وأنا أيضاً سأعلن "وفاة العرب"!

وأنا أيضاً سأعلن "وفاة العرب"!


05/03/2018

ألّا تخرج أية مظاهرة في أية عاصمة أو مدينة ناطقة بالضاد ضد أبشع وأقذر جريمة ومحرقة تجري وقائعها في "الغوطة الشرقية" بدمشق، فهذا أمرٌ غير مستهجن، ولا يدعو إلى الإدانة، والتنابز بالألقاب، فقد سقطت الألقاب، وتشظت الهيبات، وتمرّغت الكرامة القومية بالوحل، منذ زمن بعيد. وشاء نزار قبّاني أن يؤرّخ ذلك الزمن بهزيمة حزيران (يونيو) 1967، فكتب "هوامش على دفتر النكسة" لكنّ الجرح المفتوح على الخيبات يمتدّ إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وهو ما يقرّ به شاعر الحب والياسمين:

"إذا خسرنا الحربَ لا غرابة

لأننا ندخُلها..

بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابة

بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابة

لأننا ندخلها..

بمنطقِ الطبلةِ والربابة".

فالسر في مأساتنا

"صراخنا أضخمُ من أصواتنا

وسيفُنا أطولُ من قاماتنا".

وبكل ما في الكون من أسى ومرارة، كتب الشاعر كلماته، وجاءت مشحونة بالغضب، وهجاء العرب، لأننا:

سأحدّث قباني، لو التقيته، عن أنباء أطفال "الغوطة الشرقية" ونسائها وشيوخها الذين راح عرب كثيرون يشمتون بموتهم

"نركضُ في الشوارعِ

نحملُ تحتَ إبطنا الحبالا..

نمارسُ السَحْلَ بلا تبصُّرٍ

نحطّمُ الزجاجَ والأقفالا..

نمدحُ كالضفادعِ

نشتمُ كالضفادعِ

نجعلُ من أقزامنا أبطالا..

نجعلُ من أشرافنا أنذالا..

نرتجلُ البطولةَ ارتجالا..

نقعدُ في الجوامعِ..

تنابلاً.. كُسالى

نشطرُ الأبياتَ، أو نؤلّفُ الأمثالا..

ونشحذُ النصرَ على عدوِّنا..

من عندهِ تعالى...".

كان عمري عاماً واحداً، عندما خطّ قبّاني هذه القصيدة المزلزلة. وعلمتُ عندما وعيتُ بأنّ الكثيرين تعاملوا مع هذا الشعر باعتباره مخدّراً، وكثيرون في المقابل عابوا على قبّاني انهزاميته وقلة حيلته ونفاد صبره، مع أنه في نهاية قصيدته لا يعدم الأمل، ويراهن على جيل جديد منقطع الصلة مع أسلافه في تفكيرهم وأنماط عيشهم، وهذا الجيل الذي عناه نزار قبّاني كنتُ واحداً من بين أفراده:

أنا من جيل ما يزال حائراً بين مراودة الأمل المستحيل، وبين إعلان وفاة جديدة للعرب الذين اهترأت مروءتهم

"يا أيُّها الأطفالْ..

من المحيطِ للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ

وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلالْ

ويقتلُ الأفيونَ في رؤوسنا..

ويقتلُ الخيالْ..

يا أيُها الأطفالُ أنتمْ -بعدُ- طيّبونْ

وطاهرونَ، كالندى والثلجِ، طاهرونْ

لا تقرؤوا عن جيلنا المهزومِ يا أطفالْ

فنحنُ خائبونْ..

ونحنُ، مثلَ قشرةِ البطيخِ، تافهونْ

ونحنُ منخورونَ.. منخورونَ.. كالنعالْ

لا تقرؤوا أخبارَنا

لا تقتفوا آثارنا

لا تقبلوا أفكارنا

فنحنُ جيلُ القيءِ، والزُّهريِّ، والسعالْ

ونحنُ جيلُ الدجْلِ، والرقصِ على الحبالْ

يا أيها الأطفالْ:

يا مطرَ الربيعِ.. يا سنابلَ الآمالْ

أنتمْ بذورُ الخصبِ في حياتنا العقيمة

وأنتمُ الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمة...".

وشرعنا، نحن الذين كنا أطفالاً، في انتظار بزوغ شمس النصر، وملأنا الصدور بأنفاس الحرية، وحاولنا هزيمة المستحيل والهزيمة، فانخرطنا في العمل السياسي والحزبي، ونظّمنا المظاهرات، ووقفنا في وجه السلطات الغاشمة محتجين ومعتصمين، وكنا نظن أنّ الناس، الذين ندافع عن آلامهم ومطالبهم، سيقفون إلى جانبنا ويسوّروننا بأذرعهم، وبكل ما لديهم من لهفة وحماسة، لكنّ الناس لاذت بالخوف، وأغلقت بيوتها بالمتاريس، وقطعت ألسنتها، وتركتنا في مهب العسس والكلاب والبوليس.

صار الحلم "أضيق من مرور الرمح في خصر نحيل"، وأضحت الخسارات عنواناً لجيلنا؛ جيل النكبة والمرارة. وكلما حاولنا دفع قاطرة الأمل إلى الأمام مُنينا بهزيمة جديدة، حتى بلغ الأمر بنا إلى أن نكون وحيدين في الشارع العام، نرفع الرايات، ونهدر بأصواتنا المبحوحة ونُعتقل، بينما الناس، الذين ندافع عن حقوقهم، يرقبوننا من وراء النوافذ، ولا يهرعون إلى تخليصنا من أنياب هراوة الشرطي التي تنهال على رؤوسنا، ولا "يفزعون" إلى تأمين ملاذ لنا ونحن مطاردون بكلاب الأمن وعواء صافرات الإنذار.

لحظتذاك، أدركنا أنّ ثمة شيئاً مات في قلوب الناس؛ أكثرِ الناس. مات الحس الأخلاقي بفعل الذعر حيناً، وبأنانية النجاة الفردية أحايين كثيرة، كأن لسان هؤلاء: اللهم نفسي وأسرتي، ولتذهب القضية إلى الجحيم، إلى آخر مسلسل التبرير الذي يتقنه العرب ببراعة وبلاغة.

بعد مرور واحد وثلاثين عاماً على كتابة "هوامش على دفتر النكسة" التي عوّل قبّاني في ختامها على "مطر الربيع" و"سنابل الآمال" و"الجيل الذي سيكسرُ الأغلال"، كان العرب قد سجّلوا أرقاماً قياسية في الهزائم والخسارات والانشطارات والحروب البينيّة، وصارت الدول محض طوائف ينخر عودَها السوسُ. آنذاك، وتحديداً في عام 1998، وهو العام الذي شهد رحيل الشاعر نزار قباني، كانت القصيدة التأبينيّة "متى يعلنون وفاة العرب؟" التي أسدلت الستار على الأحلام:

"أنا منذ خمسينَ عاماً،

أراقبُ حال العربْ.

وهم يرعدونَ، ولايمُطرونْ...

وهم يدخلون الحروب، ولايخرجونْ...

وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا

ولا يهضمونْ...".

مات الشاعر وفي قلبه غصة. ربما كان يراهن، قبل قصيدته هذه بثلاثين عاماً على جيل جديد هادر ممتدّ من المحيط إلى الخليج. لكنّ هذا الجيل، الذي أنا منه، وبعد أكثر من عشرين عاماً على رحيل نزار قبّاني، وما يزال حائراً بين مراودة الأمل المستحيل، وبين إعلان وفاة جديدة للعرب الذين تجمّدت أحاسيسهم، واهترأت مروءتهم، وماتت فيهم مشاعر التضامن الإنساني مع أشقاء لهم، يذوّب الكيماوي وغاز الخردل والكلور أجسادهم وأنفاسهم، وتثقب صرخاتهم سقف السماء، فلا من معتصم، ولا مَن يحزنون.

كنا نظن أنّ الناس، الذين ندافع عن آلامهم سيقفون إلى جانبنا ويسوّروننا بأذرعهم، لكنّ الناس لاذت بالخوف

سأحدّث قباني، لو التقيته، عن أنباء أطفال "الغوطة الشرقية" ونسائها وشيوخها الذين راح عرب كثيرون يشمتون بموتهم، ويتمنون أن يكون إبادة ساحقة لا تُبقي ولا تذر. وسأحدثه أيضاً عن أطفال ينامون في القبور خشية قصف الطائرات التي يقودها مرتزقة وعديمو الرأفة من كل جنس وعِرق. سأحدّث الشاعر عن كل شيء، وسأقول له إنه كان حق، وصاحب بصيرة؛ إذ نفض يديه من أمة العرب. وسأهتف معه من جديد:

"أنا... بعْدَ خمسين عاماً

أحاول تسجيل ما قد رأيتْ...

رأيتُ شعوباً تظنّ بأنّ رجالَ المباحثِ

أمْرٌ من الله... مثلَ الصُداعِ... ومثل الزُكامْ...

ومثلَ الجُذامِ... ومثل الجَرَبْ...

رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ...

ولكنني... ما رأيتُ العَرَبْ!!".

الصفحة الرئيسية