بين التكيف والتمرد... كيف تؤثر الأزمة الاقتصادية على الحالة الدينية؟

بين التكيف والتمرد... كيف تؤثر الأزمة الاقتصادية على الحالة الدينية؟

بين التكيف والتمرد... كيف تؤثر الأزمة الاقتصادية على الحالة الدينية؟


07/03/2024

يمر المجتمع المصري بأزمة اقتصادية حادة تركت آثارها على الحياة بشكل عام، وأصبحت هي القضية الرئيسية المسيطرة على تفكير الأفراد وعلى حديثهم بشكل مستمر، ونتج عن هذه الأزمة العديد من الآثار مثل تغير أنماط الاستهلاك، وعجز الأفراد عن تلبية الاحتياجات الأساسية والوفاء بالالتزامات المختلفة، وحدوث تغير في التركيب الطبقي في المجتمع، وتأثر العلاقات الاجتماعية نتيجة غلاء الأسعار وعدم القدرة على القيام ببعض الواجبات التي يتطلبها التواصل الاجتماعي، إلا أنّ الأثر الأهم والأخطر هو شعور الأفراد بالخوف من المستقبل وافتقادهم للشعور بالأمان والاستقرار نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتقلبة.

وفي ظل مناخ كهذا يبحث الناس عن ملاذ يوفر لهم الشعور بالأمن والطمأنينة، ويمدهم بتفسير وتبرير لما يحدث، ويقدم لهم عزاءً دنيوياً وأخروياً عمّا يعانون من حرمان وفقر، وكثير من الأفراد يجدون هذا الملاذ في الدين، فهو بما فيه من جوانب روحية وقيم تحث على التعلق بالآخرة وتهون من شأن الدنيا؛ يجدون فيه طمأنة وعزاءً في ظل أوضاع يجدون أنّهم عاجزون عن احتمالها أو تغييرها.

فكيف تساهم الأزمة الاقتصادية الحالية في زيادة الاتجاه نحو التدين، وهل ثمة تفسيرات علمية لهذا، وهل يؤدي هذا التدين إلى التكيف أم إلى التمرد، خاصة مع وجود ظروف مختلفة تدعم كلا الخيارين؟

الدين كملاذ

لم يتمتع الدين بمكانة ثابتة في تاريخ المجتمعات، وقد اختلفت من مجتمع إلى آخر ومن وقت إلى آخر، واختلفت معها درجة حضوره وتأثيره، وعلى الرغم من تلك التوقعات التي كانت لدى العلماء في الغرب منذ عصر التنوير بانحسار دور الدين في المجتمعات وضعفه مع الوقت، حيث كان لديهم تصور بأنّه مع تقدم العلم والعقلانية وتطور المجتمع الصناعي سوف يفقد الدين مكانته وحضوره، وأنّ المجتمعات سوف تتجه إلى العلمنة بشكل تدريجي، إلا أنّ الأمور لم تسر على هذا النحو؛ فمنذ النصف الثاني من القرن الـ (20) شهدت المجتمعات بشكل عام عودة الأديان إلى دائرة التأثير بنسب وصور مختلفة وصارت "أطروحة موت الدين عُرضة على نحو مستمر وبطيء لنقد متنامٍ في العقد الأخير، وتواجه نظرية العلمنة حالياً التحدي الأكثر جدية في تاريخها الطويل، إذ يؤكد نقادها أنّ ثمة اليوم مؤشرات عدة دالة على استمرار الدين وحيويته"، ويرى على سبيل المثال عالم الاجتماع الأمريكي بيتر بيرغر أنّ "العالم اليوم، مع بعض الاستثناءات، متدين بشراسة مثلما كان من قبل، وهو في بعض الأماكن أكثر تديناً ممّا كان، ويدل ذلك على أنّ أدبيات المؤرخين وعلماء الاجتماع جميعها حول نظرية العلمنة كانت خاطئة بشكل جوهري"، ومع ذلك فهذه النتيجة ليست حاسمة بهذا الشكل، فبالنسبة إلى المجتمعات الإسلامية هناك عوامل عديدة ساهمت في تزايد الاتجاه نحو العلمنة خاصة في الأعوام الأخيرة، لكن بدرجة أقلّ من نسبة الاتجاه نحو التدين. 

يمر المجتمع المصري بأزمة اقتصادية حادة ككثير من مجتمعات بلدان العالم

وبشكل عام هناك مؤشرات تفيد بتزايد الاتجاه نحو التدين بصورة أكبر في المجتمعات الأقل تقدماً والتي ينتمي إليها العديد من دول العالم الإسلامي، وهناك بعض النظريات الاجتماعية التي تحاول تفسير هذه الظاهرة، منها نظرية تُسمّى "الأمن الوجودي"، ومضمون هذه النظرية أنّ ثمة علاقة طردية بين درجة تعرّض سكان مجتمع معين للمخاطر وبين نسبة الاتجاه نحو التدين، حيث إنّه كلما زادت المخاطر التي يتعرض لها الأفراد بأشكالها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والجسدية والنفسية، زادت نسبة التدين في المجتمع، ويعود تفسير ذلك إلى أنّ الأزمات والمخاطر التي يتعرض لها الأفراد في المجتمع تؤدي إلى افتقادهم للشعور بالأمن، وهذا بدوره يدفعهم إلى البحث عن ملاذ يوفر لهم هذا الشعور، ويجد الكثير من الأفراد هذا الملاذ في الدين الذي يوفر لهم شعوراً بالأمن والطمأنينة، حيث يقدم لهم إجابة عن العديد من الأسئلة، وتفسيراً لما يعيشون من أوضاع وما يلاقون من أزمات، وعزاءً وتعويضاً سواء دنيوياً أو أخروياً لما يعانون من حرمان، "عملياً توفر ثقافة الأديان الرئيسة جميعها في العالم طمأنينة معينة حين يعجز الفرد وحده عن فهم ما سيحصل أو عن توقعه، حيث إنّ قوة عليا تضمن سير الأمور على ما يرام"، كما يعبر عن هذا المعنى كارل ماركس عندما وصف الدين بأنّه "زفرة المخلوق المضطهد، ومهجة عالم بلا قلب، وهو أيضاً روح الظروف الاجتماعية التي أُقصيت منها الروح، وهو أفيون الشعوب"، وعلى ذلك يمثل الدين للبعض في ظل واقع مليء بالأزمات التي تفقدهم الشعور بالأمن والاستقرار، وتبعث بداخلهم مشاعر الخوف والقلق، يمثل لهم مصدراً للطمأنينة والراحة، حتى وإن كانت في بعض الأحيان طمأنينة لا تعتمد على حقائق ولكن على أوهام، فالوهم في سياق معين يكون بالنسبة إلى البعض أفضل من حقيقة صادمة أو واقع مر! 

بين التكيف والتمرد

من خلال هذه الوظيفة التي يقوم بها الدين وهي تقديم الإجابة والتفسير والعزاء؛ فإنّه يساعد الأفراد على التكيف مع الواقع وتقبله وعدم السعي إلى تغييره، حيث يقومون باستدعاء بعض المعاني من خلال النصوص الدينية والنماذج التاريخية والآراء الفقهية التي تعطي تفسيراً وتبريراً للظلم والفقر والتفاوت الطبقي وسوء الأوضاع القائمة، فكلما ازداد إيمان الفرد، ازدادت درجة ابتلائه في الدنيا، وأنّ الابتلاء مكفر للذنوب، وأنّ ما يحدث من أزمات وفساد وظلم إنّما هو بسبب الابتعاد عن الدين، وأنّ الرجوع إلى الدين وزيادة درجة التدين هي السبب في إصلاح الأوضاع، وأنّ الرزق مقدر قبل مولد الإنسان لا يستطيع تغييره، ومن المعاني التي تمثل فكرة العزاء والتعويض الدنيوي والأخروي أنّ الصبر مفتاح الفرج، وأنّ الدنيا يعطيها الله لمن يحب ومن لا يحب، لكنّ الآخرة لا يعطها إلا لمن أحب، وأنّ الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء لأنّهم لم يمتلكوا من المال ما يطيل حسابهم، وهكذا يمثل الدين للبعض ملاذاً آمناً ومظلة يحتمون بها تقيهم حر واقع لا يستطيعون تحمله ولا يملكون دفعه في الوقت نفسه.

في دراسة عن التدين الشعبي لمجموعة من فقراء الحضر يرصد الدكتور عبد الله شلبي أستاذ علم الاجتماع هذه الظاهرة، ويرى من خلال دراسته الميدانية أنّ الفقراء يلجؤون إلى الدين كآلية دفاعية في ظل مناخ مليء باليأس من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السيئة، "وفي سياق مناخ مفعم باليأس وفقدان الأمل تحول الفقراء إلى ربهم المتعالي وإلى أوليائه الصالحين في الأرض، وإلى دينهم فحملوا ربهم مسؤولية فقرهم وشقائهم، وتركوا له مهمة تغيير أحوالهم والقصاص لهم من ظالميهم، ووجدوا في دينهم ما يمكنهم من تشكيل قناعات تجري مصالحة مع واقع حياتهم، وتسوغ الفقر والطبقية والتفاوت، وتحقق لهم قبول هذه الأوضاع والرضا عنها وبها، وتمنحهم في الوقت ذاته عزاءً ربانياً إلهياً عن فقرهم وتدينهم، إلى حد اعتبار هذه الأوضاع ظواهر إلهية وقدراً محتوماً وتعبيراً عن مشيئة الله وإرادته النافذة في خلقه"، كما تعطي الدراسة بعض نماذج من القناعات التي تحكم تفكير الأفراد محل الدراسة وتساهم في تكيفهم مع الواقع وتبريره وتقبله، حيث يرى البعض منهم أنّ "الفقر نعمة من الله، وأنّ الله خلق الناس درجات، وأنّ من الناس من لا يصلح معه سوى الفقر لأنّ الغنى سوف يفسده، وأنّ التمرد على الفقر والشكوى منه كفر، وأنّ الضيق يأتي بعده الفرج، وأنّ الفقر والغني قدر محتوم ولا حيلة في الرزق... إلخ"، وهي كلها مقولات تعبر عن قناعات مصدرها بعض النصوص والآثار الدينية.

هناك مؤشرات تفيد بتزايد الاتجاه نحو التدين بصورة أكبر في المجتمعات الأقل تقدماً

لكن، على الرغم من ذلك، ليس التكيف هو النتيجة الحتمية للتدين، ففي سياقات أخرى يأتي التمرد على الأوضاع القائمة والعمل على تغييرها نتيجة له كذلك، والسؤال الذي نود طرحه هنا هو: في السياق الحالي في المجتمع المصري هل يؤدي التدين إلى التكيف أم إلى التمرد؟

هناك عدد من المعطيات التي يمكن طرحها في البداية، والتي على ضوئها يمكن الإجابة عن هذا السؤال؛ الأمر الأوّل أنّ الإسلام به بذور التكيف والتمرد معاً، حيث به من النصوص والنماذج التاريخية وأقوال السلف والأحكام والآراء الفقهية ما ينتج عنه قناعات، كالتي ذكرناها سلفاً، تساهم في تقبل الأفراد للواقع وما به من أزمات ومشكلات والتكيف معها وعدم السعي إلى تغييرها، ومنها كذلك ما يجعلهم يرفضون ذلك الواقع ويحثهم ويدفعهم نحو التغيير والتمرد والثورة، وقد نتج عن هذين النوعين تيارات وجماعات إسلامية مختلفة قديماً وحديثاً، فنجد في العصر الحالي مثلاً جماعات صوفية وتيارات سلفية تتعايش مع الواقع ولا يوجد لديها رفض له ولا رغبة في تغييره والتمرد عليه، كما نجد تيارات سلفية أخرى وجماعات ترفض الواقع بدرجات متفاوتة وتعمل على تغييره بطرق مختلفة منها المتدرج السلمي ومنها الجذري العنيف، والأمر الثاني هو الصراع السياسي القائم بين الدولة وبعض التيارات والجماعات الإسلامية، والذي ينتج عنه خطاب لهذه الجماعات يحث على الثورة والتمرد ويدفع الأفراد إلى تغيير النظام، ويتم توظيف الأزمة الاقتصادية التي يمر بها المجتمع في هذا الإطار، والأمر الثالث هو الخبرة السابقة التي تكونت من تجربة الثورة في العام 2011 وما شهده المجتمع من تبعات وتداعيات أثرت على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخلقت العديد من الأزمات كنتيجة لسعي المجتمع إلى التغيير، وهو الأمر الذي خلق قناعة لدى البعض بأنّ محاولات التغيير لها كلفة كبيرة ربما لا يرغبون في دفعها مرة أخرى، والأمر الرابع هو أنّ الأوضاع الاقتصادية القائمة على الرغم من آثارها؛ إلا أنّ ذلك قد يكون سبباً لدى البعض في رفض التمرد لأنّ تبعات ذلك التمرد هو تأزم الأوضاع الاقتصادية بشكل أكبر، والأمر الأخير هو طبيعة الشخصية المصرية ذاتها التي لها بعض السمات الخاصة المميزة لها، ومنها أنّها شخصية تعظّم الحاكم وتخضع له وتدين له بالولاء، وهي أمور ترسخت بداخل الشخصية المصرية منذ آلاف الأعوام"، وإذا كان من الصحيح تاريخياً أنّ المصريين قد أقاموا أقدم حضارات الدنيا، فإنّه من الصحيح أيضاً أنّهم أقدم ديكتاتوريتها، سجدوا لها وقدسوا حكوماتهم مهما كان الذي يتربع على العرش، وتلذذوا بطغيان حكامهم الذين امتهنوا إرادتهم وفرضوا عليهم الذل والخضوع، إلا أنّهم وللمفارقة، يبلغ بهم الحزن مداه إذا ما فقدوا حاكمهم الطاغية"، ووفق دراسة أخرى حول الشخصية المصرية تناولت عدداً من السمات المميزة لها ومنها سمة الصبر، حيث ترى أنّ الصبر لدى المصري له مفاهيم مختلفة بعضها أكثر انتشاراً من الآخر، كما أنّ الصبر مرتبط بطبقات اجتماعية أكثر من أخرى، ومن المفاهيم الموجودة للصبر في ذهن المصري أنّه يعني الإيمان بالقدر كمفهوم ديني، وعدم الغضب، وتحمل الظروف القاسية، وتحمل الظلم، وكشفت الدراسة عن أنّ المفهوم الأكثر انتشاراً للصبر لدى المصري هو المفهوم الديني، وأنّ الطبقات الاجتماعية الدنيا هي الأكثر صبراً، ويعود تفسير ذلك في الدراسة إلى أمرين: الأول هو التدين، فالدين هنا له حضور ومركزية في المجتمع، ولذلك يأتي الصبر مستمداً من القيم والتعاليم الدينية والنصوص التي تحض عليه، والثاني هو الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث إنّها تنتج نوعاً من التكيف لدى الأفراد حتى يستطيعوا الاستمرار في الحياة، لكنّ الدراسة كشفت كذلك عن أنّ الصبر لدى الشخصية المصرية غير مطلق، فهناك عتبة للصبر تتمثل في قدرة الإنسان على توفير احتياجاته الأساسية في الحياة، لكن إذا شعر بتهديد لتلك الحاجات ممّا يشعره بالخطر الوجودي، فإنّ صبره ربما ينفد حينها.

من خلال هذه المعطيات يمكن القول إنّه وفقاً لطبيعة الإسلام وما به من بذور للتمرد والتغيير، بجانب مكانة الدين في المجتمع وقدرته على التأثير وتزايد الاتجاه نحو التدين، بجانب أيضاً الخطاب الديني الحركي الذي يحث على التمرد؛ فإنّ محفزات التغيير والثورة تكون متوفرة، لكن يخفف من أثر ذلك الخبرة الناتجة من تجربة الربيع العربي وعدم الرغبة في تكرار آثارها بجانب سوء الأوضاع الاقتصادية والخوف من تفاقمها بصورة أكبر، ويبقى المعيار الحاسم هنا ما أطلق عليه الدكتور أحمد زايد في دراسته المشار إليها هنا "عتبة الصبر"، وهو افتقاد الناس إلى الحد الأدنى من الاحتياجات المعيشية ومن اليقين ومن الطمأنينة، هنا من الممكن أن تتغير وظيفة التدين من المساهمة في التكيف إلى الدفع نحو التمرد.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية