للسلف، وهم في قبورهم، سُلطةً على الخلَف، وهم أحياء، يتطلعون إلى التجديد والتطوير والبناء.

تطوير مبادئ المعتزلة واستبعاد ما هو غير مناسب

إنَّ نظرةَ المعتزلة إلى النصوص الدينية، قرآناً وحديثاً، استطاعت إحداثَ طفرة في قراءة تلك النصوص قراءة تأويلية محكومة بالعقل والمنطق والتاريخانية، وهو ما سهّل لهم التفاعل مع تلك النصوص، والتعاطي معها لا كقوالب جامدة، بل كمُعطيات وتفاعلات مع الواقع المعيش، وأصول للبناء الفكري المتجدد، فليس النصُّ، على عمومه، مهيمناً؛ لأنّ العقل يتأسّس عليه فهم النصّ وفهم محمولاته، لذلك كان الدليل العقلي عند المعتزلة موجِّهاً معرفياً وعقائدياً، وأساساً في البرهان والاستدلال.

بفضل المنهج الديالكتيكي للمذهب الاعتزالي قُدّر له البقاء والشُّهرة رغم انحصاره في أوساط المثقفين والنُّخَب البرجوازية

لا ندّعي، ونحن في الألفية الثالثة، وبعد تطوّر الفلسفة الإسلامية والمنطق وانفتاحهما على الدراسات الحديثة المختلِفة، أنّ إحياء واستدعاء الفكر الاعتزالي وأصوله الخمسة: التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمرٌ مطلوب؛ لأننا إذا ادّعينا ذلك فإنما نكون كمَن يريد إيقاف عقارب الساعة عند حدود القرن الثالث الهجري، وهو قرن بزوغ نجم مدرسة الاعتزال وسطوتها، لكننا نريد البناء على ذلك الفكر العقلي الذي نما وتطور قبل التأثيرات اليونانية في الفكر الإسلامي، وهذا يدعونا بدوره إلى تجديد مبادئ المعتزلة، ولا سيما ما يتصل منها بالعقل والحرية والاختيار، وإلغاء ما هو غير مناسب منها في الوقت الحالي، خصوصاً مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ذلك المبدأ الذي ربما كان له أثره السلبي الكبير طوال القرون الماضية؛ لاستغلاله سياسياً، واستخدامه كمبرّر للسلطوية والاستبداد، أو استخدامه من قِبَل جماعات الإسلام السياسي، قديماً وحديثاً، كمبدأ تمكين باسم النص المقدّس المؤسس.

الفكر الاعتزالي وجذور التنوير

لقد وُجدت أصداء للفكر الاعتزالي على امتداد تاريخ الإسلام، منذ العصر العباسي، واحتضان الفكر الشيعي له عقدياً، وكذا الفكر الإباضي، مروراً بمدرسة جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، في القرن التاسع عشر، وانتهاءً بالمفكرين: نصر حامد أبو زيد، وعلي مبروك، ومن قبلهما المفكّر الإيراني عبدالكريم سروش.

ليس المطلوب إحياء الفكر الاعتزالي وأصوله لكننا نريد البناء على ذلك الفكر العقلي الذي نما قبل التأثيرات اليونانية بالفكر الإسلامي

وعلى الرغم من الضربات التي كِيلَت لهذا الفكر بعد محنة المعتزلة على يد الخليفة العباسي العاشر، الخليفة المتوكل، وسيادة الفكر الرجعي، فقد كانت الأصداء مؤذنة بتجدد هذا الفكر، وبإمكانية اتخاذه مرجعية للتطوير، ووسيلة لفهم الدين فهماً تاريخياً، أصلاً للتأويل/الهرمنيوطيقا، ومدخلاً للبناء النقدي، وهذا كلّه، التطوير، والتاريخية، والتأويل، والنقد، من وجوه الحداثة ولوازم التنوير الذي نبتغيه؛ حيث يمكن القول إنّ التاريخ الإسلامي يتضمن جذوراً تنويرية وعقلانية يمكن البناء عليها، واستغلال ما يصلح منها، حتى لا نكون بلا جذور.

لقد أكّد المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد أنّ فكر المعتزلة ومنهجهم قوامه "التحوّل من المنهج الديني الخالص إلى الطريقة الجدلية التي يهمّها الانتصار على الخصم عن طريق إيراد مقدمات شائعة مشهورة، لا يستطيع الخصم المنازعة في صحتها"، وهو ما يؤكد أهمية استدعاء هذا الفكر، لا من باب التقليد وإعادة الأفكار؛ بل من باب البناء والنقد والفرز والمواجهة الفكرية مع المختلفين، واستدعاء معاني الشكّ، والمساءلة وإعمال العقل والاشتباك مع الواقع، والانتقال بالقرآن الكريم من كونه نصاً إلى كونه خطاباً مفهوماً، يرتبط بالواقع والتاريخ، عندئذ نستطيع مواجهة أيّ فكر ما ورائي، ونفعي، يوقف حاضرنا ومستقبلنا عند القرون الخوالي.

اقرأ أيضاً: المعتزلة قادوا ثورة العقل لتعرية ظلم السياسة ومفاسدها

الصفحة الرئيسية