جميلة بوحيرد: أيقونة الثورة التي هزّت عرش فرنسا

جميلة بوحيرد: أيقونة الثورة التي هزّت عرش فرنسا


08/03/2018

عندما يسقط ذاك العلم الأسمر في تربة وهران مدمى

وهلال المفرق الأنور في التلة يطوى، ثم يرمى

عندما تبرق عينان ...نجوماً مشرقية

وترفان كطيرين جريحين على عشب وماء

عندما يشحب خدّان نديان، ولا يستفهم ثغر

ويكون الموت أحلى، وهو مرّ.

*من قصيدة "جميلة علم وهران"  للشاعر المصري صلاح عبدالصبور.

حفِل التاريخ البشري، ببطولات الرجال ومآثرهم، فخلدّ ذكراهم، فكان التاريخ حكراً لهم فعلاً وكتابةً، ولم يتسنّ لامرأة أن تكتب تاريخ بطولات النساء، اللاتي لم يقِل دورهن جسارة عن الرجال في مختلف مناحي الحياة، حتى أطلّت تلك الزهرة الجزائرية "جميلة بوحيرد"، تصنع وتكتب تاريخاً جديداً للنساء، وتتربع على عرش النضال والشعر والفن، كما لم تفعل امرأة قبلها، جميلة الجزائر، وصرخة الحرية، ومحررة الأوطان، كما وصفها الشعراء العرب.

كانت تهتف في الطابور المدرسيّ "الجزائر أمنا" بينما يهتف بقية الطلاب "فرنسا أمنا"

هوية النضال

وقعت الجزائر أسيرة الاحتلال الفرنسي منذ عام 1830، لمدة 132 عاماً، سُلبت فيها حُرية الجزائريين، ووقع فيها الشهداء، حتى صارت بلد "المليون شهيد"، واستمر نضال الشعب ضد الاحتلال، حتى الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، من العام 1954، انتفض الشعب الجزائري بثورته ضد الاحتلال، والتي أتت ثمارها في العام 1962، حتى حصلت الجزائر على استقلالها، في ذلك الوقت كانت الشابة الجزائرية "جميلة بوحيرد"، لأم تونسية، تستقي من والدتها حب الوطن، والتوق إلى الحرية.

وعلى الرغم من التحاقها بالمدارس الفرنسية، وعدم معرفتها باللغة العربية، إلا أنّ نزعتها المتمردة تبلورت منذ أن كانت في سنوات تعليمها الأولى، حينما تهتف في الطابور المدرسيّ "الجزائر أمنا"، بينما يهتف بقية الطلاب "فرنسا أمنا"، وهو ما يرويه عن رحلة نضالها الكاتب وأستاذ اللغة العربية الجزائري "شريبط أحمد شريبط"، في كتابه "جميلة بوحيرد"، الذي أرّخَ فيه لحياتها، وجمع كل ما كتبه الشعر العربي الذي توّج جميلة كما لم يتوّج امرأة قط.

أثنت جميلة بوحيرد لدى زيارتها أسوان مؤخراً على مصر وشعبها، قائلة: إنّ الشعب المصري شعب عظيم وكريم

التحقت جميلة بصفوف المجاهدين في الثورة الجزائرية الذين بلَغ قوامهم في بدء اندلاع الانتفاضة 1200 مجاهد، يمتلكون 400 قطعة من السلاح، فكانت مسؤولة زرع القنابل في معسكرات الاحتلال، وفي محاولة القضاء على الثورة يُعتقل أبرز رموزها، رمضان بن عبدالمالك، بالقرب من جبال ولاية مستغانم، ولم يُضعف ذلك من إرادة الثوار، ليتبلور نضال بوحيرد في العام 1957، حين أصابها المُحتل الفرنسي برصاصة في كتفها، أثناء زرع قنابل بأحد مقاهي الفرنسيين، ليتم اعتقالها على الفور، واتهامها بإلقاء قنابل على مقاهٍ فرنسية في العاصمة الجزائرية، أودت بحياة ثلاثة من الجنود، وتقع جميلة قيد الاعتقال، الذي مثّل انتفاضة شعبية وعالمية أخرى في وجه المُحتل الفرنسي.

فيلم "رياح الأوراس" رصد معاناة الشعب الجزائري من احتلال دام قرابة قرن ونصف القرن

ملحمة الأوراس

أحد أهم كلاسيكيات السينما الجزائرية التي تم إنتاجها، إبان تحرير الجزائر عام 1966، فيلم "رياح الأوراس، المُوقّع من المخرج "محمد الأخضر حمينة"، الذي رصد معاناة الشعب الجزائري من احتلال دام قرابة قرن ونصف القرن، وكان تتويجاً لمعركة جبال الأوراس التي بدأت فيها المواجهات العنيفة من قِبل الجيش الفرنسي، الذي قام بتمشيط جبال الأوراس، وقتل أحد مفجري الثورة "مراد ديدوش"، بعد معركة بدوار الصوادق، في الوقت الذي تحتدم فيه المعارك على الجبهة، بين جيش الاحتلال والثوار، كانت بوحيرد، تعاني التعذيب في السجن؛ حيث تعرضت للصعق الكهربائي، بشكل يومي، لتعترف على زملائها، وحين عجز المحتلون عن نزع الاعترافات منها، قرروا إحالتها للمحاكمة، التي علم الجميع نتيجتها مسبقاً، بعد عام من التعذيب ويأس سلطة الاحتلال من إخضاع جميلة بوحيرد، أحالوها للقضاء العسكري، وأثناء الجلسة التي حكم فيها بالإعدام على جميلة، انطلقت ضحكتها عالياً، لتصرخ في القضاه قائلة: "أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام، لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة"، ليهتز العالم أمام هذا الحُكم الغاشم من السلطات الفرنسية بحق جميلة، وتصبح حديث الأمم، يتغنى بها الشعراء، ويتصارع على تأريخ نضالها السينمائيون، وتتوّج عروساً للشعر العربي، وقديسة الشعراء.

ظل احتفاء الشعراء والفنانين بالمناضلة بوحيرد، متواصلاً، حتى بعد الرجوع عن حُكم الإعدام الذي أصدرته قوات الاحتلال الفرنسي للجزائر

خبر إعدامها أتى بمثابة صفعة قوية، فغدت حديث العالم آنذاك، بعد أن كانت قبل نضالها فتاة تهوى تصميم الأزياء، وتدرس فن الخياطة والتصميم، وتحب ركوب الخيل، وتمارس الرقص الكلاسيكي، وتعشق الحرية.

لم تتخط جميلة بوحيرد عتبة 22 عاماً حينما صدر قرار إعدامها من قبل محتلّي بلادها، وهو ما دفع العديد من دول العالم والشخصيات السياسية، وجبهات النضال، أن ترسل خطابات استنكار للأمم المتحدة التي اجتمعت لأجل حرية جميلة، وصدر قرار بتأجيل إعدامها، ليصبح حُكماً بالسجن مدى الحياة، ليتم ترحيلها إلى فرنسا، لتنفيذ عقوبة السجن، حتى تخرج مع زملائها بعد التحرير، في العام 1962، لتعود إلى الجزائر، وتستكمل مسيرتها السياسية.

ظل احتفاء الشعراء والفنانين بالمناضلة بوحيرد، متواصلاً، حتى بعد الرجوع عن حُكم الإعدام

المناضلة المُلهمة

استحقت بوحيرد أن تكون قديسة أحمد عبدالمعطي حجازي، في قصيدته بعنوان (قديستي)، حيث قال:" كان اسمها جميلة، أفديه من سمى، الوجه وجه طفلة لم تترك آلاماً، والعين عين ساحرة، مضيئة كحيلة، كأنما اصطادت رموشها الطويلة، من السما نحبها"، ثم جاء نجيب سرور معبراً عن حزنه وقلة حيلته تجاه قضيتها العادلة، ليكتب قصيدته "الجمعة الحزينة"، وهي الجمعة التي حُكم فيها بالإعدام على جميلة بوحيرد فقال: "غفرانك فالعين بصيرة، وذراعي يا أخت قصيرة، جدّ قصيرة، والكف بها كلمات عزاء، لا تُجدي في يوم الجمعة".

ظل احتفاء الشعراء والفنانين بالمناضلة بوحيرد، متواصلاً، حتى بعد الرجوع عن حُكم الإعدام، فكُتبت عريضة من المثقفين المصريين، تطالب بوقف إعدام جميلة، وقعها طه حسين وأم كلثوم، صبري موسى وإحسان عبد القدوس، وطوغان، وقائمة طويلة من المثقفين، انتفضت لأجل بوحيرد، ومن الغرب صرخ جان بول سارتر بكتابه "عارنا الذي في الجزائر"، فكان صفعة قوية من كبار فلاسفة القرن العشرين لبلاده المُستعمِرة، تنتقل جميلة إلى السينما، ليوقِع المخرج العالمي المصري يوسف شاهين في العام 1958 فيلمه (جميلة)، مكللاً نضالها فيصبح الفيلم رسالة موجهة للعالم أجمع، ثم مضى عبدالرحمن الشرقاوي يكتب مسرحيته البديعة "مأساة جميلة".

خرجت جميلة من سجنها لتصبح حرة عام 1962 وتحصل على منصب رئاسة اتحاد المرأة الجزائري بعد الاستقلال

خرجت جميلة من سجنها لتصبح حرة كما وطنها في عام 1962، وتحصل على منصب رئاسة اتحاد المرأة الجزائري بعد الاستقلال، ثم تعتزل السياسة بعد خلافاتها مع الرئيس الراحل أحمد بن بلة.

دافع المحامي الفرنسي الشهير"جاك فيرجيس"، عن جميلة في سجنها، ثم تزوجا بعد خروجها من السجن بعد أن أعلن إسلامه ليصبح اسمه (منصور)، وينجب منها طفلين. وارتحل عن عالمنا في 2013 عن عمر يناهز 88 عاماً.

ولحظة حلت جميلة بوحيرد قبل أيام ضيفة على مسرح أسوان السينمائي الذي خصص لرصد نضالات النساء، قالت إنّ "الشعب المصري شعب عظيم وكريم"، مضيفة أنها تتذكر دائماً تضامن الشعب المصري مع قضية الشعب الجزائري وثورته ضد الاحتلال الفرنسي، وتكريمها من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية