حركة الطباعة والنشر في تونس.. نضال الكلمة والتنوير

تونس

حركة الطباعة والنشر في تونس.. نضال الكلمة والتنوير


28/11/2017

لئن كان كثير من الباحثين يؤكد أنّ الطباعة العربية قد بدأت في أوروبا بداية من القرن السادس عشر، ويثبت اقتران ذلك بحملات "التنصير" التي اقتضت تصميم مطابع بإمكانها رسم الأحرف العربية، فإنّ أول مطبعة عربية قد ظهرت متأخرة عن ذلك بزمن بعيد؛ فبعد قرابة قرن من الزمن ظهرت أول مطبعة عربية في لبنان العام 1606 وعرفت باسم المطبعة المارونية، ثم تتالى ظهور المطابع في البلدان العربية، وبدأت المطبعة الرسمية التونسية في العمل العام 1860 في عهد محمد الصادق باي، وظلت المطبعة الوحيدة لمدة 22 عاماً، ثم تعددت المطابع بعدها وعرفت غزارة إنتاج شيئاً فشيئاً.
الخطوات الأولى للطباعة
وتذكر "الموسوعة التونسية المفتوحة" أنّ ظهور المطبعة الرسمية في تونس قد ارتبط بضرورة نشر النصوص التشريعية: "ارتبط تاريخ المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية بنشر النصوص التشريعية للدولة التونسية؛ إذ صدر أول عدد من جريدة "الرائد التونسي" في 22 تموز (يوليو) 1860 بافتتاحية حررها المصلح الحداثي الشّيخ محمود بن محمّد بن محمّد بن عمر قابادو، وأبرز فيها دور الطباعة والنشر في الرقي بالأمم، وأشرف على تحريرها الجنرال حسين رجل الإصلاح التحديثي الثّاني بعد خير الدّين التونسي، وانتدب لها أقلاماً من خيرة المثقفين والمفكرين التونسيين.

ظهرت الطباعة بتونس مطلع القرن الـ19 في أول مطبعة حجرية كان أهداها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لحمودة باشا العام 1806

غير أنّ ظهور المطبعة في تونس الأول كان قبل ذلك بأكثر من نصف قرن؛ إذ ورد في الموسوعة التونسية المفتوحة: "ظهرت الطباعة في تونس في مطلع القرن الـ19 في أول مطبعة حجرية كان أهداها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لحمودة باشا العام 1806 مع السفينة الحربية فرنكلن (Franklin) التي نقلت وفد السفارة برئاسة سليمان ململّي إلى تونس"، وترجح الموسوعة أنّ هذه المطبعة هي التي صدرت عنها أولى الأوراق النقدية التونسية. ولما برزت الحاجة إلى طباعة قانون "عهد الأمان" الصادر العام 1857 تولى محمد الصادق باي تطوير المطبعة الحجرية بآلات فرنسية، وزودها بحروف حديدية، "وكان أوّل مطبوعاتها نصّ عهد الأمان على ورقة واحدة وزّعت في حفل مشهود بقصر باردو يوم 10 أيلول (سبتمبر) 1857، وكان ثانيها لائحة التراتيب الداخلية، وثالثها عهد الأمان مع شرحه".

ارتبط ظهور المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية بنشر النصوص التشريعية للدولة

أما أول مطبعة خاصة فقد تأسست العام 1826 في العاصمة تحت اسم "مطبعة فنزي Finzi" لعائلة إيطالية هاجرت إلى تونس واستقرت فيها، وصدرت عنها جريدة "Corriere di Tunisi" ولها اليوم موقع على شبكة الإنترنت.
وفي كتابه "صفحات من تاريخ تونس" عدّد محمد بن الخوجة قرابة سبعين كتاباً صدرت عن المطبعة منذ إطلاقها رسمياً إلى حدود العام 1882، ومنها كتب قانونية وأدبية وفكرية وتراثية ودينية وغيرها. وأرجع الكاتب تاريخ ظهور أول مكتبة عمومية إلى مدينة القيروان في عهد دولة الأغالبة "وكان بها من نفائس الكتب ما لا يقدر بمال، وأغلبها منسوخ على رق الغزال، ومنها المصاحف الجليلة المزركشة والمزوقة بالذهب الوهاج، منها مصحف فاطمة حاضنة باديس، ومازالت منها بقية بجامع عقبة بن نافع لهذا اليوم".

تحت رقابة الاستعمار
ومع انتصاب الحماية الفرنسية بتونس العام 1881 تغيرت معطيات كثيرة وصار النشر يخضع لرقابة شديدة من المستعمر الذي وضع يده على عالم الصحافة والنشر بإصدار قانون الصحافة العام 1884، واشترط ضماناً مالياً لإصدار الصحف، ربما لمعرفته بقيمتها في التأثير في الرأي العام وتوجيهه. ومن ناحية أخرى ازدادت حاجة التونسيين إلى إصدار المجلات والكتب والدوريات والجرائد لبث الأفكار التنويرية التحررية وخدمة للمشروع التقدمي الذي كان قد بدئ قبل ذلك التاريخ بتأسيس المدارس العصرية وإصدار القوانين الحديثة مثل دستور "عهد الأمان" – الأول من نوعه في البلاد العربية-  وإلغاء الرق.

بدأت المطبعة الرسمية التونسية العمل العام 1860 في عهد محمد الصادق باي وظلت الوحيدة لمدة 22 عاماً

صدرت عشرات الصحف والجرائد ونشطت حركة النشر على أوسع نطاق مع بدايات القرن العشرين، فظهرت جريدة "الحاضرة" وجريدة "التونسي" بالفرنسية العام 1907، وجريدة "الزهرة" التي انتقدت الاستعمار وفضحت نواياه ونددت بأعماله في البلاد، ومنها جريدة "الصواب" وجريدة "العمل التونسي" و"النهضة" و"صوت التونسي" و"الإرادة" والعديد من الصحف الساخرة مثل "النديم"، كما ظهرت مجلة العالم الأدبي العام 1930 على يد زين العابدين السنوسي التي كتب فيها أبو القاسم الشابي ومحمد الحليوي وغيرهما من الأدباء التونسيين، إلى جانب عدد مهم من الكتب التي تعد علامات في تاريخ الأدب والفكر التونسيين؛ مثل كتب المؤرخ التونسي المعروف حسن حسني عبد الوهاب الذي أصدر كتابه "خلاصة تاريخ تونس" العام 1914، ونشر المصلح الشهير الطاهر الحداد كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" العام 1930 الذي ثار فيه على التصورات التبسيطية للدين، ودعا إلى المساواة في الميراث بين المرأة والرجل وانتقد تعدد الزوجات، ونشر الشابي في الفترة نفسها كتابه "الخيال الشعري عند العرب"، وأثار الكتابان هجمة شرسة وتمت إدانتهما إدانة واسعة عبر الجرائد والكتب.
بين الاستقلال والاستبداد
غداة الاستقلال كانت الدولة الحديثة تتلمس أولى خطاها نحو بقعة ضوء تبدو بعيدة ولكنها لم تكن مستحيلة، فراهنت على التعليم ووحدته وفرضته وجعلته مجانياً، وانخرطت في بناء المدارس على نطاق واسع. وكان الاعتماد على قطاع النشر كبيراً، بوصفه الأداة التي ستنشر المعرفة، فأسست الدولة دار نشر هي "الدار التونسية للنشر" العام 1966، والشركة التونسية للتوزيع، وقد صدرت عنهما مئات الكتب في الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ والفن والمسرح والدين والنقد لأشهر كتاب تونس ومثقفيها ومفكريها، غير أنهما توقفتا عن العمل في نهاية ثمانينيات القرن العشرين وبداية التسعينيات.

أول مطبعة تونسية خاصة تأسست العام 1826 في العاصمة تحت اسم "مطبعة فنزي Finzi"

صارت الكلمة بعد ذلك لدور نشر خاصة بدأت بالظهور بنسق بطيء جداً لما كان يفرضه النظام السابق من قيود على حرية النشر والصحافة، وما يرهق به التونسيين من قمع للآراء والأفكار. وقد بلغت حركة النشر أوجها غداة الثورة نهاية العام 2010، فظهرت دور نشر خاصة فتية إلى العلن وطبعت مئات الكتب في اختصاصات مختلفة حتى صارت تونس الخامسة إفريقياً في طباعة الكتاب ونشره في العام 2017 حسب إحصائيات أعدها موقع "بوك ستار" البريطاني.
إشكالية الكم والنوع
وبينت الإحصائية أن تونس تصدر 720 عنواناً سنوياً، وهي إحصائية لم تهتم سوى بالكم دون الكيف والجودة، ولكنها تبين قيمة المنشورات والتطور العددي للكتب المنشورة سنوياً، رغم أنها صادرة فقط عن القطاع الخاص. وقال رئيس اتحاد الناشرين التونسيين محمد صالح معالج في في تصريح نقله موقع "كابيتاليس" في تشرين الأول (أكتوبر) 2017 إنّ الدولة يجب أن "تغير استراتيجيتها في مجال الكتاب، وأن تكثّف دعمها لهذا القطاع من خلال تدخلها لإحداث مكتبات وشركات توزيع في إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص". وتابع "من غير الطبيعي أن نجد عشر مكتبات متخصصة في بيع الكتاب الثقافي في كامل تراب الجمهورية التي تعد 11 مليون ساكن" على حد تعبيره.

مثّل قطاع النشر بتونس صمام أمان ضد أفكار التطرف واضطلع بدور محوري بنشر ثقافة تقدمية منفتحة تراهن على الفكر والمعرفة والحداثة

لئن مثّل قطاع النشر في تونس صمام أمان ضد أفكار التطرف، واضطلع بدور محوري في نشر ثقافة تقدمية منفتحة تراهن على الفكر والمعرفة والحداثة، ودفع لبلوغ هذه الطفرة التي يشهدها الآن في مستوى الكم، فإنّ تحديات كبيرة تحتم عليه تجديد وسائل العمل وتطوير ذاته، والعمل على انتشار الكتاب التونسي عربياً وعالمياً لسد الطريق أمام كتب التطرف وإن بطريقة غير مباشرة. كما أنّ على الدولة تحمل مسؤولياتها في دعم الكتاب والكُتاب والتعريف بمنتجهم عبر عقد شراكات مع مؤسسات ودور نشر أوروبية، ورصد التمويلات الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف.

الصفحة الرئيسية